حكم الإيلاء .
فصل : و أما حكم الإيلاء فنقول و بالله التوفيق : إنه يتعلق بالإيلاء حكمان حكم الحنث و حكم البر أما حكم الحنث فيختلف باختلاف المحلوف به فإن كان الحلف بالله تعالى فهو وجوب كفارة اليمين كسائر الأيمان بالله و إن كان الحلف بالشرط و الجزاء فلزوم المحلوف به كسائر الأيمان بالشروط و الأجزية أو لزوم حكمه على تقدير وجوده على ما بينا .
و اما حكم البر فالكلام فيه في مواضع : في بيان أصل الحكم و في بيان وصفه و في بيان وقته و في بيان قدره أما أصل الحكم فهو وقوع الطلاق بعد مضي المدة من غير فيء لأنه بالإيلاء عزم على منع نفسه من إيفاء حقها في الجماع و أكد العزم باليمين فإذا مضت المدة و لم يفىء إليها مع القدرة على الفيء فقد حقق العزم المؤكد باليمين بالفعل فتأكد الظلم في حقها فتبين منه عقوبة عليه جزاء على ظلمة و مرحمة عليها و نظرا لها بتخليصها عن حباله لتتوصل إلى إيفاء حقها من زوج آخر و هذا عندنا .
و قال الشافعي : حكم الإيلاء في حق البر هو الوقوف و هو أن يوقف الزوج بعد مضي المدة فيخير بين الفيء إليها بالجماع و بين تطليقها فإن أبى أجبره الحاكم على أحدهما فإن لم يفعل طلق عليه القاضي فاشتملت معرفة هذا الحكم على معرفة مسألتين مختلفتين : .
إحداهما : لأنه لا يوقف المولي بعد انقضاء المدة عندنا بال يقع الطلاق عقب انقضائها بلا فصل و عنده يوقف و يخير بين الفيء و التطليق على ما بينا .
و الثانية : أن الفيء يجب لأن يكون في المدة عندنا و عنده بعد مضي المدة و المسألتان مختلفتان بين الصحابة Bهم .
احتج الشافعي بقوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * و إن عزموا الطلاق } خير سبحانه و تعالى المولى بين الفيء و بين العزم على الطلاق بعد أربعة أشهر فدل أن حكم الإيلاء في حق البر هو تخيير الزوج بين الفيء و الطلاق بعد المدة لا وقوع الطلاق عند مضي المدة و إن وقت الفيء بعد المدة لا في المدة و لأنه قال عز و جل : { و إن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } أي سميع للطلاق فلا بد و أن يكون الطلاق مسموعا و ذلك بوجود صوت الطلاق إذ غير الصوت لا يحتمل السماع و لو وقع الطلاق بنفس مضي المدة من غير قول وجد من الزوج أو من القاضي لم يتحقق صوت الطلاق فلا ينعقد سماعه و لأن الإيلاء يمين يمنع من الجماع أربعة أشهر لأن اللفظ يدل عليه فقط لا على الطلاق فالقول بوقوع الطلاق بمضي المدة قول بالوقوع من غير إيقاع و هذا لا يجوز .
و لنا : أن الله تعالى جعل مدة التربص أربع أشهر و الوقف يوجب الزيادة على المدة المنصوص عليها و هي مدة اختيار الفيء او الطلاق من يوم أو ساعة فلا تجوز الزيادة إلا بدليل و لهذا لما جعل الشرع لسائر المدة التي بين الزوجين مقدارا معلوما من المدة و مدة العنين لم تحتمل الزيادة على ذلك القدر فكذا مدة الطلاق و لأن الفيء نقض اليمين و نقضها حرام في الأصل قال الله تعالى : { و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها و قد جعلتم الله عليكم كفيلا } إلا أنه ثبت الإطلاق في المدة بقراءة عبد الله بن مسعود و أبي بن كعب Bهما فإن فيهن فبقي النقض حراما فيما وراءها فلا يحل الفيى فيما وراءها فلزم القول بالفيء في المدة و بوقوع الطلاق بعد مضيها و لأن الإيلاء كان طلاقا معجلا في الجاهلية فجعله الشرع طلاقا مؤجلا و الطلاق المؤجل يقع بنفس انقضاء الأجل من غير إيقاع أحد بعده كما إذا قال لها : أنت طالق رأس الشهر .
