ما يرجع إلى المرأة ـ القسم الأول .
فصل : و أما الذي يرجع إلى المرأة فمنها : الملك أو علقة من علائقه فلا يصح الطلاق إلا في الملك أو في علقة من علائق الملك و هي عدة الطلاق أو مضافا إلى الملك و جملة الكلام فيه أن الطلاق لا يخلو إما أن يكون تنجيزا و إما أن يكون تعليقا بشرط و إما أن يكون إضافة إلى وقت .
أما التنجيز في غير الملك و العدة فباطل بأن قال لامرأة أجنبية أنت طالق أو طلقتك لأنه إبطال الحل و رفع القيد و لا حل و لا قيد في الأجنبية فلا يتصور إبطاله و رفعه و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا طلاق قبل النكاح ] و إن كانت منكوحة الغير وقف على إجازته عندنا خلافا للشافعي و المسألة تأتي في كتاب البيوع .
و أما التعليق بشرط فنوعان تعليق في الملك و تعليق بالملك و التعليق في الملك نوعان حقيقي و حكمي أما الحقيقي فنحو أن يقول لامرأته إن دخلت هذه الدار فأنت طالق أو إن كلمت فلانا أو إن قدم فلان و نحو ذلك و إنه صحيح بلا خلاف لأن الملك موجود في الحال فالظاهر بقاؤه إلى وقت وجود الشرط فكان الجزاء غالب الوجود عند وجود الشرط فيحصل ما هو المقصود من اليمين و هو التقوي على الإمتناع من تحصيل الشرط فصحت اليمين ثم إن وجد الشرط و المرأة في ملكه أو في العدة يقع الطلاق و إلا فلا يقع الطلاق و لكن تنحل لا إلى جزاء حتى إنه لو قال لامرأته إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فدخلت الدار و هي في ملكه طلقت و كذا إذا أبانها قبل دخول الدار فدخلت الدار و هي في العدة عندنا لأن المبانة يلحقها صريح الطلاق عندنا و إن أبانها قبل دخول الدار و انقضت عدتها ثم دخلت الدار لا يقع الطلاق لعدم الملك و العدة و لكن تبطل اليمين حتى لو تزوجها ثانيا و دخلت الدار لا يقع شيء لأن المعلق بالشرط يصير عند الشرط كالمنجز و التنجيز في غير الملك و العدة باطل .
فإن قيل : أليس أن الصحيح إذا قال لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق ثم جن فدخلت الدار إنه الدار إنه يقع طلاقه و لو نجز في تلك الحالة لا يقع فالجواب من وجهين : .
أحدهما : أن التطليق كلامه السابق عند الشرط فتعتبر الأهلية وقت وجوده و قد وجدت .
و الثاني : أنا إنما اعتبرناه تنجيزا حكما و تقديرا و المجنون من أهل أن يقع الطلاق على إمرأته بطريق الحكم فإن العنين إذا أجل فمضت المدة و قد جن يفرق القاضي بينهما و يكون ذلك طلاقا فاطرد الكلام بحمد الله تعالى و لو أبانها قبل دخول الدار و لم تدخل الدار حتى تزوجها ثم دخلت يقع الطلاق لأن اليمين لم تبطل بالإبانة لأنه يتصور عود الملك فما قامت الجزاء على وجه لا يتصور عوده و لو قال لإمرأته إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثلاثا فطلقها واحدة أو اثنتين قبل دخول الدار فتزوجت بزوج آخر و دخل بها ثم عادت إلى الزوج الأول فدخلت طلقت ثلاثا في قول أبي حنيفة و أبي يوسف و عند محمد هي طالق ما بقي من الطلقات الثلاث شيء .
و أصل هذه المسألة : أن من طلق امرأته واحدة أو اثنتين ثم تزوجت بزوج آخر و دخل بها و عادت إلى الأول أنها تعود بثلاث تطليقات في قولهما و في قول محمد تعود بما بقي و هو قول زفر .
