شروط وجوب الإحداد - القسم الثالث .
و إن كان أحدهما في الصحة و الآخر في المرض فإن كان التعليق في الصحة و الشرط في المرض فإن كان التعليق بأمر سماوي بأن قال لها : إذا جاء رأس شهر كذا فأنت طالق فجاء و هو مريض ثم مات و هي في العدة لا ترث عند أصحابنا الثلاثة و عند زفر : ترث .
وجه قوله : أن المعلق بالشرط كالمنجز عند الشرط فيصير قائلا عند الشرط أنت طالق ثلاثا و هو مريض .
و لنا : أن الزوج لم يصنع في مرض موته شيئا لا السبب و لا الشرط ليرد عليه فعله فلم يصر فارا .
و قوله : المعلق بالشرط يجعل منجزا عند الشرط ممنوع بل يقع الطلاق بالكلام السابق من غير أن يقدر باقيا إلى وقت وجود الشرط على ما عرف في مسائل الخلاف و كذا إن كان بفعل أجنبي سواء كان منه بد كقدوم زيد أو لا بد منه كالصلاة المفروضة و الصوم المفروض و نحوهما لما قلنا : إنه لم يوجد من الزوج صنع في المرض لا بمباشرة السبب و لا بمباشرة الشرط و إن كان بفعل نفسه ترث سواء كان فعلا له منه بد كما إذا قال لها : إن دخلت الدار فأنت طالق أو لا بد منه كما إذا قال : إن صليت أنا الظهر فأنت طالق لأنه باشر شرط بطلان حقها فصار متعديا عليها مضرا بها لمباشرة الشرط فيرد عليه رفعا للضرر عنها لأن العذر لا يعتبر في موضع التعدي و الضرر كمن أتلف مال غيره نائما أو خاطئا أو أصابته مخمصة فأكل طعام غيره حتى يجب عليه الضمان و لم يجعل معذورا في مباشرة الفعل الذي لا بد له منه لما قلنا كذا هذا .
و إن كان بفعل المرأة فإن كان فعلا لها منه بد كدخول الدار و كلام زيد و نحو ذلك لا ترث لأنها رضيت ببطلان حقها حيث باشرت شرط البطلان من غير ضرورة و إن كان فعلا لا بد لها منه كالأكل و الشرب و الصلاة المفروضة و الصوم المفروض و حجة الإسلام و كلام أبويها و اقتضاء الديون من غريمها فإنه ترث في قول أبي حنيفة و أبي يوسف .
و عند محمد : لا ترث و كذا إذا علق بدخول دار لا غنى لها عن دخولها فهو على هذا الخلاف كذا روي عن أبي يوسف .
وجه قول محمد : أنه لم يوجد من الزوج مباشرة بطلان حقها و لا شرط البطلان فلا يصير فارا كما لو علق بأمر سماوي أو بفعل أجنبي أو بفعلها الذي لها منه بد .
وجه قولهما : أن المرأة فيما فعلت من الشرط عاملة للزوج من وجه لأن منفعة عملها عائدة عليه لأنه منعها عما لو امتنعت عنه لحق الزوج مأثم فإذا لم تمتنع و فعلت لم يلحقه مأثم فكانت منفعة فعلها عائدة عليه فيجعل ذلك فعلا له من وجه فوجب إبطال فعله صيانة لحقها و من الوجه الذي بقي مقصورا عليها ليس بدليل الرضا .
لأنها فعلته مضطرة لدفع العقوبة عن نفسها في الآخرة لا برضاها وقارا فيمن فوض طلاق امرأته إلى الأجنبي في الصحة فطلقها في المرض أن التفويض إن كان على وجه لا يملك عزله عنه بأنه ملكه الطلاق لا ترث لأنه لما لم يقدر على فسخه بعد مرضه صار الإيقاع في المرض كالإيقاع في الصحة و إن كان التفويض على وجه يمكنه العزل عنه فطلق في المرض ورثت لأنه لما أمكنه عزله بعد مرضه فلم يفعل و صار كأنه أنشأ التوكيل في المرض لأن الأصل في كل تصرف غير لازم أن يكون لبقائه حكم الابتداء و الله عز و جل الموفق .
