الكلام في قوله أنت علي حرام .
وجه قولهما : أن قوله : أنت علي حرام إذا نوى به اليمين أو لا نية له يكون إيلاء بلا خلاف بين أصحابنا كأنه قال : و الله لا أقربك فصار الإيلاء معلقا بالقربان كأنه قال : إن قربتك فوالله لا أقربك و لو قال ذلك لا يكون موليا حتى يقربها كذا هذا .
و لأبي حنيفة : أنه منع نفسه من قربان امرأته في المدة بما لا يصلح مانعا و هو التحريم و هو حد المولي فيصير موليا كما لو قال : إن قربتك فأنت علي كظهر أمي ثم لا بد من معرفة مسألة الحرام اعني قوله لامرأته : أنت علي حرام من غير التعليق بشرط القربان إن حكمها ما هو ؟ .
و جملة الكلام فيه أن الأمر لا يخلو : إما إن أضاف التحريم إلى شيء خاص نحو امرأته أو الطعام أو الشراب أو اللباس و إما إن أضافه إلى كل حلال على العموم فإن إضافه إلى امرأته بأن قال : أنت علي حرام أو قد حرمتك علي أو أنا عليك حرام أو قد حرمت نفسي عليك أو أنت محرمة علي فإن أراد به طلاقا فهو طلاق لأنه يحتمل الطلاق و غيره فإذا نوى به الطلاق انصرف إليه و إن نوى ثلاثا يكون ثلاثا و إن نوى واحدة يكون واحدة بائنة و إن نوى اثنتين يكون واحدة بائنة عندنا خلافا لزفر لأنه من جملة كنايات الطلاق و إن لم ينو الطلاق و نوى التحريم أو لم يكن له نية فهو يمين عندنا و يصير موليا حتى لو تركها أربعة أشهر بانت بتطليقه لأن الأصل في تحريم الحلال أن يكون يمينا لما تبين و إن قال : أردت به الكذب يصدق فيما بينه و بين الله تعالى و لا يكون شيئا و لا يصدق في نفي اليمين في القضاء .
و قد اختلف السلف Bهم في هذه المسألة روي عن أبي بكر و عمر و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس و عائشة Bهم أنهم قالوا : الحرام يمين حتى عن ابن عباس Bهما أنه قال : [ إذا حرم الرجل امرأته فهو يمين يكفرها أما كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ] .
و روي عن عبد الله بن عمر Bه أنه قال : [ إن نوى طلاقا فطلاق و إن لم ينو طلاقا فيمين يكفرها ] .
و عن زيد بن ثابت Bه أنه قال [ فيه كفارة يمين ] .
و منهم من جعله طلاقا ثلاثا و هو قول علي Bه و منهم من جعله طلاقا رجعيا .
و عن مسروق أنه قال : [ ليس ذلك بشيء ] ما أبالي حرمتها أو قصعة من ثريد و قال الشافعي : ليس بيمين و فيه كفارة يمين بنفس اللفظ و لقب المسألة أن تحريم الحلال هل هو يمين ؟ .
عندنا يمين و عنده ليس بيمين .
وجه قوله : أن تحريم الحلال تغيير الشرع و العبد لا يملك تغيير الشرع و لهذا خرج قوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } مخرج العتاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فدل أنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله سبحانه و تعالى و به تبين أن اليمين لا يحرم المحلوف عليه على الحالف و إنما يمنعه منه بكونه حلالا .
و لنا : الكتاب و السنة و الإجماع : .
أما الكتاب فقوله عز و جل : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } قيل : نزلت الآية في تحريم جاريته مارية القبطية لما قال صلى الله عليه و سلم : [ هي علي حرام ] و سمى الله تعالى ذلك يمينا بقوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } أي وسع الله عليكم أو أباح لكم أن تحلوا من أيمانكم بالكفارة و في بعض القراءات قد فرض الله لكم كفارة أيمانكم و الخطاب عام يتناول رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمته .
و أما السنة : فما روى [ ابن عباس عن عمر بن الخطاب Bهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الحرام يمينا ] .
