أحكام العدة .
و أما وجوب العدة عليها حيضتان فلأنها بانت و هي أمة فإن كانت ولدت فعليها تمام ثلاث حيض لأنها أم ولد فيجب عليها حيضتان بالنكاح و العتق و حيضة بالعتق خاصة فإن لم يترك وفاء و لم تلد منه فعليها شهران و خمسة أيام دخل بها أو لم يدخل بها إذا لم تكن ولدت منه لأنه لما مات عاجزا لم يفسد نكاحها لأنه مات عبدا فلم يملكها فمات عن منكوحته و هي زوجته أمة فيجب عليها شهران و خمسة أيام عدة الأمة في الوفاة و يستوي فيه الدخول و عدم الدخول لأن العدة عدة الوفاة فإن كانت ولدت منه سعت و سعى ولدها على نجومه فإن عجزا فعدتها شهران و خمسة أيام لما بينا فإن أديا عتقا و عتق المكاتب فإن كان الأداء في العدة فعليها ثلاث حيض مستأنفة من يوم عتقا يستكمل فيها شهرين و خمسة أيام من يوم مات المكاتب لأن الأصل أن المكاتب إذا ترك ولدا و لم يترك وفاء فاكتسب الولد و أدى يحكم بعتق المكاتب في الحال و يستند إلى ما قبل الموت من طريق الحكم لأنه إذا لم يترك وفاء فقد مات عاجزا في الظاهر فلم يحكم بعتقه قبل موته مع العجز و إنما يحكم عند الأداء فيحكم بعتقه للحال ثم يستند فيعتق بعتقه و يجب عليها الحيض بعد العتق بخلاف ما إذا ترك وفاء لأنه إذا كان له ما فالدين و هو بدل الكتابة ينتقل من ذمته إلى المال فيمنع ظهور العجز فإذا أدى يحكم بسقوط الدين الكتابة عنه و سلامته للمولى في آخر جزء من أجزاء حياته فيعتق في ذلك الوقت .
و عند زفر : في الفصلين جميعا يحكم بعتقه قبل الموت و يجعل الولد إذا أدى كالكسب إذا أدى عنه و المسألة تعرف في موضع آخر فإن أديا فعتقا بعدما انقضت العدة بالشهرين و خمسة أيام فعليها ثلاث حيض مستقبلة لأن عدة الوفاة لما انقضت تجدد وجوب عدة أخرى بالعتق فكان عليها أن تعتد بها .
و ذكر ابن سماعة في نوادره عن محمد : إذا اشترى المكاتب امرأته و ولده منها و مات و ترك وفاء من ديون له أو مال فعدتها ثلاث حيض في شهرين و خمسة أيام لأني لا أعلم يؤدي المال فيحكم بعتقه أو ينوي فيحكم بعجزه فوجب الجمع بين العدتين .
و لو تزوج المكاتب بنت مولاه ثم مات المولى و مات المكاتب و ترك وفاء فعليها أربعة أشهر و عشر دخل بها أو لم يدخل بها لأن النكاح عندنا لا يفسد بموت المولى فإذا مات المكاتب عن منكوحته الحرة وجبت عليها عدة الحرائر و إن لم يترك وفاء فعليها ثلاث حيض إن كان قد دخل بها و إن لم يكن دخل بها فلا عدة عليها لأنه مات عاجزا فملكته قبل موته و انفسخ النكاح و وجبت عليها العدة بالفرقة في حال الحياة إن كان دخل بها و إلا فلا .
فصل : و أما أحكام العدة : .
فمنها أنه لا يجوز للأجنبي نكاح المعتدة لقوله تعالى : { و لا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } قيل : أي لا تعزموا على عقدة النكاح و قيل : أي لا تعقدوا عقد النكاح حتى ينقضي ما كتب الله عليها من العدة و لأن النكاح بعد الطلاق الرجعي قائم من كل وجه و بعد الثلاث و البائن قائم من وجه حال قيام العدة لقيام بعض الآثار و الثابت من وجه كالثابت من كل وجه في باب الحرمات احتياطا .