و على هذا إذا قال في صحته لامرأته إن لم آت البصرة فأنت طالق ثلاثا فلم يأتها حتى مات ورثته لأنه علق طلاقها بعدم إتيانه البصرة فلما بلغ إلى حالة وقع اليأس له عن إتيانه البصرة فقد تحقق العدم و هو مريض في ذلك الوقت فقد باشر شرط بطلان حقها في الميراث فصار فارا فترثه و إن ماتت هي و بقي الزوج ورثها لأنها ماتت و هي زوجته لأن الطلاق لم يقع لعدم شرط الوقوع و هو عدم إتيانه البصرة لجواز أن يأتيها بعد موتها فلم يقع الطلاق فماتت و هي زوجته فيرثها .
و لو قال لها : إن لم تأت البصرة فأنت طالق ثلاثا فلم تأتها حتى مات الزوج ورثته لأنه مات و هو زوجها لعدم وقوع الطلاق لانعدام شرط وقوعه لأنها ما دامت حية يرجى منها الإتيان و إن ماتت هي و بقي الزوج لم يرثها لأنه لم يوجد منها سبب الفرقة في مرضها فلم تصر فارة فلا يرثها .
و لو قال لها : إن لم أطلقك فأنت طالق ثلاثا فلم يطلقها حتى مات ورثته لأنه علق طلاقها بشرط عدم التطليق منه و قد تحقق العدم إذا صار إلى حالة لا يتأتى منه التطليق و هو مريض في تلك الحالة فيصير فارا بمباشرة شرط بطلان حقها فترثه و لو ماتت هي و بقي الزوج لم يرثها لأنها لم تصر فارة لانعدام سبب الفرقة منها في مرضها فلا يرثها .
و كذلك لو قال لها : إن لم أتزوج عليك فأنت طالق ثلاثا فلم يفعل حتى مات ورثته و إن ماتت هي و بقي الزوج لم يرثها لما ذكرنا في الحلف بالطلاق و لو قال لامرأتين له في صحته : إحداكما طالق ثم مرض فعين الطلاق في إحداهما ثم مات ورثته المطلقة لأن وقوع الطلاق المضاف إلى المبهم معلق بشرط البيان هو الصحيح لما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .
و الصحيح : إذا طلاق امرأته بفعل ففعل في مرضه فإنها ترثه و الله عز و جل أعلم .
و قالوا فيمن قال في صحته لأمتين تحته : إحداكما ثنتين فأعتقتا ثم اختار الزوج أن يوقع على إحداهما في مرضه فلا ميراث للمطلقة و لا يملك الزوج الرجعة و هو الجواب عن قول من يقول : إن الطلاق واقع في المعين .
و البيان تعيين من وقع عليه الطلاق لا شرط وقوع الطلاق و يقال : إنه قول محمد لأن الإيقاع و الوقوع حصلا في حال لا حق لواحدة منهما و هي حالة الصحة فلا ترث و لا يملك الزوج الرجعة لأن الإيقاع صادفها و هي أمة [ و طلاق الأمة ثنتان ] على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم فتثبت الحرمة الغليظة فلا يملك الرجعة .
و أما على قول من يقول : الطلاق غير واقع للحال بل معلق وقوعه بالاختيار و هو تفسير الإيقاع في الذمة و يقال : إنه قول أبي يوسف فينبغي أن ترث و يملك الرجعة لأن وقوع الطلاق تعلق بشرط اختياره .