و لقب المسألة أن الزواج الثاني هل يهدم الطلقة و الطلقتين عندهما يهدم و عند محمد لا يهدم و المسألة مختلفة بين الصحابة Bهم روي عن علي و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر Bهم مثل أبي حنيفة و أبي يوسف .
و روى عن عمر و أبي كعب و عمران بن حصين مثل مذهب محمد و زفر و احتجا بقوله سبحانه و تعالى : { الطلاق مرتان } إلى قوله : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } حرم المطلقة الثلاث مطلقا من غير فصل بين ما إذا تخللت إصابة الزوج الثاني الثلاث و بين ما إذا لم يتخللها و هذه مطلقة الثلاث حقيقة لأن هذه طلقة قد سبقها طلقتان حقيقة الثالثة هي الطلقة التي سبقها طلقتان فدخلت تحت النص و لأن الزوج الثاني جعل في الشرع منهيا للحرمة لقوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } و حتى كلمة غاية و غاية الحرمة لا تتصور قبل وجود الحرمة و الحرمة لم تثبت قبل الطلقات الثلاث فلم يكن الزوج الثاني منهيا للحرمة فيلحق بالعدم .
و لأبي حنيفة و أبي يوسف النصوص و المعقول : أما النصوص فالعمومات الوارة في باب النكاح من نحو قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } و قوله عز و جل : { و أنكحوا الأيامى منكم } .
و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ تزوجوا و لا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن ] فهذه النصوص و أمثالها تقتضي جواز النكاح من غير فصل بين أن تكون المرأة مطلقة أو لا و بين أن تكون مطلقة ثلاثا تخللها إصابة الزوج الثاني أو لا إلا أن المطلقة الثلاث التي لم يتخللها إصابة الثاني خصت عن النصوص فبقي ما وراءها تحتها .
و أما المعقول فمن وجهين : .
أحدهما : أن النكاح مندوب و عقد مصلحة لتضمنه مصالح الدين و الدنيا فلا يجوز أن يمنع عنه لأنه يؤدي إلى التناقض لأن قطع المصلحة مفسدة و الشريعة منزهة عن التناقض إلا أنه قد يخرج من أن يكون مصلحة بمخالفة الأخلاق و مباينة الطباع أو غير ذلك من المعاني و يقع اليأس عن استيفاء المصالح من هذه المرأة فشرع الطلاق لاستيفاء المصالح المطلوبة من النكاح من زوجة أخرى إلا أن خروج النكاح من أن يكون مصلحة لا يعرف إلا بالتأمل و التجربة و لهذا فوض الطلاق إلى الزوج لاختصاصه بكمال الرأي و العقل ليتأمل فإذا طلقها ثلاثا على ظن المخالفة ثم مال قلبه إليها حتى تزوجها بعد إصابة الزوج الثاني الذي هو في غاية النفار في طباع الفحل و نهاية المنع دل أن طريق الموافقة بينهما قائم و أنه أخطأ في التجربة و قصر في التأمل فبقي النكاح مصلحة لقيام بينهما فلا يجوز القول بحرمته كما في ابتداء النكاح بل أولى لأن ثمة لم يوجد إلا دليل أصل الموافقة و ههنا وجد دليل كمال الموافقة و هو الميل إليها مع وجود ما هو النهاية في النفرة .
ثم لما حل نكاحها في الإبتداء لتحقيق المقاصد فبعد إصابة الزوج الثاني أولى و هذا المعنى لا يوجب التفرقة بين إصابة الزوج الثاني بعد الطلقات الثلاث و بين ما قبلها فورود الشرع ثمة يكون ورودا ههنا دلالة .
و الثاني : ان الحل بعد إصابة الزوج الثاني و طلاقه إياها و انقضاء عدتها حل جديد و الحل الجديد لا يزول إلا بثلاث طلقات كما في ابتداء النكاح .
و الدليل على هذا حل جديد أن الحل الأول قد زال حقيقة لأنه عرض لا يتصور بقاؤه إلا أنه إذا لم يتخلل بين الحلين حرمة يجعل كالدائم يتجدد أمثاله فيكون كشيء واحد فكان زائلا حقيقة و تقديرا فكان الثاني حلا جديدا و الحل الجديد لا يزول إلا بثلاث تطليقات كما في ابتداء النكاح .