و يجوز لصاحب العدة أن يتزوجها لأن النهي عن التزوج للأجانب لا للأزواج لأن عدة الطلاق إنما لزمتها حقا للزوج لكونها باقية على حكم نكاحه من وجه فإنما يظهر في حق التحريم على الأجنبي لا على الزوج إذ لا يجوز أن يمنع حقه .
و منها : أنه لا يجوز للأجنبي خطبة المعتدة صريحا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها .
أما المطلقة طلاقا رجعيا فلأنها زوجة المطلق لقيام ملك النكاح من كل وجه فلا يجوز خطبتها كما لا تجوز قبل الطلاق .
و أما المطلقة ثلاثا أو بائنا و المتوفى عنها زوجها فلأن النكاح حال قيام العدة قائم من كل وجه لقيام بعض آثاره كالثابت من كل وجه في باب الحرمة و لأن التصريح بالخطبة حال قيام النكاح من وجه وقوف موقف التهمة و رتع حول الحمى و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ] فلا يجوز التصريح بالخطبة في العدة أصلا .
و أما التعريض فلا يجوز أيضا في عدة الطلاق و لا بأس به في عدة الوفاة و الفرق بينهما من وجهين : .
أحدهما : أنه لا يجوز للمعتدة من طلاق الخروج من منزلها أصلا بالليل و لا بالنهار فلا يمكن التعريض على وجه لا يقف عليه الناس و الإظهار بذلك بالحضور إلى بيت زوجها قبيح .
و أما المتوفى عنها زوجها فيباح لها الخروج نهارا فيمكن التعريض على وجه لا يقف عليه سواها .
و الثاني : أن تعريض المطلقة اكتساب عداوة و بغض فيما بينها و بين زوجها إذ العدة من حقه بدليل أنه إذا لم يدخل بها لا تجب العدة و معنى العداوة لا يتقدر بينها و بين الميت و لا بينها و بين ورثته أيضا لأن العدة في المتوفى عنها زوجها ليست لحق الزوج بدليل أنها تجب قبل الدخول بها فلا يكون التعريض في هذه العدة نسبيا إلى العداوة و البغض بينها و بين ورثة المتوفى فلم يكن بها بأس و الأصل في جواز التعريض في عدة الوفاة قوله تعالى : { و لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } .
و اختلف أهل التأويل في التعريض أنه ما هو قال بعضهم : هو أن يقول لها إنك لجميلة و إني فيك لراغب و إنك لتعجبيني أو إني لأرجو أن نجتمع أو ما أجاوزك إلى غيرك و إنك لنافعة و هذا غير سديد و لا يحل لأحد أن يشافه امرأة أجنبية لا يحل له نكاحها للحال بمثل هذه الكلمات لأن بعضها صريح في الخطبة و بعضها صريح في إظهار الرغبة فلا يجوز شيء من ذلك و إنما المرخص هو التعريض و هو أن يرى من نفسه الرغبة في نكاحها بدلالة في الكلام من غير تصريح به إذ التعريض في اللغة هو تضمين الكلام في الدلالة على شيء من غير التصريح به بالقول على ما ذكر في الخبر [ أن فاطمة بنت قيس لما استشارت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي معتدة فقال لها : إذا انقضت عدتك فآذنيني فآذنته في رجلين كانا خطباها فقال لها : أما فلان فإنه لا يرفع العصا عن عاتقه و أما فلان فإنه صعلوك لا مال له فهل لك في أسامة بن زيد ] فكان قوله صلى الله عليه و سلم آذنيني كناية خطاب إلى أن أشار عليه الصلاة و السلام إلى أسامة بن زيد و صرح به .
و عن ابن عباس Bهما أنه قال : التعريض بالخطبة أن يقول لها : أريد أن أتزوج امرأة من أمرها كذا و كذا يعرض لها بالقول و الله عز و جل أعلم .
