فصل أن يكون النكاح الثاني صحيحا .
و منها : أن يكون النكاح الثاني صحيحا حتى لو تزوجت رجلا نكاحا فاسدا و دخل بها لا تحل للأول لأن النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة و مطلق النكاح ينصرف إلى ما هو نكاح حقيقة .
و لو كان النكاح الثاني مختلفا في فساده ودخل بها لا تحل للأول عند من يقول بفساده لما قلنا فإن تزوجت بزوج آخر و من نيتها التحليل فإن لم يشترطا ذلك بالقول و إنما نويا و دخل بها على هذه النية حلت للأول في قولهم جميعا لأن مجرد النية في المعاملات غير معتبر فوقع النكاح صحيحا لاستجماع شرائط الصحة فتحل للأول كما لو نويا التوقيت و سائر المعاني المفسدة .
و إن شرط الإحلال بالقول و أنه يتزوجها لذلك و كان الشرط منها فهو نكاح صحيح عند أبي حنيفة و زفر و تحل للأول و يكره للثاني و الأول .
و قال أبو يوسف : النكاح الثاني فاسد و إن وطئها لم تحل للأول .
و قال محمد : النكاح الثاني صحيح و لا تحل للأول .
وجه قول أبي يوسف : أن النكاح بشرط الإحلال في معنى النكاح المؤقت و شرط التوقيت في النكاح يفسده و النكاح الفاسد لا يقع به التحليل و لمحمد أن النكاح عقد مؤبد فكان شرط الإحلال استعجال ما أخره الله تعالى لغرض الحل فيبطل الشرط و يبقى النكاح صحيحا لكن لا يحصل به الغرض كمن قتل مورثه أنه يحرم الميراث لما قلنا كذا هذا و لأبي حنيفة أن عمومات النكاح تقتضي الجواز من غير فصل بين ما إذا شرط فيه الإحلال أو لا فكان النكاح بهذا الشرط نكاحا صحيحا فيدخل تحت قوله تعالى : { حتى تنكح زوجا غيره } فتنتهي الحرمة عند وجوده إلا أنه كره النكاح بهذا الشرط لغيره و هو أنه شرط ينافي المقصود من النكاح و هو السكن و التوالد و التعفف لأن ذلك يقف على البقاء و الدوام على النكاح و هذا و الله أعلم معنى إلحاق اللعن بالمحلل في قوله صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله المحلل و المحلل له ] .
و أما إلحاق اللعن بالزوج الأول و هو المحلل له فيحتمل أن يكون لوجهين : أحدهما : أنه سبب لمباشرة الزوج الثاني هذا النكاح لقصد الفراق و الطلاق دون الإبقاء و تحقيق ما وضع له و المسبب شريك المباشرة في الإثم و الثواب في التسبب للمعصية و الطاعة .
و الثاني : أنه باشر ما يفضي إلى الذي تنفر منه الطباع السليمة و تكرهه من عودها إليه من مضاجعة غيره إياها و استمتاعه بها و هو الطلقات الثلاث إذ لولاها لما وقع فيه فكان إلحاقه اللعن به لأجل الطلقات و الله عز و جل أعلم .
و أما قول أبي يوسف : أن التوقيت في النكاح يفسد النكاح فنقول : المفسد له هو التوقيت نصا ألا ترى أن كل نكاح مؤقت فإنه يتوقت بالطلاق و بالموت و غير ذلك و لم يوجد التوقيت نصا فلا يفسد و قول محمد إنه استعجال ما أجله الله تعالى ممنوع فإن استعجال ما أجله الله تعالى لا يتصور لأن الله تعالى إذا ضرب لأمر أجلا لا يتقدم و لا يتأخر فإذا طلقها الزوج الثاني تبين أن الله تعالى أجل هذا النكاح إليه و لهذا قلنا : إن المقتول ميت بأجله خلافا للمعتزلة و منها : الدخول من الزوج الثاني فلا تحل لزوجها الأول بالنكاح الثاني حتى يدخل بها و هذا قول عامة العلماء .
و قال سعيد بن المسيب : تحل بنفس العقد و احتج بقوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } و النكاح هو العقد و إن كان يستعمل في العقد و الوطء جميعا عند الإطلاق لكنه يصرف إلى العقد عند وجود القرينة و قد وجدت لأنه أضاف النكاح إلى المرأة بقوله تعالى : { حتى تنكح زوجا غيره } و العقد يوجد منها كما يوجد من الرجل فأما الجماع فإنه يقوم بالرجل وحده و المرأة محله فانصرف إلى العقد بهذه القرينة فإذا وجد العقد تنتهي الحرمة بظاهر النص .