و الصحيح إذا علق طلاق امرأته بفعله ففعل و هو مريض ثم مات و هي في العدة ترثه سواء كان فعلا له منه بد أو لا بد له منه كما إذا قال و هو صحيح إن دخلت أنا الدار فأنت طالق فدخلها و هو مريض يملك الرجعة لأن الطلاق واقع عليها و هي حرة فلا تحرم حرمة غليظة فيملك مراجعتها و لو كانت إحداهما حرة فقال في صحته : إحداكما طالق ثنتين فأعتقت الأمة ثم مرض الزوج فبين الطلاق في الأمة فالطلاق رجعي و للمطلقة الميراث في قول أبي يوسف الأول و هو قول محمد ثم رجع أبو يوسف و قال : إذا اختار أن يوقع على التي كانت أمة فإنها لا تحل له إلا بعد زوج و ذكر هذه المسألة في الزيادات و قال في جوابها : إنها لا تحل له إلا بعد زوج و لها الميراث و لم يذكر خلافا و اختلاف الجواب بناء على اختلاف الطريق فمن جعل الطلاق واقعا في الجملة و جعل البيان تعيين من وقع عليه الطلاق يقول : لا يملك الرجعة لأنه وقع الطلاق عليها و هي أمة فحرمت حرمة غليظة و كان ينبغي أن ترث لأن الإيقاع و الوقوع كل ذلك وجد في حال الصحة لأنه إنما قال بالتوريث لكون الزوج منهما في البيان لجواز أنه كان في قلبه الأخرى وقت الطلاق فبين في هذه فكان متهما في البيان فترث فأما من لا يرى الطلاق واقعا قبل الاختيار يقول يملك الرجعة لأن الطلاقين وقعا و هي حرة فلا تحرم حرمة غليظة و ترث لأن الطلاق رجعي و إن كان التعليق في المرض و الشرط في الصحة بأن طلقها ثلاثا أو بائنا و هو مريض ثم صح ثم مات لم ترث لأنه لما صح تبين أن ذلك المرض لم يكن مرض الموت فلم يوجد الإيقاع و لا الشرط في المرض فكان هذا و الإيقاع في حال الصحة سواء و لهذا كان هذا المرض و الصحة سواء في جميع الأحكام .
و أما وقت الاستحقاق : فهو وقت مرض الموت عندنا لما ذكرنا فيما تقدم فلا بد من معرفة مرض الموت لتفريق الأحكام المتعلقة به فنقول و بالله التوفيق ذكر الكرخي أن المريض مرض الموت هو الذي أضناه المرض و صار صاحب فراش فأما إذا كان يذهب و يجيء و هو مع ذلك يحم / فهو بمنزلة الصحيح .
و ذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة : المريض الذي طلق امرأته كان فارا هو أن يكون مضنى لا يقوم إلا بشدة و هو في حال يعذر في الصلاة جالسا و الحاصل : أن مرض الموت هو الذي يخاف منه الموت غالبا و يدخل في هذه العبارة ما ذكره الحسن عن أبي حنيفة و ما ذكره الكرخي لأنه إذا كان مضنى لا يقدر على القيام إلا بشدة يخشى عليه الموت غالبا و كذا إذا كان صاحب فراش و أما إذا كان يذهب و يجيء و لا يخشى عليه الموت غالبا و إن كان يحم فلا يكون ذلك مرض الموت .
و كذلك صاحب الفالج و السل و النقرس و نحوها إذا طال به ذلك فهو في حكم الصحيح لأن ذلك إذا طال لا يخاف منه الموت غالبا فلم يكن مرض الموت إلا إذا تغير حاله من ذلك و مات من ذلك التغير فيكون حال التغير مرض الموت لأنه إذا تغير يخشى منه الموت غالبا فيكون مرض الموت و كذا الزمن و المقعد و يابس الشق .
و على هذا قالوا في المحصور و الواقف في صف القتال و من وجب عليه القتل في حد أو قصاص فحبس ليقتل إنه كالصحيح لأنه ليس الغالب من هذه الأحوال الموت فإن الإنسان يتخلص منها غالبا لكثرة أسباب الخلاص .
و لو قدم ليقتل أو بارز قرنه و خرج من الصف فهو كالمريض إذ الغالب من هذه الحالة الهلاك فترتب عليه أحكام المريض إذا مات في ذلك الوجه و لو كان في السفينة فهو كالصحيح إلا إذا هاجت الأمواج فيصير في حكم المريض في تلك الحالة لأنه يخشى عليه منها الموت غالبا و لو أعيد المخرج إلى القتل أو إلى الحبس أو رجع المبارزة إلى الصف أو سكن الموج صار في حكم الصحيح كالمريض إذا برىء من مرضه .
و المرأة إذا ما أخذها الطلق فهي في حكم المريض إذا ماتت من ذلك لأن الغالب منه خوف الهلاك و إذا سلمت من ذلك فهي في حكم الصحيح كما إذا كانت مريضة ثم صحت و لو طلقها و هو مريض ثم صح و قام من مرضه و كان يذهب و يجيء و يقوى على الصلاة قائما ثم نكس فعاد إلى حالته التي كان عليها ثم مات لم ترثه في قول أصحابنا الثلاثة و قال زفر : ترثه .