و أما قوله إن الله تعالى ذكر الفيء بعد الأربعة أشهر فنعم لكن هذا لا يوجب أن يكون الفيء بعد مضيها ألا ترى إلى قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } ذكر تعالى الإمساك بمعروف بعد بلوغ الأجل و أنه لا يوجب الإمساك بعد مضي الأجل و هو العدة بل يوجب الإمساك و هو الرجعة في العدة و البينونة بعد انقضائها كذا ههنا .
و أما قوله تعالى : { و إن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } فقد قال قوم من أهل التأويل إن المراد من قوله : { سميع } في هذا الموضع أي سميع بإيلائه و الإيلاء مما ينطق به و يقال فيكون مسموعا و قوله تعالى : { عليم } ينصرف إلى العزم أي عليم بعزمه الطلاق و هو ترك الفيء و دليل صحة هذا التأويل أنه تعالى ذكر قوله { سميع عليم } عقيب أمرين أحدهما : يحتمل السماع و هو الإيلاء و الآخر لا يحتمل و هو عزم الطلاق فينصرف كل لفظ إلى ما يليق به ليفيد فائدته و هي كقوله تعالى : لتسكنوا فيه و لتبتغوا من فضله عقيب ذكر الليل و النهار بقوله : و من رحمته أن جعل لكم الليل لتسكنوا فيه و النهار مبصرا إنه صرف إلى كل ما يليق به ليفيد فائدته و هو السكون إلى الليل و ابتغاء الفضل إلى النهار كذا ههنا و لأنه تعالى ذكر أنه سميع عليم و كل مسموع معلوم و ليس كل معلوم مسموعا لأن السماع لا يكون إلا للصوت فلو كان الطلاق في الإيلاء بالقول مسموعا و الإيلاء مسموع أيضا فوقعت الكفاية بذكر السميع فلا يتعلق بذكر العليم فائدة مبتدأة و لو كان الأمر على ما قلنا : إن الطلاق يقع عند مضي المدة من غير قول يسمع لانصراف ذكر العليم إليه لأن ذلك ليس بمسموع حتى يغني ذكر السميع عن ذكر العليم فيتعلق بذكر العليم فائدة جديدة فكان ما قلناه أولى مع أنا لا نسلم أن سماع الطلاق يقف على ذكر الطلاق بحروفه ألا ترى أن كنايات الطلاق طلاق و هي مسموعة و إن لم يكن الطلاق مسموعا مذكورا بحروفه .
و كذا طلاق الأخرس فلم يكن من ضرورة كون الإيلاء طلاقا التلفظ بلفظ الطلاق فلا يقف سماع صوت الطلاق عليه .
و قوله : لفظ الإيلاء لا يدل على الطلاق ممنوع بل يدل عليه شرعا فإن الشرع جعل الإيلاء طلاقا معلقا بشرط البر فيصير الزوج بالإصرار على موجب هذه اليمين معلقا طلاقا بائنا بترك القربان أربعة أشهر كأنه قال : إذا مضت أربعة أشهر و لم أقربك فيها فأنت طالق بائن عرفنا ذلك بإشارة النص و هو قوله تعالى : { و إن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } سمى ترك الفيء في المدة عزم الطلاق و أخبر سبحانه و تعالى أنه سميع للإيلاء فدل أن الإيلاء السابق طلاقا عند مضي المدة من غير فيء و بما ذكرنا من المعنى المعقول .