و لنا : قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } و المراد من النكاح الجماع لأن النكاح في اللغة هو الضم حقيقة و حقيقة الضم في الجماع و إنما العقد سبب داع إليه فكان حقيقة الجماع مجازا للعقد مع ما أنا لو حملناه على العقد لكان تكرارا لأن معنى العقد يفيده ذكر الزوج فكان الحمل على الجماع أولى .
بقي قوله : إنه أضاف النكاح إليها و الجماع مما تصح إضافته إلى الزوجين لوجود معنى الاجتماع منهما حقيقة فأما الوطء ففعل الرجل حقيقة لكن إضافة النكاح إليها من حيث هو ضم و جمع لا من حيث هو وطء ثم إن كان المراد من النكاح في الآية هو العقد فالجماع يضمر فيه عرفنا ذلك بالحديث المشهور و ضرب من المعقول .
أما الحديث فما روينا [ عن عائشة Bها : أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثا فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قالت : إن رفاعة طلقني و بت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير و لم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي من عسليته و يذوق من عسيلتك ] .
و عن [ ابن عمر و أنس Bهما عن النبي صلى الله عليه و سلم هذا الحديث و لم يذكرا قصة امرأة رفاعة و هو ما روي عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل و هو على المنبر عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها غيره فأغلق الباب و أرخى الستر و كشف الخمار ثم فارقها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تحل للأول حتى تذوق عسيلة الآخر ] .
و اما المعقول فهو أن الحرمة الغليظة إنما تثبت عقوبة للزوج الأول بما أقدم على الطلاق الثلاث الذي هو مكروه شرعا زجرا و منعا له عن ذلك لكن إذا تفكر في حرمتها عليه إلا بزوج آخر الذي تنفر منه الطباع السليمة و تكرهه الزجر عن ذلك و معلوم أن العقد بنفسه لا تنفر عنه الطباع و لا تكرهه إذ لا يشتد على المراة مجرد النكاح ما لم يتصل به الجماع فكان الدخول شرطا فيه ليكون زجرا له و منعا عن ارتكابه فكان الجماع مضمرا في الآية الكريمة كأنه قال عز و جل : { حتى تنكح زوجا غيره } و يجامعها .
و أما الإنزال فليس بشرط الإحلال لأن الله تعالى جعل الجماع غاية الحرمة و الجماع في الفرج هو التقاء الختانين فإذا وجد فقد انتهت الحرمة و سواء كان الزوج الثاني بالغا أو صبيا يجامع فجامعها أو مجنونا فجامعها لقوله تعالى : { حتى تنكح زوجا غيره } من غير فصل بين زوج و زوج و لأن وطء الصبي و المجنون يتعلق به أحكام النكاح من المهر و التحريم كوطء البالغ العاقل و كذلك الصغيرة التي يجامع مثلها إذا طلقها زوجها ثلاثا و دخل بها الزوج الثاني حلت للأول لإطلاق قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } و لأن وطأها يتعلق به أحكام الوطء من المهر و التحريم فصار كوطء البالغة و سواء كان الزوج الثاني حرا أو عبدا قنا أو مدبرا أو مكاتبا بعد أن تزوج بإذن مولاه و دخل بها لقوله تعالى : { حتى تنكح زوجا غيره } مطلقا من غير فصل و لأن أحكام النكاح تتعلق بوطء هؤلاء كما تتعلق بوطء الحر .
و كذا إذا كان مشلولا ينتشر له و يجامع لوجود الجماع في النكاح الصحيح و إنما الفائت هو الإنزال و ذا ليس بشرط كالفحل إذا جامع و لم ينزل .
و أما المجبوب : فإنه لا يحلها للأول لأنه لا يتحقق منه الجماع و إنما يوجد منه السحق و الملاصقة و التحليل يتعلق بالجماع و أنه اسم لالتقاء الختانين و لم يوجد فلا تحل للأول و إن حملت امرأة المجبوب و ولدت هل تحل للأول ؟ ! .
قال أبو يوسف : حلت للأول و كانت محصنة .
و قال زفر : لا تحل للأول و لا تكون محصنة و هو قول الحسن .
وجه قول زفر ظاهر لأن ثبوت النسب ليس بوطء حقيقة بل يقام مقام الوطء حكما و التحليل يتعلق حقيقة لا حكما كالخلوة فإنها لا تفيد الحل و إن أقيم مقام الوطء حكما كذا هذا و لأن النسب يثبت من صاحب الفراش مع كون المرأة الزانية حقيقة لكونه مولودا على الفراش و التحليل لا يقع بالزنا .