وجه قوله : أن وقت تعلق الحق بالإرث و وقت الموت وقت ثبوت الإرث و المرض قد أحاط بالوقتين جميعا فانقطاعه فيما بين ذلك لا يعتبر لأنه ليس وقت التعليق و لا وقت الإرث .
و لنا : أنه لما صح بعد المرض تبين أن ذلك لم يكن مرض الموت فلم يوجد الطلاق في حال المرض فلا ترث و الله D أعلم .
و أما الذي يخص الطلاق المبهم فهو أن يكون لفظ الطلاق مضافا إلى مجهولة فجملة الكلام فيه أن الجهالة إما إن كانت أصلية و إما إن كانت طارئة أما الجهالة الأصلية فهي أن يكون لفظ الطلاق من الابتداء مضافا إلى المجهول و جهالة المضاف إليه يكون لمزاحمة غيره إياه في الاسم و المزاحم إياه في الاسم لا يخلو : إما أن يكون محتملا للطلاق و إما أن لا يكون محتملا له و المحتمل للطلاق لا يخلو : إما أن يكون ممن يملك الزوج طلاقه أو لا يملك طلاقه فإن كان ممن يملك طلاقه صحت الإضافة بالإجماع نحو أن يقول لنسائه الأربع : إحداكن طالق ثلاثا أو يقول لامرأتين له : إحداكما طالق ثلاثا .
و الكلام فيه يقع في موضعين : .
أحدهما : في بيان كيفية هذا التصرف أعني قوله لامرأتيه : إحداكما طالق .
و الثاني : في بيان الأحكام المتعلقة به .
أما الأول : فقد اختلف مشايخنا في كيفية هذا التصرف قال بعضهم : هو إيقاع الطلاق في غير المعين على معنى أنه يقع الطلاق للحال في واحدة منهما غير عين و اختيار الطلاق في إحداهما و بيان الطلاق فيها تعيين لمن وقع عليها الطلاق و يقال : إن هذا قول محمد .
و قال بعضهم : هو إيقاع الطلاق معلقا بشرط البيان معنى و معناه : أن قوله إحداكما طالق ينعقد سببا للحال لوقوع الطلاق عند البيان و الاختيار لا للحال بمنزلة تعليق الطلاق بسائر الشروط من دخول الدار و غيره غير أن هناك الشرط يدخل على السبب و الحكم جميعا .
و ههنا يدخل على الحكم لا على السبب كما في البيع بشرط الخيار فإذا اختار طلاق إحداهما فقد وجد شرط وقوع الطلاق في حقها فيقع الطلاق عليها بالكلام السابق عند وجود شرط الوقوع و هو الاختيار كأنه علقه به نصا فقال : إن اخترت طلاق إحداكما فهي طالق و يقال : إن هذا قول : أبي يوسف .
و المسائل متعارضة في الظاهر بعضها يؤيد القول / الأول و بعضها ينصر القول الثاني و نحن نشير إلى ذلك ههنا و نذكر وجه كل واحد من القولين و ترجيح أحدهما على الآخر و تخريج المسائل عليه في كتاب العتاق إن شاء الله تعالى .
و قال بعضهم : البيان إظهار من وجه و إنشاء من وجه .
و زعموا : أن المسائل تخرج عليه و إنه كلام لا يعقل بل هو محال و البناء على المحال محال .
و أما الأحكام المتعلقة به فنوعان : نوع يتعلق به في حال حياة الزوج و نوع يتعلق به بعد مماته .
أما النوع الأول : فنقول إذا قال لامرأتيه : إحداكما طالق ثلاثا فله خيار التعيين يختار أيهما شاء للطلاق لأنه إذا ملك الإبهام ملك التعيين و لو خاصمناه و استعدتا عليه القاضي حتى يبين أعدى عليه و كلفه البيان و لو امتنع أجبره عليه بالحبس لأن لكل واحدة منهما حقا أما استيفاء حقوق النكاح منه .