و أما الإجماع فما روي عن جماعة من الصحابة Bهم : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الحرام يمينا ] و بعضهم نص على وجوب كفارة اليمين فيه و كفارة اليمين و لا يمين لا تتصور فدل على أنه يمين و قول من جعله طلاقا ثلاثا محمول على ما إذا نوى الثلاث لأن الحرمة نوعان غليظة و خفيفة فكانت نية الثلاث تعيين بعض ما يحتمله اللفظ فيصح و إذا نوى واحدة كانت واحدة بائنة لأن اللفظ ينبىء عن الحرمة و الطلاق الرجعي لا يوجب الحرمة للحال و إثبات حكم اللفظ على الوجه الذي ينبىء عنه اللفظ أولى و لأن المخالف يوجب فيه كفارة يمين و كفارة اليمين تستدعي وجود اليمين فدل أن هذا اللفظ يمين في الشرع فإذا نوى به الكذب لا يصدق في إبطال اليمين في القضاء لعدوله عن الظاهر .
و أما قوله : إن تحريم الحلال تغيير للشرع فالجواب عنه من وجهين : .
أحدخما : أن هذا ليس بتحريم الحلال من الحالف حقيقة بل من الله سبحانه و تعالى لأن التحريم إثبات الحرمة كالتحليل إثبات الحل و العبد لا يملك ذلك بل الحرمة و الحل و سائر الحكومات الشرعية ثبتت بإثبات الله تعالى لا منع للعبد فيها أصلا إنما من العبد مباشرة سبب الثبوت .
هذا هو المذهب عند أهل السنة و الجماعة فلم يكن هذا من الزوج تحريم ما أحله الله تعالى بل مباشرة سبب ثبوت الحرمة أو منع النفس عن الإنتفاع بالحلال لأن التحريم في اللغة عبارة عن المنع و قد يمنع المرء من تناول الحلال لغرض له في ذلك و يسمى ذلك تحريما قال الله تعالى : { و حرمنا عليه المراضع من قبل } و المراد منه امتناع سيدنا موسى عليه الصلاة السلام عن الإرتضاع من غير ثدي أمه لا التحريم الشرعي و على أحد هذين الوجهين يحمل التحريم المضاف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم .
فإن قيل : لو كان الأمر على ما ذكرتم لم يكن ذلك منه تحريم الحلال حقيقة فما معنى إلحاق العتاب به فالجواب عنه من وجهين : .
أحدهما : أن ظاهر الكلام إن كان يوهم العتاب فليس بعتاب في الحقيقة بل هو تخفيف المؤنة عليه صلى الله عليه و سلم في حسن العشرة و الصحبة مع أزواجه لأنه كان مندوبا إلى حسن العشرة معهن و الشفقة عليهن و الرحمة بهن فبلغ من حسن العشرة و الصحبة مبلغا امتنع عن الإمتناع بما أحل الله له يبتغي به حسن العشرة فخرج ذلك مخرج تخفيف المؤنة في حسن العشرة معهن لا مخرج النهي و العتاب و إن كانت صيغته صيغة النهي و العتاب و هو كقوله تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } .
و الثاني : إن كان ذلك الخطاب عتابا فيحتمل أنه إنما عوتب لأنه فعل بلا إذن سبق من الله عز و جل و إن كان ما فعل مباحا في نفسه و هو منع النفس عن تناول الحلال و الأنبياء عليهم الصلاة و السلام يعاتبون على أدنى شيء منهم يوجد مما لو كان ذلك من غيرهم لعد من أفضل شمائله كما قال تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } .
و قوله { عبس و تولى * أن جاءه الأعمى } و نحو ذلك و الثاتي إن كان هذا تحريم الحلال لكن لم قلت : إن كل تحريم حلال من العبد تغيير للشرع بل ذلك نوعان : تحريم ما أحل الله تعالى مطلقا و ذلك تغيير بل اعتقاده كفر و تحريم ما أحله الله مؤقتا إلى غاية لا يكون تغييرا بل يكون بيان نهاية الحلال ألا ترى أن الطلاق مشروع و إن كان تحريم الحلال لكن لما كان الحل مؤقتا إلى غاية وجود الطلاق لم يكن التطليق من الزوج تغييرا للشرع بل كان بيان انتهاء الحل .
و على هذا سائر الأحكام التي تحتمل الإرتفاع و السقوط و على هذا سبيل النسخ فيما يحمل التناسخ فكذا قوله لامراته أنت علي حرام و إن بقوله أنت علي حرام الظهار كان ظهارا عند أبي حنيفة و أبي يوسف و قال محمد : لا يكون ظهارا .
وجه قوله : أن الظهار تشبيه الحلال بالحرام و التشبيه لا بد له من حرف التشبيه و لم يوجد فلا يكون ظهارا .