و أما في قوله تعالى : { فإن طلقها } فنقول هذه الآية الكريمة تتناول طلقة ثالثة مسبوقة بطلقتين بلا فصل لأن الفاء للتعقيب بلا فصل و إصابة الزوج الثاني ههنا حاصلة فلا يتناولها أو تحمل الآية على ما إذا لم يدخل بها الزوج الثاني حتى طلقها و تزوجها الأول و طلقها واحدة توفيقا بين الدلائل .
و أما قوله : بأن الشرع جعل إصابة الزوج الثاني غاية للحرمة فنقول : كون الإصابة غاية للحرمة يقتضي انتهاء الحرمة عند عدم الإصابة و قد بينا أنه يثبت حل جديد بعد الإصابة و لو قال لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا فطلقها ثلاثا قبل الدخول و تزوجت بزوج و دخل بها ثم عادت إلى الأول فدخلت الدار لا يقع عليها شيء عند علمائنا الثلاثة و عند زفر يقع عليها ثلاث تطليقات وجه قوله : أن المعلق طلقات مطلقة لا مقيدة بالحل القائم لأن الحالف أطلق و ما قيد و الحل القائم إن بطل بالتنجيز فقد وجد حل آخر فكان التعليق باقيا و قد وجد الملك عند وجود الشرط فينزل المعلق كما إذا قال لامرأته إن دخلت هذه الدر فأنت علي كظهر أمي ثم طلقها ثلاثا قبل الدخول يبقى تعليق الظهار بالدخول حتى لو تزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الزوج الأول فدخلت الدار يصير مظاهرا لما ذكرنا كذا هذا .
و لنا : أن المعلق طلقات الحل القائم للحال و قد بطل على وجه لا يتصور عوده فلا يتصور الطلاق المبطل للحل القائم عند وجود الشرط فتبقى اليمين كما إذا صار الشرط بحال لا يتصور عوده بأن جعل الدار بستانا أو حماما و الدليل على أن المعلق طلقات هذا الحل أن المعلق طلاق مانع من تحصيل الشرط لأن الغرض من مثل هذه اليمين التقوي على الامتناع من تحصيل الشرط و المنع لا يحصل إلا بكونه غالب الوجود عند وجود الشرط و ذلك هو الحل القائم للحال لأنه موجود للحال فالظاهر بقاؤه فيصلح مانعا و الذي يحدث بعد إصابة الزوج الثاني عدم للحال فالظاهر بقاؤه على العدم فكان غالب العدم عند وجود الشرط فلا يصلح إطلاقه مانعا فلا يكون معلقا بالشرط ما لا يكون معلقا به .
و أما قوله : الحالف أطلق فنعم لكنه أراد به المقيد عرفنا ذلك بدلالة الغرض المطلوب من التصرف و هو التقوي على الإمتناع و ذلك لا يحصل إلا بتطليقات هذا الحل فيتقيد بها .
و أما مسألة الظهار ففيها اختلاف الرواية روى أبو طاهر الدباس عن أصحابنا : أنه يبطل بتنجيز الثلاث فلا يصير مظاهرا عند دخول الدار ثم ما ذكرنا من اعتبار الملك أو العدة لوقوع الطلاق في الملك بشرط واحد فإن كان بشرطين هل يشترط قيام الملك أو العدة عند وجود الشرطين جميعا ؟ .
قال أصحابنا الثلاثة : لا يشترط بل الشرط قيام الملك أو العدة عند وجود الشرط الأخير .
و قال زفر : يشترط قيام الملك عند وجود الشرطين و صورة المسألة إذا قال لامرأته إن كلمت زيدا و عمرا فأنت طالق فطلقها و انقضت عدتها فكلمت زيدا ثم تزوجها فكلمت عمرا طلقت عندنا و عند زفر لا تطلق و إن كان الكلام الأول في الملك و الثاني في غير الملك بأن كلمت زيدا و هي في ملكه ثم طلقها و انقضت عدتها ثم كلمت عمرا لا يقع الطلاق .