و أما التوصل إلى زوج آخر و حق الإنسان يجب إيفاؤه عند طلبه و إذا امتنع من عليه الحق يجبره القاضي على الإيفاء و ذلك بالبيان ههنا فكان البيان حقها لكونه وسيلة إلى حقها و وسيلة حق الإنسان حقه و الجبر على البيان يؤيد القول الأول لأن الوقوع لو كان معلقا بشرط البيان لما أجبر إذ الحالف لا يجبر على تحصيل الشرط و لأن البيان إظهار الثابت و إظهار الثابت و لا ثابت محال ثم البيان نوعان : نص و دلالة .
أما النص : فنحو أن يقول : إياها عنيت أو نويت أو أردت أو ما يجري مجرى هذا و لو قال : إحداكما طالق ثلاثا ثم طلق إحداهما عينا بأن قال : لها أنت طالق و قال : أردت به بيان الطلاق الذي لزمني لا طلاقا مستقبلا كان القول قوله لأن البيان واجب عليه .
و قوله : أنت طالق يحتمل البيان لأنه إن جعل إنشاء في الشرع لكنه يحتمل الإخبار فيحتمل البيان إذ هو إخبار عن كائن و هذا أيضا ينصر القول الأول لأن الطلاق لو لم يكن واقعا لم يصدق في إرادة البيان للواقع .
و أما الدلالة : فنحو أن يفعل أو يقول ما يدل على البيان نحو أن يطأ إحداهما أو يقبلها أو يطلقها أو يحلف بطلاقها أو يظاهر منها لأن ذلك كله لا يجوز إلا في المنكوحة فكان الإقدام عليه تعيينا لهذه بالنكاح و إذا تعينت هي للنكاح تعينت الأخرى للطلاق ضرورة انتفاء المزاحم و إذا كن أربعا أو ثلاثا تعينت الباقيات لبيان الطلاق في واحدة منهن نصا أو دلالة بالفعل أو بالقول بأن يطأ الثانية و الثالثة فتتعين الرابعة للطلاق أو يقول : هذه منكوحة .
و هذه الرابعة إن كن أربعا و إن كن ثلاثا تتعين الثالثة للطلاق بوطء الثانية أو بقوله الثانية هذه منكوحة .
و كذلك إذا ماتت إحداهما قبل البيان طلقت الباقة لأن التي ماتت خرجت عن احتمال البيان فيها لأن الطلاق يقع عند البيان و قد خرجت عن احتمال الطلاق فخرجت عن احتمال البيان فتعينت الباقية للطلاق و هذا يؤيد القول الثاني لأن الطلاق لو كان وقع في غير المعين لما افترقت الحال في البيان بين الحياة و الموت إذ هو إظهار ما كان فرق بين هذا و بين ما إذا باع أحد عبديه على أن المشتري بالخيار يأخذ أيهما شاء و يرد الآخر فمات أحدهما قبل البيان أنه لا يتعين الباقي منهما للبيع بل يتعين الميت للبيع و يصير المشتري مختارا للبيع في الميت قبيل الموت و يجب عليه رد الباقي إلى البائع .
و وجه الفرق : أن هناك وجد المبطل للخيار قبيل الموت و هو حدوث عيب لم يكن وقت الشراء و هو المرض إذ لا يخلو الإنسان عن مرض قبيل الموت عادة و حدوث العيب في المبيع الذي فيه خيار مبطل للخيار فبطل الخيار قبيل الموت و دخل العبد في ملك المشتري فتعين الآخر للرد ضرورة و هذا المعنى لم يوجد في الطلاق لأن حدوث العيب في المطلقة لا يوجب بطلان الخيار .
و لو ماتت إحداهما قبل البيان فقال الزوج إياها عنيت لم يرثها و طلقت الباقية لأنها كما ماتت تعينت الباقية للطلاق فإذا قال : عنيت الأخرى فقد أراد صرف الطلاق عن الباقية فلا يصدق فيه و يصدق في إبطال الإرث لأن ذلك حقه و الإنسان في إقراره بإبطال حق نفسه مصدق لانتفاء التهمة .
و كذلك إذا ماتتا جميعا أو إحداهما بعد الأخرى ثم قال : عنيت التي ماتت أولا لم يرث منهما أما من الثانية فلتعينها للطلاق بموت الأولى و أما من الأولى فلإقراره أنه لا حق له في ميراثها و هو مصدق على نفسه و لو ماتتا جميعا بأن سقط عليهما حائط أو غرقتا يرث / من كل واحدة منهما نصف ميراثها لأنه لا يستحق ميراث كل واحدة منهما في حال و لا يستحقه في حال فيتنصف كما هو أصلنا في اعتبار الأحوال .