و لهما : أن وصفها بكونها محرمة و المرأة تارة تكون محرمة بالطلاق و تارة تكون محرمة بالظهار فأي ذلك نوى فقد نوى ما يحتمله كلامه فيصدق فيه هذا إذا أضاف التحريم إلى المرأة .
فإما إذا أضافه إلى الطعام أو الشراب أو اللباس بأن قال : هذا الطعام علي حرام أو هذا الشراب أو هذا اللباس فهو يمين عندنا و عليه الكفارة إذا فعل .
و قال الشافعي : إذا قال ذلك في غير الزوجة و الجارية لا يجب شيء و هي مسألة تحريم الحلال أنه يمين أم لا .
وجه قول الشافعي في المسألة الأولى ما ذكرنا في المسألة الأولى .
و لنا : قوله عز و جل : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } قيل نزلت الآية في تحريم العسل و قد سماه الله تعالى يمينا بقوله سبحانه و تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } فدل أن تحريم غير الزوجة و الجارية يمين موجب للكفارة لأن تحلة اليمين هي الكفارة .
فإن قيل : فقد روي أنها نزلت في تحريم جاريته مارية .
فالجواب : أنه لا يمتنع أن تكون الآية الكريمة نزلت فيهما لعدم التنافي و لأنه لو أضاف التحريم إلى الزوجة و الجارية لكان يمينا فكذا إذا أضيف إلى غيرهما كان يمينا كلفظ القسم إذا أضيف إلى الزوجة و الجارية كان يمينا و إذا أضيف إلى غيرهما كان يمينا أيضا كذا هذا فإن فعل كان يمينا مما حرمه قليلا أو كثيرا حنث و انحلت اليمين لأن التحريم المضاف إلى المعين يوجب تحريم كل جزء من أجزاء المعين كتحريم الخمر و الخنزير و الميتة و الدم فإذا تناول شيئا منه فقد فعل المحلوف عليه فيحنث و تنحل اليمين بخلاف ما إذا حلف لا يأكل هذا الطعام فأكل بعضه أنه لا يحنث لأن الحنث هناك معلق بالشرط و هو أكل كل الطعام و المعلق بشرط لا ينزل عند وجود بعض الشرط .
و لو قال : نسائي علي حرام و لم ينو الطلاق فقرب إحدهن كفر و سقطت اليمين فيهن جميعا لأنه أضاف التحريم إلى جمع فيوجب تحريم كل فرد من أفراد الجمع محرما على الإنفراد فإذا قرب واحدة منهن فقد فعل ما حرمه على نفسه فيحنث و تلزمه الكفارة و تنحل اليمين و إن لم يقرب واحدة منهن حتى مضت أربعة أشهر بن جميعا لأن حكم الإيلاء لا يثبت في حق كل واحدة منهن على انفرادها و الإيلاء يوجب البينونة بمضي المدة من غير فيء هذا إذا أضاف التحريم إلى نوع خاص فأما إذا أضافه إلى الأنواع كلها بأن قال : كل حلال علي حرام فإن لم تكن له نية فهو على الطعام و الشراب خاصة استحسانا .
و القياس أن يحنث عقيب كلامه و هو قول زفر .
وجه القياس : أن اللفظ خرج مخرج العموم فيتناول كل حلال و كما فرغ عن يمينه لا يخلو عن نوع حلال يوجد منه فيحنث .
وجه الاستحسان : أن هذا عام لا يمكن العمل بعمومه لأنه لا يمكن حمله على كل مباح من فتح عينه و غض بصره و تنفسه و غيرها من حركاته و سكناته المباحة لأنه لا يمكنه الامتناع عنه و العاقل لا يقصد بيمينه منع نفسه عما لا يمكنه الامتناع عنه فلم يمكن العمل بعموم هذا اللفظ فيحمل على الخصوص و هو الطعام و الشراب باعتبار العرف و العادة لأن هذا اللفظ مستعمل فيهما في العرف .
و نظيره قوله تعالى : { لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة } أنه لما لم يمكن للعمل بعمومه لثبوت المساواة بين المسلم و الكافر في أشياء كثيرة حمل على الخصوص و هو نفي المساواة بينهما في العمل في الدنيا أو في الجزاء في الآخرة كذا هذا .