و منها : حرمة الخروج من البيت لبعض المعتدات دون بعض و جملة الكلام في هذا الحكم أن المعتدة لا تخلو : إما أن تكون معتدة من نكاح صحيح و إما أن تكون معتدة من نكاح فاسد و لا تخلو : إما أن تكون حرة و إمة أن تكون أمة بالغة أو صغيرة عاقلة أو مجنونة مسلمة أو كتابية مطلقة أو متوفى عنها زوجها و الحال حال الاختيار أو حال الاضطرار فإن كانت معتدة من نكاح صحيح و هي حرة مطلقة بالغة عاقلة مسلمة و الحال حال الاختيار فإنها لا تخرج ليلا و لا نهارا سواء كان الطلاق ثلاثا أو بائنا أو رجعيا .
أما في الطلاق الرجعي فلقوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قيل في تأويل قوله عز و جل : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } إلا أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها و قيل : الفاحشة هي الخروج نفسه أي إلا أن يخرجن فيكون خروجهن فاحشة نهى الله تعالى الأزواج عن الإخراج و المعتدات عن الخروج .
و قوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم } و الأمر بالإسكان نهي عن الإخراج و الخروج و لأنها زوجته بعد الطلاق الرجعي لقيام ملك النكاح من كل وجه فلا يباح لها بالخروج كما قبل الطلاق إلا أن بعد الطلاق لا يباح لها الخروج و إن أذن لها بالخروج بخلاف ما قبل الطلاق لأن حرمة الخروج بعد الطلاق لمكان العدة و في العدة حق الله تعالى فلا يملك إبطاله بخلاف ما قبل الطلاق لأن الحرمة ثمة لحق الزوج خاصة فيملك إبطال حق نفسه بالإذن بالخروج و لأن الزوج يحتاج إلى تحصين مائه و المنع من الخروج طريق التحصين للماء لأن الخروج يريب الزوج أنه وطئها غيره فيشتبه النسب إذا حبلت .
و أما في الطلاق الثلاث أو البائن فلعموم النهي و مساس الحاجة إلى تحصين الماء على ما بينا و أما المتوفى عنها زوجها فلا تخرج ليلا و لا بأس بأن تخرج نهارا في حوائجها لأنها تحتاج إلى الخروج بالنهار لاكتساب ما تنفقه لأنه لا نفقة لها من الزوج المتوفى بل نفقتها عليها فتحتاج إلى الخروج لتحصيل النفقة و لا تخرج بالليل لعدم الحاجة إلى الخروج بالليل بخلاف المطلقة فإن نفقتها على الزوج فلا تحتاج إلى الخروج حتى لو اختلعت بنفقة عدتها بعض مشايخنا قالوا : يباح لها الخروج بالنهار للاكتساب لأنها بمعنى المتوفى عنها زوجها .
و بعضهم قالوا : لا يباح لها الخروج لأنها هي التي أبطلت النفقة باختيارها و النفقة حق لها فتقدر على إبطاله فأما لزوم البيت فحق عليها فلا تملك إبطاله و إذا خرجت بالنهار في حوائجها لا تبيت عن منزلها الذي تعتد فيه و الأصل فيه ما روي : [ أن فريعة أخت أبي سعيد الخدري Bه لما قتل زوجها أتت النبي صلى الله عليه و سلم فاستأذنته في الانتقال إلى بني خدرة فقال لها : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ] .
و في رواية لما استأذنت أذن لها ثم دعاها فقال أعيدي المسألة فأعادت فقال : [ لا حتى يبلغ الكتاب أجله ] .
أفادنا الحديث حكمين : إباحة الخروج بالنهار و حرمة الانتقال حيث لم ينكر خروجها و منعها صلى الله عليه و سلم من الانتقال فدل على جواز الخروج بالنهار من غير انتقال .
و روى علقمة : أن نسوة من همدان نعي إليهن أزواجهن فسألن ابن مسعود Bه فقلن : إنا نستوحش فأمرهن أن يجتمعن بالنهار فإذا كان بالليل فلترح كل امرأة إلى بيتها .