و كذلك إذا ماتتا جميعا أو إحداهما بعد الأخرى لكن لا يعرف التقدم و التأخر فهذا بمنزلة موتهما معا و لو ماتتا معا ثم عين إحداهما بعد موتهما و قال : إياها عنيت لا يرث منها و يرث من الأخرى نصف ميراث زوج لأنهما لما ماتتا فقد استحق من كل واحدة منهما نصف ميراث لما بينا فإذا أراد إحداهما عينا فقد أسقط حقه من ميراثها و هو النصف فيرث من الأخرى النصف و لو ارتدتا جميعا قبل البيان فانقضت عدتهما و بانتا لم يكن له أن يبين الطلاق الثلاث في إحداهما أما البينونة : فلأن الملك قد زال من كل وجه بالردة و انقضاء العدة و إذا زال الملك لا يملك البيان و هذا يدل على أن الطلاق لم يقع قبل البيان إذ لو وقع لصح البيان بعد البينونة لأن البيان حينئذ يكون تعيين من وقع عليه الطلاق فلا تفتقر صحته إلى قيام الملك و لو كانتا رضيعتين فجاءت امرأة فأرضعتهما قبيل البيان بانتا و هذا دليل ظاهر على صحة القول الثاني لأنه لو وقع الطلاق على إحداهما لصارت أجنبية فلا يتحقق الجمع بين الأختين بالرضاع نكاحا فينبغي أن لا تبينا و قد بانتا و إذا بانتا بالرضاع لم يكن له أن يبين الطلاق في إحداهما لما قلنا و هو دليل على ما قلنا .
و لو بين الطلاق في إحداهما تجب عليها العدة من وقت البيان كذا روي عن أبي يوسف حتى لو راجعها بعد ذلك صحت رجعته و كذا بين الطلاق في إحداهما و قد كانت حاضت قبل البيان ثلاث حبض لا تعتد بما حاضت قبله و تستأنف العدة من وقت البيان و هذا يدل على أن الطلاق لم يكن واقعا قبل البيان .
و روي عن محمد : أنه تجب العدة من وقت الإرسال و تنقضي إذا حاضت ثلاث حيض من ذلك الوقت و لا تصح الرجعة بعد ذلك و هذا يدل على أن الطلاق نازل في غير المعين و من هذا حقق القدوري الخلاف بين أبي يوسف و محمد في كيفية هذا التصرف على ما ذكرنا من القولين و استدل على الخلاف بمسألة العدة .
و لو قال لامرأتين له : إحداكما طالق واحدة و الأخرى طالق ثلاثا فحاضت إحداهما ثلاث حيض بانت بواحدة و الأخرى طالق ثلاثا لأن كل واحدة منهما مطلقة إلا أن إحداهما بواحدة و الأخرى بثلاث فإذا حاضت إحداهما ثلاث حيض فقد زال ملكه عنها بيقين فخرجت عن احتمال بيان الثلاث فيها فتعينت الأخرى للثلاث ضرورة و لو كان تحته أربع نسوة لم يدخل بهن فقال : إحداكما طالق ثلاثا ثم تزوج أخرى جاز له و إن كان مدخولا بهن فتزوج أخرى لم يجز و هذا حجة القول الأول لأن الطلاق لو لم يكن واقعا في إحداهن لما جاز نكاح امرأة أخرى في الفصل الأول لأنه يكون نكاح الخامسة و لجاز في الفصل الثاني لأنه يكون نكاح الرابعة و لما كان الأمر على القلب من ذلك دل أن الطلاق لم يكن واقعا قبل البيان .
و لو قال لامرأتين له في الصحة إحداهما طالق ثم بين في إحداهما في مرضه يصير فارا و ترثه المطلقة مع المنكوحة و يكون الميراث بينهما نصفين و هذه حجة القول الثاني لأن الطلاق لو كان واقعا في إحداهما غير عين لكان وقوع الطلاق في الصحة فينبغي أن لا يصير فارا كما إذا طلق واحدة منهما عينا و الله عز و جل أعلم .