و أما صفته : فقد قال أصحابنا : إن الواقع بعد مضي المدة من غير فيء طلاق بائن و قال الشافعي : إذا خير بعد انقضاء العدة فاختار الطلاق فهي واحدة رجعية بناء على أصله أن الطلاق بعد مضي المدة يقع بإيقاع مبتدأ و هو صريح الطلاق فيكون رجعيا .
و لنا : إجماع الصحابة Bهم فإنه روي عن عثمان و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس و زيد بن ثابت Bهم قالوا : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة و لأن الطلاق إنما يقع عند مضي المدة دفعا للظلم فلا يندفع الظلم عنها إلا بالبائن لتتخلص عنه فتتمكن من استيفاء حقها من زوج آخر و لا يتخلص إلا بالبائن و لأن القول بوقوع الطلاق الرجعي يؤدي إلى العبث لأن الزوج إذا أبى الفيء و التطليق يقدم إلى الحاكم ليطلق عليه الحاكم عنده ثم إذا طلق عليه الحاكم يراجعها الزوج فيخرج فعل الحاكم مخرج العبث و هذا لا يجوز .
و أما قدره : و هو قدر الواقع من الطلاق في الإيلاء فالأصل أن الطلاق في الإيلاء يتبع المدة لا اليمين فيتحد باتحاد المدة و يتعدد بتعددها في قول أصحابنا الثلاثة و عند زفر يتبع اليمين فيتعدد بتعدد اليمين و يتحد باتحادها و لا خلاف في أن المعتبر في حق حكم الحنث هو اليمين فينظر إلى اليمين في الإتحاد و التعدد لا إلى المدة .
وجه قول زفر : أن وقوع الطلاق و لزوم الكفارة حكم الإيلاء و الإيلاء يمين فيدور الحكم مع اليمين فيتحد باتحادها و يتعدد بتعددها لأن الحكم يتكرر بتكرر السبب و يتحد باتحاده .
و لنا : أن الإيلاء إنما اعتبر طلاقا من الزوج لمنعه حقها في الجماع في المدة منعا مؤكدا باليمين إذ به يصير ظالما و المنع يتحد باتحاد المدة فيتح الظلم فيتحد الطلاق و يتعدد بتعددها فيتعدد الظلم فيتعدد الطلاق فأما الكفارة فإنها تجب لهتك حرمة اسم الله عز و جل و الهتك يتعدد بتعدد الأسم و يتحد باتحاده و على هذا الأصل مسائل : إذا قال لامرأته مرة واحدة : و الله لا أقربك فلم يقربها حتى مضت المدة بانت بتطليقة واحدة و إن قربها لزمه كفارة واحدة لاتحاد المدة و اليمين جميعا .
و لو قال لها في مجلس واحد : و الله لا أقربك و الله لا أقربك و الله لا أقربك فإن عنى به التكرار فهو إيلاء واحد في حق حكم الحنث و البر جميعا حتى لو مضت أربعة أشهر و لم يقربها بانت بتطليقة واحدة و لو قربها في المدة لا يلزمه إلا كفارة واحدة لأن مثل هذا يذكر للتكرار في العرف و العادة فإذا نوى به تكرار الأول فقد نوى ما يحتمله كلامه فيصدق فيه و إن لم تكن له نية فهو إيلاء واحد في حق حكم البر في قول أصحابنا الثلاثة و ثلاث في حق حكم الحنث بالإجماع حتى لو مضت أربعة أشهر و لم يقربها بانت بتطليقة واحدة في قول أصحابنا الثلاثة و لو قربها في المدة فعليه ثلاث كفارات بالإجماع و عند زفر : هو ثلاث إيلاآت في حق حكم الحنث و البر جميعا و ينعقد كل إيلاء من حين وجوده فإذا مضت أربعة أشهر و لم يفىء إليها بانت بتطليقة ثم إذا مضت ساعة بانت بتطليقة أخرى ثم إذا مضت ساعة أخرى بانت بتطليقة واحدة أخرى و إن قربها في المدة فعهليه ثلاث كفارات .