و روي عن محمد أنه قال : لا بأس أن تنام عن بيتها أقل من نصف الليل لأن البيتوته في العرف عبارة عن الكون في البيت أكثر الليل فما دونه لا يسمى بيتوته في العرف و منزلها الذي تؤمر بالسكون فيع للاعتداد هو الموضع الذي كانت تسكنه قبل مفارقة زوجها و قبل موته سواء كان الزوج ساكنا فيه أو لم يكن لأن الله تعالى أضاف البيت إليها بقوله عز و جل : { لا تخرجوهن من بيوتهن } و البيت المضاف إليها هو الذي تسكنه و لهذا قال أصحابنا : إنها إذا زارت أهلها فطلقها زوجها كان عليها أن تعود إلى منزلها الذي كانت تسكن فيه فتعتد ثمة لأن ذلك هو الموضع الذي يضاف إليها و إن كانت هي في غيره و هذا في حالة الاختيار .
و أما في حالة الضرورة فإن اضطرت إلى الخروج من بيتها بأن خافت سقوط منزلها أو خافت على متاعها أو كان المنزل بأجرة و لا تجد ما تؤديه في أجرته في عدة الوفاة فلا بأس عند ذلك أن تنتقل و إن كانت تقدر على الأجرة لا تنتقل .
و إن كان المنزل لزوجها و قد مات عنها فلها أن تسكن في نصيبها إن كان نصيبها من ذلك ما تكتفي به في السكنى و تستتر عن سائر الورثة ممن ليس بمحرم لها و إن كان نصيبها لا يكفيها أو خافت على متاعها منهم فلا بأس أن تنتقل و إنما كان كذلك لأن السكنى وجبت بطريق العبادة حقا لله نعالى عليها و العبادات تسقط بالأعذار .
و قد روي : ( أنه لما قتل عمر Bه نقل علي Bه أم كلثوم Bها لأنها كانت في دار الإجارة ) .
و قد روي أن عائشة Bها : ( نقلت أختها أم كلثوم بنت أبي بكر Bه لما قتل طلحة Bه ) فدل ذلك على جواز الانتقال للعذر و إذا كانت تقدر على أجرة البيت في عدة الوفاة فلا عذر فلا تسقط عنها العبادة كالمتيمم إذا قدر على شراء الماء بأن وجد ثمنه وجب عليه الشراء و إن لم يقدر لا يجب لعذر العدم كذا ههنا .
و إذا انتقلت لعذر يكون سكناها في البيت الذي انتقلت إليه بمنزلة كونها في المنزل الذي انتقلت منه في حرمة الخروج عنه لأن الانتقال من الأول إليه كان لعذر فصار المنزل الذي انتقلت إليه كأنه منزلها من الأصل فلزمها المقام فيه حتى تنقضي العدة و كذا ليس للمعتدة من طلاق ثلاث أو بائن أن تخرج من منزلها الذي تعتد فيه إلى سفر إذا كانت معتدة من نكاح صحيح و هي على الصفات التي ذكرناها .
و لا يجوز للزوج أن يسافر بها أيضا لقوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } .
و قوله عز و جل : { هن } كناية عن المعتدات و لأن الزوجية قد زالت بالثلاث و البائن فلا يجوز له المسافرة بها .
و كذا المعتدة من طلاق رجعي ليس لها أن تخرج إلى سفر سواء كان سفر حج فريضة أو غير ذلك لا مع زوجها و لا مع محرم غيره حتى تنقضي عدتها أو يراجعها لعموم قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن } من غير فصل بين خروج و خروج .
و لما ذكرنا أن الزوجية قائمة لأن ملك النكاح قائم فلا يباح لها الخروج لأن العدة لما منعت أصل الخروج فلأن تمنع من خروج مديد و هو الخروج إلى السفر أولى و إنما استوى فيه سفر الحج و غيره و إن كان حج الإسلام فرضا لأن المقام في منزلها واجب لا يمكن تداركه بعد انقضاء العدة و سفر الحج واجب يمكن تداركه بعد انقضاء العدة لأن جميع العمر وقته فكان تقديم واجب لا يمكن تداركه بعد الفوت جمعا بين الواجبين فكان أولى و ليس لزوجها أن يسافر بها عند أصحابنا الثلاثة .