و أما الذي يتعلق بما بعد موت الزوج فأنواع ثلاثة : حكم المهر و حكم الميراث و حكم العدة إذا مات قبل البيان أما حكم المهر فإن كانتا مدخولا بهما فلكل واحدة منهما جميع المهر لأن كل واحدة منهما تستحق جميع المهر منكوحة كانت أو مطلقة أما المنكوحة فلا شك فيها .
و أما المطلقة فلأنها مطلقة بعد الدخول و إن كانتا غير مدخول بهما فلهما مهر و نصف مهر بينهما لكل واحدة منهما ثلاثة أرباع المهر لأن كل واحدة منهما يحتمل أن تكون منكوحة و يحتمل أن تكون مطلقة فإن كانت منكوحة تستحق جميع المهر لأن الموت بمنزلة الدخول و إن كانت مطلقة تستحق النصف لأن النصف قد سقط بالطلاق قبل الدخول فلكل واحدة منهما كل المهر في حال و النصف في حال و ليست إحداهما بأولى من الأخرى فيتنصف فيكون لكل واحدة ثلاثة أرباع مهر .
هذا إذا كان قد سمى لهما مهرا فإن كان لم يسم لهما مهرا فلهما مهر و متعة بينهما لأن كل واحدة منهما إن كانت منكوحة فلها كمال مهر المثل و إن كانت مطلقة فلها كمال المتعة فكل واحدة منهما تستحق كمال مهر المثل في حال و لا تستحق شيئا من مهر المثل في حال و كذا المتعة فتنتصف كل واحدة منهما فيكون لهما / مهر و متعة بينهما لكل واحدة منهما نصف مهر المثل و نصف متعة .
و إن كان سمى لإحداهما مهرا و لم يسم للأخرى فللمسمى لها ثلاثة أرباع المهر و للتي لم يسم لها مهرا نصف مهر المثل لأن المسمى لها إذا كانت منكوحة فلها جميع المسمى و إن كانت مطلقة فلها النصف فينتصف كل ذلك فيكون لها ثلاثة أرباع المهر المسمى و التي لم يسم لها إن كانت منكوحة فلها جميع مهر المثل و إن كانت مطلقة فليس لها من مهر المثل شيء فاستحقت في حال و لم تستحق شيئا منه في حال فيكون لها نصف مهر المثل .
و القياس : أن يكون لها نصف المتعة أيضا و هو قول زفر و في الاستحسان ليس لها إلا نصف مهر المثل .
وجه القياس : أنها إن كانت منكوحة فلها كمال مهر المثل و إن كانت مطلقة فلها كمال المتعة فكان لها كمال مهر المثل في حال و كمال المتعة في حال فينتصف كل واحدة منهما فيكون لها نصف مهر مثلها و نصف متعتها .
وجه الاستحسان : أن نصف مهر المثل إذا وجب لها امتنع وجوب المتعة لأن المتعة بدل عن نصف مهر المثل و البدل و المبدل لا يجتمعان .
هذا إذا كانت المسمى لها مهر المثل معلومة فإن لم تكن معلومة فلها مهر و ربع مهر إذا كان مهر مثلها سواء و يكون بينهما لأن كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المسمى لها المهر فيكون لها ثلاثة أرباع المهر لما ذكرنا و يحتمل أن تكون غير المسمى لها المهر فيكون لها نصف مهر المثل ففي حال يجب ثلاثة أرباع المهر و في حال يجب نصف المهر فيتنصف كل ذلك فيكون لهما مهر و ربع مهر بينهما لكل واحدة منهما نصف مهر و ثمن مهر نصف مهر المسمى و ثمن مهر المثل و لا تجب المتعة استحسانا .
و القياس : أن يجب نصف المتعة أيضا و يكون بينهما و هو قول زفر .
وجه القياس و الاستحسان على نحو ما ذكرنا و الله عز و جل أعلم .
و هذه المسائل : تدل على أن الطلاق قد وقع في إحداهما غير عين وقت الإرسال حيث شاع فيهما بعد الموت إذ الواقع يشيع و الله عز و جل الموفق .