وجه قول زفر : إن الحالف جعل كلام زيد و عمرو جميعا شرطا لوقوع الطلاق و وجود جميع الشرط شرط لنزول الجزاء و وقت نزول الجزاء هو وقت نزول الشرط ألا ترى لأنها إذا كلمت أحدهما دون الآخر لا يقع الطلاق فكذا إذا كلمت أحدهما في غير الملك فذلك ملحق بالعدم إذا وجد الشرطان جميعا في غير الملك .
و لنا : أن الملك عند وجود الشرط فيشترط لنزول الجزاء و وقت نزول الجزاء و هو وقت وجود الشرط الأخير فيشترط قيام الملك عنده لا غير و هذا لأن الملك إنما يشترط إما لصحة التعليق أو لثبوت الحكم و هو نزول المعلق و الملك القائم في الوقتين جميعا فأما وقت وجود الشرط الأول فليس وقت التعليق و لا وقت نزول الجزاء فلا معنى لاشتراط الملك عنده و نظير هذا الاختلاف في كتاب الزكاة كمال النصاب في طرفي الحول و نقصانه في أثناء الحول لا يمنع الوجوب عندنا و عنده يشترط الكمال من أول الحول إلى آخره .
و لو قال لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت فلانا يشترط قيام الملك عند وجود الشرط الأول و هو الدخول لأنه جعل الدخول شرط انعقاد اليمين كأنه قال لها عند الدخول إن كلمت فلانا فأنت طالق و اليمين لا تنعقد إلا في الملك أو مضافة إلى الملك فإن كانت في ملكه عند دخول الدار صحت اليمين المتعلقة بالشرط و هو الكلام فإذا كلمت يقع الطلاق و إن لم تكن في ملكه عند الدخول بأن طلقها و انقضت عدتها ثم دخلت الدار لم يصح التعليق لعدم الملك و العدة فلا يقع الطلاق و إن كلمت و إن كان طلقها بعد الدخول بها قبل دخول الدار ثم دخلت الدار و هي في العدة ثم كلمت فلانا و هي في العدة طلقت لأن المعتدة يلحقها صريح الطلاق تنجيزا فيصح تعليق طلاقها أيضا في حال قيام العدة كالزوجة و إذا صح التعليق ووجد شرطه في الملك أو في العدة ينزل المعلق .
و لو قال لامرأته : أنت طالق إن شئت فهذا و قوله : أنت طالق إن دخلت الدار أو إن كلمت فلانا سواء من حيث إنه يقف وقوع الطلاق على مشيئتها كما يقف على دخولها و كلامها إلا أن ذلك تعليق بالشرط و هذا تمليك كقوله أمرك بيدك و اختاري و لهذا اقتصر على المجلس .
و لو حلف لا يحلف لا يحنث لأن الحلف بما سوى الله عز و جل شرط و جزاء و مشيئتها ليست بشرط لأن شرط الطلاق ما جعل علما على الطلاق و هو يكون دليلا على الطلاق من غير أن يكون وجود الطلاق به لأنه ذلك يكون علة لا شرطا و مشيئتها يتعلق بها وجود الطلاق بل هي تطليق منها و كذلك مشيئته بأن قال لها : أنت طالق إن شئت أنا .
ألا ترى إذا قال لامرأته : شئت طلاقك طلقت كما إذا قال طلقت فإن قيل أليس أنه إذا قال لامرأته : أنت طالق إن طلقتك كان تعليقا للطلاق بشرط التطليق حتى لو طلقها يقع المنجز ثم ينزل المعلق و التعليق مما يحصل به الطلاق و مع هذا يصلح شرطا فالجواب أن التنجيز يحصل به الطلاق المنجز لا الطلاق المعلق بل الطلاق المعلق يحصل بغيره فكان التنجيز في حق الطلاق المعلق علما محضا فكان شرطا وكذلك إذا قال لها أنت طالق إن هويت أو أردت أو أحببت أو رضيت فهو مثل قوله إن شئت و يتعلق الطلاق بالخبر عن هذه الأشياء إلا بحقائقها و الأصل أنه متى علق الطلاق بشيء لا يوقف عليه إلا من جهتها يتعلق بإخبارها عنه و متى علق بشيء يوقف عليه من جهة غيرها لا يقبل قولها إلا ببينة و على هذا مسائل إن قال لها إن كنت تحبيني أو تبغضيني فانت طالق أحب أو بغض يقع الطلاق استحسانا و القياس : أن لا يقع .