و قال زفر : له ذلك .
و اختلف مشايخنا في تخريج قول زفر : .
قال بعضهم : إنما قال ذلك لأنه قد ثبت من أصل أصحابنا أن الطلاق الرجعي عدم في حق الحكم قبل انقضاء العدة فكان الحال قبل الرجعة و بعدها سواء .
و قال بعضهم : إنما قال ذلك لأن المسافرة بها رجعة عنده دلالة .
و وجهه : أن إخراج المعتدة من بيت العدة حرام فلو لم يكن من قصده الرجعة لم يسافر بها ظاهرا تحرزا من الحرام فيجعل المسافرة بها رجعة دلالة حملا لأمره على الصلاح صيانة له عن ارتكاب الحرام و لهذا جعلنا القبلة و اللمس عن شهوة رجعة كذا هذا .
و لنا : قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } نهى الأزواج عن الإخراج و النساء عن الخروج و به تبين فساد التخريج الأول لأن نص الكتاب العزيز يقتضي حرمة إخراج المعتدة و إن كان ملك النكاح قائما في الطلاق الرجعي فيترك القياس في مقابلة النص و إليه أشار أبو حنيفة فيما روي عنه أنه قال : لا يسافر بها ليس من قبل أنه غير زوج و هو زوج و هو بمنزلة المحرم لكن الله تعالى قال : { لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن } .
و أما التخريج الثاني وهو قولهم : إن مسافرة الزوج بها دلالة الرجعة فممنوع و ما ذكروا أن الظاهر أنه يريد الرجعة تحرزا عن الحرام فذلك فيما كان النهي في التحريم ظاهرا فأما فيما كان خفيا فلا و حرمة إخراج المعتدة عن طلاق رجعي مع قيام ملك النكاح من كل وجه مما لا يخفى عن الفقهاء فضلا عن العوام فلا يثبت الامتناع عنه من طريق الدلالة مع ما أن الخلاف ثابت فيما إذا كان الزوج يقول : إنه لا يراجعها نصا و لا معتبر بالدلالة مع التصريح بخلافها و إذا لم تكن المسافرة بها دلالة الرجعة فلو أخرجها لأخرجها مع قيام العدة و هذا حرام بالنص و قد قالوا : فيمن خرجت محرمة فطلقها الزوج و بينها و بين مصرها أقل من ثلاثة أيام أنها ترجع و تصير بمنزلة المحصر لأنها صارت ممنوعة من المضي في حجها لمكان العدة فأما إذا راجعها الزوج فقد بطلت العدة و عادت الزوجية فجاز له السفر بها .
و يستوي الجواب في حرمة الخروج و الإخراج إلى السفر و ما دون ذلك لعموم النهي إلا أن النهي عن الخروج و الإخراج إلى ما دون السفر أخف لخفة الخروج و الإخراج في نفسه .
و إذا خرج مع امرأته مسافرا فطلقها في بعض الطريق أو مات عنها فإن كان بينها و بين مصرها الذي خرجت منه أقل من ثلاثة أيام و بينها و بين مقصدها ثلاثة أيام فصاعدا رجعت إلى مصرها لأنها لو مضت لاحتاجت إلى إنشاء سفر و هي معتدة و لو رجعت ما احتاجت إلى ذلك فكان الرجوع أولى كما إذا طلقت في المصر خارج بيتها أنها تعود إلى بيتها كذا هذا .
و إن كان بينها و بين مصرها ثلاثة أيام فصاعدا و بينها و بين مقصدها أقل من ثلاثة أيام فإنها تمضي لأنه ليس في المضي إنشاء سفر و في الرجوع إنشاء سفر و المعتدة ممنوعة من السفر و سواء كان الطلاق في موضع لا يصلح للإقامة كالمفازة و نحوها أو في موضع يصلح لها كالمصر و نحوها .