فإن نوى مع ذلك اللباس أو امرأته فالتحريم واقع على جميع ذلك و أي شيء من ذلك فعل وحده لزمته الكفارة لأن اللفظ صالح لتناول كل المباحات و إنما حملناه على الطعام و الشراب بدليل العرف فإذا نوى شيئا زائدا على المتعارف فقد نوى ما يحتمله لفظه و فيه تشديد على نفسه فيقبل قوله فإذا نوى شيئا بعينه دون غيره بأن نوى الطعام خاصة أو الشراب خاصة أو اللباس خاصة أو امرأته خاصة فهو على ما نوى فيما بينه و بين الله تعالى و في القضاء لما ذكرنا أن هذا اللفظ متروك العمل بظاهر عمومه و مثله يحمل على الخصوص .
فإذا قال : أردت واحدا بعينه دون غيره فقد ترك ظاهر لفظ هو متروك الظاهر فلم يوجد منه العدول فيصدق و إن قال كل حل علي حرام و نوى امرأته كان عليها و علي الطعام و الشراب لأن الطعام و الشراب دخلا تحت ظاهر هذا اللفظ و لم ينفهما بنيته فبقيا داخلين تحت اللفظ بخلاف الفصل الأول لأنه هناك نوى امرأته خاصة ونفى الطعام و الشراب بنيته فلم يدخلا و ههنا لم ينف الطعام و الشراب بنيته و قد دخلا تحت اللفظ فبقيا كذلك ما لم ينفيا بالنية و إن نوى في امرأته الطلاق و لزمه الطعام فيها فإن أكل أو شرب لم تلزمه الكفارة لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله على الطلاق و اليمين لاختلاف معنييهما و اللفظ الواحد لا يشتمل على معنيين مختلفين فإذا أراد به في الزوجة الطلاق الذي هو أشد الأمرين و أغلظهما لا يبقى الآخر مرادا و كذا روي عن أبي يوسف و محمد في رجل قال لامرأتين له : أنتما علي حرام يعني في إحداهما الطلاق و في الأخرى الإيلاء فهما طالقان جميعا لما ذكرنا أن اللفظ الواحد لا يحتمل معنين مختلفين فإذا أرادهما بلفظ واحد يحمل على أغلظهما و يقع الطلاق عليهما .
و لو قال : هذه علي حرام ينوي الطلاق و هذه علي حرام ينوي الإيلاء كان كما نوى كما نوى لأنهما لفظان فيجوز أن يراد بأحدهما خلاف ما يراد بالآخر .
و عن أبي يوسف فيمن قال لامرأتيه : أنتما علي حرام ينوي في إحداهما ثلاثا و في الأخرى واحدة أنهما جميعا طالقان ثلاثا لأن حكم الواحدة البائنة خلاف حكم الثلاث لأن الثلاث يوجب الحرمة الغليظة و اللفظ الواحد لا يتناول معنيين مختلفين في حالة واحدة فإذا نواهما يحمل على أغلظهما و أشدهما .
و قال ابن سماعة في نوادره : سمعت أبا يوسف يقول في رجل قال : : ما أحل الله علي حرام من مال و أهل و نوى الطلاق في أهله قال : و لا نية له في الطعام فإن أكل لم يحنث لما قلنا قال : و كذلك لو قال هذا الطعام علي حرام و هذه ينوي الطلاق لأن اللفظة واحدة و قد تناولت الطلاق فلا تتناول تحريم الطعام .
و قالوا فيمن قال لامرأته : أنت علي كالدم أو الميتة أو لحم الخنزير أو كالخمر أنه يسأل عن نيته فإن نوى كذبا فهو كذب لأن هذا اللفظ ليس صريحا في التحريم ليجعل يمينا فيصدق أنه أراد به الكذب بخلاف قوله : أنت علي حرام فإنه صريح في التحريم فكان يمينا و إن نوى التحريم فهو إيلاء لأنه شبهها بما هو محرم فكأنه قال : أنت حرام و إن نوى الطلاق فالقول فيه كالقول فيمن قال لامرأته : أنت علي حرام ينوي الطلاق .
و روى ابن سماعة عن محمد فيمن قال لامرأته : إن فعلت كذا فأنت أمي يريد التحريم قال هو باطل لأه لم يجعلها مثل أمه ليكون تحريما و إنما جعلها أمه فيكون كذبا .
قال محمد : و لو ثبت التحريم بهذا لثبت إذا قال : أنت حواء و هذا لا يصح و قال ابن سماعة عن محمد فيمن قال لامرأته : أنت معي حرام فهو مثل قوله : أنت علي حرام لأن هذه الحروف يقام بعضها مقام بعض و الله تعالى أعلم