و أما حكم الميراث فهو أنهما يرثان منه ميراث امرأة واحدة و يكون بينهما نصفين في الأحوال كلها لأن إحداهما منكوحة بيقين و ليست إحداهما بأولى من الأخرى فيكون قدر ميراث امرأة واحدة بينهما فإن كان للزوج امرأة أخرى سواهما لم يدخلها في الطلاق فلها نصف ميراث النساء و لهما النصف لأنه لا يزاحمها إلا واحدة منهما لأن المنكوحة واحدة منهما و الأخرى مطلقة فكان لها النصف ثم النصف الثاني يكون بين الأخريين نصفين إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى .
و أما حكم العدة فعلى كل واحدة منهما عدة الوفاة و عدة الطلاق لأن إحداهما منكوحة و الأخرى مطلقة و على المنكوحة عدة الوفاة لا عدة الطلاق و على المطلقة عدة الطلاق لا عدة الوفاة فدارت كل واحدة من العدتين في حق كل واحدة من المرأتين بين الوجوب و عدم الوجوب العدة يحتاط في إيجابها و من الاحتياط القول بوجوبها على كل واحدة منهما و الله تعالى الموفق .
و إن كان ممن لا يملك طلاقها لا تصح الإضافة بالإجماع بأن جمع بين امرأته و بين أجنبية فقال إحداكما طالق حتى لا تطلق زوجته لأن هذا الكلام يستعمل للإنشاء و يستعمل للإخبار و لو حمل على الإخبار لصح لأنه يخبر أن إحداهما طالق و الأمر على ما أخبر و لو حمل على الإنشاء لم يصح لأن إحداهما و هي الأجنبية لا تحتمل الإنشاء لعدم النكاح و لا طلاق قبل النكاح على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان حمله على الإخبار أولى .
هذا إذا كان المزاحم في الاسم محتملا للطلاق فأما إذا لم يكن نحو ما إذا جمع بين امرأته و بين حجر أو بهيمة فقال إحداكما طالق فهل تصح الإضافة اختلف فيه قال أبو حنيفة و أبو يوسف : تصح حتى يقع الطلاق على امرأته و قال محمد : لا تصح و لا تطلق امرأته .
وجه قوله : أن الجمع بين المنكوحة و غير المنكوحة يوجب شكا في إيقاع الطلاق على المنكوحة كما لو جمع بين امرأة و بين أجنبية و قال : إحداكما طالق فلا يقع مع الشك .
و لهما : أنه إذا جمع بين من يحتمل الطلاق و بين من لا يحتمل الطلاق في الاسم و أضاف الطلاق إليهما فالظاهر أنه أراد به من يحتمل الطلاق لا من لا يحتمل الطلاق لأن إضافة الطلاق إلى من لا يحتمله سفه فانصرف مطلق الإضافة إلى زوجته بدلالة الحال بخلاف ما إذا جمع بينها و بين أجنبية لأن الأجنبية محتملة للطلاق في الجملة و هي محتملة للطلاق في الحال إخبارا إن كانت لا تحتمله إنشاء و في الصرف إلى الإخبار صيانة كلامه عن اللغو فصرف إليه و لو جمع بين زوجته و بين رجل فقال : إحداكما طالق لم يصح في قول أبي حنيفة حتى لا تطلق زوجته و قال أبو يوسف : يصح و تطلق زوجته .
وجه قول أبي يوسف : أن الرجل لا يحتمل الطلاق ألا ترى أنه لو قال لامرأته : أنا منك طالق لم يصح فصار كما إذا جمع بين امرأته و بين حجر أو بهيمة و قال إحداكما طالق .
و لأبي حنيفة : أن الرجل يحتمل الطلاق في الجملة ألا ترى أنه يحتمل البينونة حتى لو قال لامرأته : أنا منك بائن و نوى الطلاق يصح و الإبانة من ألفاظ الطلاق فإن الطلاق نوعان : رجعي و بائن و إذا كان محتملا للطلاق في الجملة حمل كلامه على الإخبار كما إذا جمع بينها و بين أجنبية و قال إحداكما طالق و لو جمع بين امرأته و بين امرأة ميتة فقال : أنت طالق أو هذه و أشار إلى الميتة لم تصح الإضافة بالإجماع حتى لا تطلق زوجته الحية لأن الميتة من جنس ما يحتمل الطلاق و قد كانت محتملة للطلاق قبل موتها فصار كما لو جمع بينها و بين أجنبية و الله عز و جل الموفق