و إن كان بينها و بين مصرها ثلاثة أيام و بينها و بين مقصدها ثلاثة أيام فصاعدا فإن كان الطلاق في المفازة أو في موضع لا يصلح للإقامة بأن خافت على نفسها أو متاعها فهي بالخيار إن شاءت مضت و إن شاءت رجعت لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر سواء كان معها محرم أو لم يكن .
و إذا عادت أو مضت فبلغت أدنى المواضع فهي بالخيار إن شاءت مضت و إن شاءت رجعت إلى التي تصلح للإقامة في مضيها أو رجوعها أقامت فيه و اعتدت إن لم تجد محرما بلا خلاف .
و إن وجدت فكذلك عند أبي حنيفة لأنه لو وجد الطلاق فيه ابتداء لكان لا يجوز لها أن تتجاوزه عنده و إن وجدت محرما فكذا إذا وصلت إليه و إن كان الطلاق في المصر أو في موضع يصلح للإقامة اختلف فيه قال أبو حنيفة : تقيم فيه حتى تنقضي عدتها و لا تخرج بعد انقضاء عدتها إلا مع محرم حجا كان أو غيره و قال أبو يوسف و محمد إن كان معها محرم مضت على سفرها .
وجه قولهما : أن حرمة الخروج ليست لأجل العدة بل لمكان السفر بدليل أنه يباح لها الخروج إذا لم يكن بين مقصدها و منزلها مسيرة ثلاثة أيام و معلوم أن الحرمة الثابتة للعدة لا تختلف بالسفر و غير السفر و إذا كانت الحرمة لمكان السفر تسقط بوجود المحرم .
و لأبي حنيفة أن العدة مانعة من الخروج و السفر في الأصل إلا أن الخروج إلى ما دون السفر ههنا سقط اعتباره لأنه ليس بخروج مبتدأ بل هو خروج مبني على الخروج الأول فلا يكون له حكم نفسه بخلاف الخروج من بيت الزوج لأنه خروج مبتدأ فإذا كان من الجانبين جميعا مسيرة سفر كانت منشئة للخروج باعتبار السفر فيتناوله التحريم و ما حرم لأجل العدة لا يسقط بوجود المحرم .
و أما المعتدة في النكاح الفاسد فلها أن تخرج لأن أحكام العدة مرتبة على أحكام النكاح بل هي أحكام النكاح السابق في الحقيقة بقيت بعد الطلاق و الوفاة و النكاح الفاسد لا يفيد المنع من الخروج فكذا العدة إلا إذا منعها الزوج لتحصين مائة فله ذلك .
و أما الأمة و المدبرة و أم الولد و المكاتبة و المستسعاة على أصل أبي حنيفة فيخرجن في ذلك كله من الطلاق و الوفاة أما الأمة فلما ذكرنا أن حال العدة مبنية على حال النكاح و لا يلزمها المقام في منزل زوجها في حال النكاح كذا في حال العدة و لأن خدمتها حق المولى فلو منعناها من الخروج لأبطلنا حق المولى في الخدمة من غير رضاه و هذا لا يجوز إلا إذا بوأها مولاها منزلا فحينئذ لا تخرج مادامت على ذلك لأنه رضي بسقوط حق نفسه و إن أراد المولى أن يخرجها فله ذلك لأن الخدمة للمولى و إنما كان أعارها للزوج و للمعير أن يسترد العارية و لما ذكرنا أن حال العدة معتبرة بحال النكاح مرتبة عليها و لو بوأها المولى في حال النكاح كان للزوج أن يمنعها من الخروج حتى يبدو للمولى فكذا في حال العدة .