وجه القياس : أنه علق الطلاق بشرط لا يعلم وجوده فأشبه التعليق بمشيئة الله تعالى .
وجه الاستحسان : أنه علقه بأمر لا يوقف عليه إلا من جهتها فيتعلق بإخبارها عنه كأنه قال لها إن أخبرتيني عن محبتك أو بغضك إياي فأنت طالق و لو نص على ذلك لتعلق بنفس الإخبار كذا هذا .
و على هذا إن قال لها إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار أو كنت تكرهين الجنة فأنت طالق فقالت أحب النار أو أكره الجنة وقع الطلاق لما قلنا و لو قال إن كنت تحبيني بقلبك فأنت طالق فقالت أحبك بقلبي و في قلبها غير ذلك يقع الطلاق في قول أبي حنيفة و أبي يوسف و قال محمد لا يقع .
وجه قوله : أنه لما قيد المحبة بالقلب فقد علق الطلاق بحقيقة المحبة لا بالمخبر عنها فإذا لم يكن في قلبها محبة لم يوجد الشرط فلا يقع الطلاق و لهما أن المحبة و الكراهة لما كانتا من الأمور الباطنة التي لا يوقف عليها إلا من جهتها تعلق الطلاق بنفس الإخبار عنهما دون الحقيقة و قد وجد .
و على هذا إذا قال لها : إن حضت فأنت طالق طلقت حين رأت الدم و استمر إلى ثلاثة أيام لأن الحيض لا يوقف عليه إلا من قبلها فيقبل قولها في ذلك و إذا استمر الدم إلى ثلاثة أيام تبين أن ما رأت كان حيضا من حين وجوده فوقع الطلاق من ذلك الوقت .
و لو قال لها : إن حضت حيضة فأنت طالق لا يقع الطلاق ما لم تحض و تطهر لأن الحيضة اسم للكامل ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه و سلم في سبايا أوطاس : [ ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن و لا الحبالى حتى يستبرأن بحيضة ] و يقع على الكامل حتى يقدر الاستبراء به وكمالها بانقضائها من ذلك باتصال جزء من الطهر بها فكان هذا في الحقائق تعليق الطلاق بالطهر .
و نظيره إذا قال إذا صمت يوما فأنت طالق وقع على صوم كل اليوم و ذلك بدخول أول جزء من الليل فكأنه علق الطلاق بدخول الليل و كذا هذا و كذا إذا قال : إن حضت نصف حيضة فأنت طالق لا تطلق ما لم تحض و تطهر لأن نصف حيضة حيضة كاملة فكأنه قال إذا حضت حيضة و كذا إذا قال إذا حضت سدس حيضة أو ثلث حيضة لما قلنا .
و كذلك إذا قال : إذا حضت نصف حيضة فأنت طالق و إذا حضت نصفها الآخر فأنت طالق لا يقع الطلاق ما لم تحض و تطهر فإذا حاضت و طهرت يقع تطليقتان لأنه علق طلقة بنصف حيضة و نصف حيضة كاملة و علق طلقة أخرى بنصف تلك الحيضة بعينها و هي حيضة كاملة فكان هذا تعليق طلاقين بحيضة واحدة كاملة و كمالها بانقضائها و اتصال الطهر بها و إذا اتصل بها الطهر طلقت تطليقتين و لو قال لها أنت طالق في حيضك أو مع حيضك فحين ما رأت الدم تطلق بشرط أن يستمر بها الدم إلى ثلاثة أيام لأن كلمة في للظرف و الحيض لا يصلح ظرفا للطلاق فيجعل شرطا فصار كأنه قال أنت طالق إذا حضت و كلمة { مع } للمقارنة فيقتضي كون الطلاق مقارنا لحيضها فإذا رايت الدم ثلاثة أيام تبين أن المرئي كان حيضا من حين وجوده فيقع الطلاق من ذلك الوقت .