و أصل هذه المسألة : أن من قال لامرأته : إذا جاء غد فوالله لا اقربك قاله ثلاثا فجاء غد يصير موليا في حق حكم البر إيلاء واحدا عندنا و عنده يصير موليا ثلاث إيلاآت في حق حكم الحنث و إن اراد به التغليظ و التشديد فكذلك في قول أبي حنيفة و أبي يوسف أنه إيلاء واحد في حق حكم البر استحسانا .
و عند محمد و زفر : هو ثلاث في حق البر و الحنث جميعا و هو القياس أما زفر : فقد مر على أصله أن الحكم لليمين لا للمدة لأن اليمين هي السبب الموجب للحكم و قد تعددت فيتعدد السبب بتعدد الحكم .
و أما وجه القياس لمحمد : أن المدة قد اختلفت لأن كل واحدة من هذه الأيمان وجدت في زمان فكانت مدة كل واحدة منهما غير مدة الأخرى فصار كما لو آلى منها ثلاث مرات في ثلاث مجالس .
وجه الاستحسان : أن المدد و إن تعددت حقيقة فهي متعددة حكما لتعذر ضبط الوقت الذي بين اليمينين عند مضي أربعة أشهر فصارت مدة الأيمان كلها مدة واحدة حكما و الثابت حكما ملحق بالثابت حقيقة .
و لو قال : إذا جاء غد فوالله لا أقربك و إذا جاء بعد غد فوالله لا أقربك يصير موليا إيلاءين في حق الحنث و البر جميعا إذا غد يصير موليا و إذا جاء بعد غد يصير موليا إيلاء آخر و كذلك إذا آلى منها في مجلس ثم آلى منها في مجلس آخر بأن قال : و الله لا أقربك فمكث يوما ثم قال : و الله لا أقربك يصير موليا إيلاءين أحدهما في الحال و الآخر في الغد في حق الحنث و البر جميعا لأن المدد قد تعددت حقيقة و حكما لاختلاف ابتداء كل مدة و انتهائها و إمكان ضبط الوقت الذي بين اليمينين .
و لو قال : كلما دخلت هذه الدار فوالله لا أقربك أو قال و الله إن دخلت هذه الدار فوالله لا أقربك أو قال : و الله لا أقربك كلما دخلت هذه الدار يصير موليا إيلاءين في حق البر و إيلاء واحدة في حق الحنث فإذا دخلت الدار دخلتين ينعقد الإيلاء الأول عند الدخلة الأولى و الثاني عند الدخلة الثانية حتى لو مضت أربعة أشهر من وقت الدخلة الأولى بانت بتطليقة و إذا تمت أربعة أشهر من وقت الدخلة الثانية بانت بتطليقة أخرى و لو قربها بعد الدخلتين لا يلزمه إلا كفارة واحدة لتعدد المدة و اتحاد اليمين في حكم الحنث .
و الأصل فيه : أن اليمين بالله تعالى متى علقت بشرط متكرر لا يتكرر انعقادها بتكرر الشرط و اليمين بما هو شرط و جزاء إذا علقت بشرط متكرر تتكرر بتكرار الشرط و قوله : و الله لا أقربك يمين بالله تعالى في حق الحنث و يمين بالطلاق في حق البر و دليل هذا الأصل و بيان فروعه يعرف في الجامع الكبير و كذلك إذا قال : كلما دخلت واحدة من هاتين الدارين فوالله لا أقربك أو قال : كلما كلمت واحدا من هذين الرجلين فوالله لا أقربك فدخل إحداهما أو كلم أحدهما صار موليا و إذا دخل مرة أخرى أو كلمه أخرى صار موليا إيلاء أخر في حق حكم البر و هو إيلاء واحد في حق حكم الحنث و الله تعالى أعلم