و لأبي يوسف : أن النسب ثابت منه و ثبوت النسب حكم الوطء في الأصل فصار كالدخول سواء وطئها الزوج الثاني في حيض أو نفاس أو صوم أو إحرام لوجود الدخول في النكاح الصحيح و لو كانت كتابية تحت مسلم طلقها ثلاثا فنكحت كتابيا نكاحا يقران عليه لو أسلما و دخل بها فإنها تحل للزوج الأول لوجود الدخول في النكاح الصحيح في حقهم لأنهم يقرون عليه بعد الإسلام فصار كنكاح المسلمين و سواء كانت المرأة مطلقة من زوج واحد أو من زوجين أو أكثر من ذلك فالزوج الواحد إذا دخل بها تحل للزوجين أو أكثر من ذلك بأن طلق الرجل امرأته ثلاثا فتزوجت بزوج آخر فطلقها الثاني قبل أن يدخل بها ثلاثا ـ ثم تزوجت زوجا ثالثا و دخل بها حلت للأولين لقوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } جعل الزوج الثاني منهيا للحرمة من غير فصل بين ما إذا حرمت على زوج واحد أو أكثر .
ثم وطء الزوج الثاني هل يهدم ما كان في ملك الزوج الأول من الطلاق ؟ لا خلاف في أنه يهدم الثلاث و هل يهدم ما دون الثلاث ؟ .
قال أبو حنيفة و أبو يوسف : يهدم .
و قال محمد : لا يهدم و به أخذ الشافعي و قد ذكرنا الحجج و الشبه فيما تقدم و إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا فغابت عنه مدة ثم أتته فقالت : إني تزوجت زوجا غيرك و دخل بي و طلقني و انقضت عدتي قال محمد : لا بأس أن يتزوجها و يصدقها إذا كانت ثقة عنده أو وقع في قلبه أنها صادقة لأن هذا من باب الديانة و خبر العدل في باب الديانة مقبول رجلا كان أو امرأة كما [ في الأخبار عن طهارة الماء و نجاسته ] و كما في رواية الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن تزوجها و لم تخبره بشيء فلما وقع قالت لم أتزوج زوجا غيرك أو قالت : تزوجت و لم يدخل بي أو قالت : قد خلا بي و جامعني فيما دون الفرج و كذبها الأول و قال : قد دخل بك الثاني لم يذكر هذا في ظاهر الرواية .
و ذكر الحسن بن زياد : أن القول قول المرأة في ذلك كله لأن هذا المعنى لا يعلم إلا من جهتها فكان القول قولها كما في الخبر عن الحيض و الحبل و فيه إشكال و هو أنه إنما يجعل القول قولها إذا لم يسبق منها ما يكذبها و قد سبق منها ما يكذبها في قولها و هو إقدامها على النكاح من الزوج الأول لأن شيئا من ذلك لا يجوز إلا بعد التزوج بزوج آخر و الدخول بها فكان فعلها مناقضا لقولها فلا يقبل و إن كان الزوج هو الذي قال لها لم تتزوجي أو قال : لم يدخل بك الثاني و قالت المرأة : قد دخل بي قال الحسن : القول قول المرأة و هذا صحيح لما ذكرنا أن هذا إنما يعلم من جهتها و لم يوجد منها دليل التناقض فكان القول قولها قال : و يفسد النكاح بقول الزوج و لها نصف المسمى إن كان لم يدخل بها و الكل إن كان قد دخل بها لأن الزوج معترف بالحرمة .
و قوله : فيما يرجع إلى الحرمة مقبول لأنه يملك إنشاء الحرمة فكان اعترافه بفساد النكاح بمنزلة إنشاء الفرقة فيقبل قوله فيه و لا يقبل في إسقاط حقها من المهر و الله عز و جل أعلم .
و إن كان الزوجان مملوكين فحكم الواحدة البائنة لا يختلف و أما حكم الثنتين فحكمهما في المملوكين ما هو حكم الثلاث في الحرين بلا خلاف لقوله صلى الله عليه و سلم : [ طلاق الأمة ثنتان و عدتها حيضتان ] و قوله صلى الله عليه و سلم : [ يطلق العبد ثنتين ] .
و إن كان أحدهما حرا و الآخر مملوكا فيعتبر فيه جانب النساء عندنا و عند الشافعي جانب الرجال .
بناء على أن اعتبار الطلاق بهن عندنا و عنده بهم لا بهن و المسألة قد تقدمت و الله عز و جل أعلم