و لو قال لها : أنت طالق في حيضك أو مع حيضتك فما لم تحض و تطهر لا تطلق لأن الحيضة اسم للكامل و ذلك باتصال الطهر و لو كانت حائضا في هذه الفصول كلها لا يقع ما لم تطهر من هذه الحيضة و تحيض مرة أخرى لأنه جعل الحيض شرطا لوقوع الطلاق ما يكون معدوما على خطر الوجود و هو الحيض الذي يستقبل لا الموجود في الحال فكان هذا تعليق الطلاق بحيض مبتدأ .
و لو قال لها : إذا حضت فأنت طالق و فلانة معك فقالت حضت إن صدقها الزوج يقع الطلاق عليهما جميعا و إن كذبها يقع الطلاق عليها و لا يقع على صاحبتها لأنها أمينة في حق نفسها لا في حق غيرها فثبت حيضها في حقها لا في حق صاحبتها و يجوز أن يكون الكلام الواحد مقبولا في حق شخص غير مقبول في حق شخص آخر كما يجوز أن يكون مقبولا و غير مقبول في حق حكمين مختلفين كشهادة النساء مع الرجال إذا قامت على السرقة إنها تقبل في حق المال و لا تقبل في حق القطع و إذا قال : إذا حضت فامرأتي الآخرى طالق و عبدي حر فقالت قد حضت يقع الطلاق و العتاق إذا صدقها الزوج و إن كذبها لا يقع لما ذكرنا أن إقرارها على غيرها غير مقبول لأنه بمنزلة الشهادة على الغير .
ولو قال : إذا ولدت فأنت طالق فقالت : ولدت لا يقع الطلاق ما لم يصدقها الزوج أو يشهد على الولادة رجلان أو رجل و امرأتان في قول أبي حنيفة و قال أبو يوسف و محمد يقع الطلاق إذا شهدت القابلة الولادة .
وجه قولهما : أن ولادتها قد ثبت بشهادة القابلة لكون النكاح قائما و الولادة تثبت بشهادة القابلة حال قيام النكاح في تعين الولد و فيما هو من لوازمه و هو النسب لمكان الضرورة و الطلاق ليس من لوازم الولادة فلا تثبت الولادة في حق الطلاق بهذه الشهادة .
و لو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق أو إن كلمت فلانا فأنت طالق فقالت دخلت أو كلمت لا يقع الطلاق ما لم يصدقها الزوج أو يشهد على ذلك رجلان أو رجل و امرأتان بالإجماع لأن قولها دخلت أو كلمت إقرار على الغير و هو الزوج بإبطال حقه فكان شهادة على الغير فلا تقبل .
و لو قال لامرأتيه : إذا حضتما فأنتما طالقان أو قال إذا حضتما فأنتما طالقان الأصل في جنس هذه المسائل أن الزوج متى أضاف الشيء الواحد إلى امرأتين و جعل وجوده شرطا لوقوع الطلاق عليهما ينظر إن كان يستحيل وجود ذلك الشيء منهما كان شرطا لوقوع الطلاق عليهما وجوده من أحدهما و إن كان لا يستحيل وجوده منهما جميعا كان وجوده منهما شرطا لوقوع الطلاق عليهما لأن العاقل يجب تصحيحه ما أمكن إن أمكن تصحيحه بطريق الحقيقة يصحح بطريق الحقيقة و إن لم يكن تصحيحه بطريق الحقيقة يصحح بطريق المجاز .