و روى ابن سماعة عن محمد في الأمة إذا طلقها زوجها و كان المولى مستغنيا عن خدمتها فلها أن تخرج و إن لم يأمرها لأنه قال إذا جاز لها أن تخرج بإذنه جاز لها أن تخرج بكل وجه ألا ترى أن حرمة الخروج لحق الله تعالى فلو لزمها لم يسقط بإذنه و كذلك المدبرة لما قلنا و كذلك أم الولد إذا طلقها زوجها أو مات عنها لأنها أمة المولى و كذا إذا عتقت أو مات عنها سيدها لها أن تخرج لأن عدتها عدة وطء فكانت كالمنكوحة نكاحا فاسدا .
و أما المكاتبة فلأن سعايتها حق المولى إذ بها يصل المولى إلى حقه فلو منعناها من الخروج لتعذرت عليها السعاية و المعتق بعضها بمنزلة المكاتبة عند أبي حنيفة و عندهما حرة و لو أعتقت الأمة في العدة يلزمها فيما بقي من عدتها ما يلزم الحرة لأن المانع من الخروج قد زال .
و أما الصغيرة فلها أن تخرج من منزلها إذا كانت الفرقة لا رجعة فيها سواء أذن الزوج لها أو لم يأذن لأن وجوب السكنى في البيت على المعتدة لحق الله تعالى و حق الزوج و حق الله عز و جل لا يجب على الصبي و حق الزوج في حفظ الولد و لا ولد منها و إن كانت الفرقة رجعية فلا يجوز لها الخروج بغير إذن الزوج لأنها زوجته و له أن يأذن لها بالخروج و كذا المجنونة لها أن تخرج من منزلها لأنها غير مخاطبة كالصغيرة إلا أن لزوجها أن يمنعها من الخروج لتحصين مائة بخلاف الصغيرة فإن الزوج لا يملك منعها لأن المنع في حق المجنونة لصيانة الماء لاحتمال الحبل و الصغيرة لا تحبل و المنع من الطلاق الرجعي لكونها زوجته .
و أما الكتابية فلها أن تخرج لأن السكنى في العدة حق الله تعالى من وجه فتكون عبادة من هذا الوجه و الكفار لا يخاطبون بشرائع هي عبادات إلا إذا منعها الزوج من الخروج لتحصين مائه لأن الخروج حق في العدة و هو صيانة مائه عن الاختلاط فإن أسلمت الكتابية في العدة لزمها فيما بقي من العدة ما يلزم المسلمة لأن المانع من اللزوم و هو الكفر و قد زال بالإسلام و كذا المجوسية إذا أسلم زوجها و أبت الإسلام حتى وقعت الفرقة وجبت العدة فإن كان الزوج قد دخل بها لها أن تخرج لما قلنا إلا إذا أراد الزوج منعها من الخروج لتحصين مائه فإذا طلب منها ذلك يلزمها لأن حق الإنسان يجب إبقاؤه عند طلبه و لو قبلت المسلمة ابن زوجها حتى وقعت الفرقة و وجبت العدة إذا كان بعد الدخول فليس لها أن تخرج من منزلها لأن السكنى في العدة فيها حق الله تعالى و هي مخاطبة بحقوق الله عز و جل .
و أما بعد انقضاء العدة فلها أن تخرج إلى ما دون مسيرة سفر بلا محرم لأنها تحتاج إلى ذلك فلو شرط له المحرم لضاق الأمر عليها و هذا لا يجوز و لا يجوز لها أن تخرج إلى مسيرة سفر إلا مع المحرم .
و الأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام إلا و معها زوجها أو ذو رحم محرم منها ] و سواء كان المحرم من النسب أو الرضاع أو المصاهرة لأن النص و إن ورد في ذي الرحم المحرم فالمقصود هو المحرمية و هو حرمة المناكحة بينهما على التأبيد و قد وجد فكان النص الوارد في ذي الرحم المحرم واردا في المحرم بلا رحم دلالة و منها وجوب الإحداد على المعتدة و الكلام في هذا الحكم في ثلاثة مواضع .
أحدها : في تفسير الإحداد و الثاني : في بيان أن الإحداد واجب في الجملة أو لا و الثالث : في بيان شرائط وجوبه