إذا عرف هذا فنقول : إذا قال لامرأتين له إذا حضتما حيضة فأنتما طالقان أو إذا ولدتما ولدا فأنتما طالقان فحاضت إحداهما أو ولدت إحداهما عليهما لأن حيضة واحدة و ولادة واحدة من امرأتين محال فلم ينصرف إليه كلام العاقل فينصرف إلى وجود ذلك من أحدهما لأن إضافة الفعل إلى اثنين على إرادة وجوده من أحدهما متعارف بين أهل اللسان قال الله تعالى في قصة موسى و صاحبه { نسيا حوتهما } و إنما نسيه صاحبه و هو فناء و قال تعالى : { يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان } و إنما يخرج من أحدهما و هو البحر المالح دون العذب و قال النبي صلى الله عليه و سلم لمالك بن الحويرث و عمه : [ إذا سافرتما فأذنا و أقيما ] و معلوم أن الأمر بالتأذين و الإقامة كان لأحدهما فكان هذا تعليق طلاقهما بحيضة إحداهما و بولادة إحداهما .
و لو قالت إحداهما : حضت إن صدقها الزوج طلقتا جميعا لأن حيضتها في حقها ثبت بإخبارها و في حق صاحبتها ثبت بتصديق الزوج و إن كذبها طلقت هي و لا تطلق صاحبتها لأن حيضها ثبت في حقها و لم يثبت في حق صاحبتها .
و لو قالت : كل واحدة مهما قد حضت طلقتا جميعا سواء صدقهما الزوج أو كذبهما أما إذا صدقهما فالأمر ظاهر لا يثبت حيضة كل واحدة منهما في حق صاحبتها و أما إذا كذبهما فكذلك لأن التكذيب يمنع ثبوت حيضة كل واحدة منهما في حق صاحبتها لا في حق نفسها و ثبوت حيضتها في حق نفسها يكفي لوقوع الطلاق عليها كما إذا قال لها : إذا حضت فأنت طالق و هذه معك : حضت و كذبها الزوج .
و لو قال : إذا حضتما فأنتم طالقان و إذا ولدتما فأنتم طالقان ما لم يوجد الحيض و الولادة منهما جميعا لأنه أضاف الحيض أو الولادة إليهما و يتصور من كل واحدة منهما الحيض و الولادة فيعلق الطلاق بوجود الحيض أو الولادة منهما جميعا عملا بالحقيقة عند الإمكان .
و لو قالت كل واحدة منهما : قد حضت إن صدقهما الزوج طلقتا لأنه علق طلاقها بوجود الحيض منهما جميعا و قد ثبت ذلك بقولهما مع تصديق الزوج و إن كذبهما لا تطلق واحدة منهما لأن قول كل واحد منهما مقبول في حق نفسها لا في حق صاحبتها فيثبت في حق كل واحدة منهما حيضها لا حيض صاحبتها و حيض كل واحدة منهما بانفراده شطر الشرط و طلاق كل واحدة منهما متعلق بوجود حيضهما جميعا و المعلق بشرط لا ينزل بوجود بعض الشرط و إن صدق إحداهما و كذب الأخرى تطلق المكذبة و لا تطلق المصدقة لأن حيض المكذبة ثبت في حقها بإخبارها و حيض المصدقة ثبت في حقها بإخبارها و حيض المصدقة ثبت في حق المكذبة أيضا بتصديق الزوج فثبت الحيضتان جميعا في حق المكذبة فوجد كل الشرط في حقها فيقع الطلاق عليها و لم يثبت في حق المصدقة إلا حيضها في حق نفسها و لم يثبت في حقها حيض المكذبة لتكذيب الزوج المكذبة في ثبوت حيضها عند المصدقة فكان الموجود في حق المصدقة شطر الشرط فلا يقع الطلاق و كذلك إذا قال إذا حضتما حيضتين أو إذا ولدتما ولدين فأنتما طالقان فهذا وقوله إذا حضتما أو ولدتما سواء فما لم يحيضا جميعا أو يلدا جميعا لا يقع الطلاق عليهما لأن وجود حضيتين منهما و ولادة ولدين منهما يكون بهذا الطريق و هو أن تحيض كل واحدة منهما حيضة و تلد كل واحدة منهما ولدا .
و كذا إذا قال : إذا دخلتما هذه الدار أو كلمتما فلانا أو لبستما هذا الثوب أو ركبتما هذه الدابة أو أكلتما هذا الطعام أو شربتما هذا الشراب فما لم يوجد منهما جميعا لا يقع الطلاق لأنه يتصور وجوده منهما فيعمل بحقيقة الكلام بخلاف قوله إذا حضتما حيضة أو ولدتما ولدا لأن ذلك محال ثم التعليق في الملك كما يصح بشرط الوجود يصح بشرط العدم لأن الشرط علامة محضة و العدم يصلح علما محضا فيصلح شرطا غير أنه إن وقت ينزل المعلق ينزل المعلق عند انتهاء ذلك الوقت و إن أطلق لا ينزل إلا في آخر جزء من أجزاء حياته .
بيان ذلك : إذا قال لامرأته إن لم أدخل هذه الدار فأنت طالق أول إن لم آت البصرة فأنت طالق لا يقع الطلاق إلا في آخر جزء من أجزاء حياته لأنه علق الطلاق بعدم الدخول و الإتيان مطلقا و لا يتحقق ذلك إلا في ذلك الوقت و على هذا يخرج ما إذا قال لامرأته أنت طالق إن لم أطلقك أنه لا يقع الطلاق عليها ما يثبته إلى آخر جزء من أجزاء حياته لأنه علق الطلاق بشرط عدم التطليق مطلقا و العدم المطلق لايتحقق إلا في ذلك الجزء .
و لو قال : أنت طالق إذا لم أطلقك و إذا ما لم أطلقك فإن أراد بإذا إن لا يقع الطلاق إلا في آخر جزء من أجزاء حياته بالإجماع و إن نوى به متى يقع الطلاق إذا فرغ من هذا الكلام و سكت و إن لم يكن له نية قال أبو حنيفة : هذه بمنزلة قوله إن و قال أبو يوسف و محمد : هي بمعنى متى .
وجه قولهما أن إذا للوقت قال الله تعالى : { إذا الشمس كورت } و { إذا السماء انفطرت } و { إذا السماء انشقت } إلى غير ذلك من الآيات الكريمة فكانت في معنى متى و لو قال متى لم أطلقك يقع الطلاق عقيب الفراغ من هذه اللفظة إذا سكت كذا هذا .
و الدليل أنه إذا قال لها : أنت طالق إذا شئت لا يقتصر على المجلس كما لو قال متى شئت و لو قال إن شئت يقتصر على المجلس و لو كانت للشرط لاقتصرت المشيئة على المجلس كما في قوله إن شئت و لأبي حنيفة أن هذه الكلمة كما تذكر ويراد بها الوقت تذكر و يراد بها الشرط كما قال الشاعر : .
( اسستغن ما أغناك ربك بالغنى ... و إذا تصبك خصاصة فتجمل ) .
ألا ترى أنه جزم ما بعده فإن قال أريد بها الوقت يقع الطلاق كما فرغ من هذا الكلام و سكت كما في قوله متى و إن قال : أريد بها الشرط لا يقع إلا في آخر جزء من أجزاء حياته كما في كلمة إن فوقع الشك في وقوع الطلاق عند الفراغ منه فلا يقع مع الشك و إنما لا يقتصر على المجلس لأنه حصلت المشيئة في يدها بقوله : أنت طالق إذا شئت و إنها تستعمل للوقت و للشرط فإن أريد بها الشرط يبطل بالقيام عن المجلس كما في قوله إن شئت و إن أريد بها الوقت لا يبطل كما في قوله متى شئت فوقع الشك في البطلان بالقيام عن المجلس فلا يبطل مع الشك فاطرد كلام أبي حنيفة في المعنى بحمد الله سبحانه و تعالى .
و لو قال لها : إن لم أدخل هذه الدار سنة فأنت طالق أو إن لم أكلم فلانا سنة فأنت طالق فمضت السنة قبل أن يدخلها أو يكلمه يقع الطلاق