كتاب الظهار .
يحتاج في هذا الكتاب إلى معرفة ركن الظهار و إلى معرفة شرائط الركن و إلى معرفة حكم الظهار و إلى معرفة ما ينتهي به حكمه و إلى معرفة كفارة الظهار أما ركن الظهار : فهو اللفظ الدال على الظهار و الأصل فيه قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي يقال : ظاهر الرجل من امرأته و أظاهر و تظاهر و أظهر و تظهر أي قال لها أنت علي كظهر أمي و يلحق به قوله : أنت علي كبطن أمي أو فخذ أمي أو فرج أمي و لأن معنى الظهار تشبيه الحلال بالحرام و لهذا وصفه الله تعالى بكونه { منكرا من القول و زورا } فقال سبحانه و تعالى في آية الظهار { و إنهم ليقولون منكرا من القول و زورا } و بطن الأم و فخذها في الحرمة مثل ظهرها و لفرجها مزيد حرمة فتزداد جنايته في كون قوله : { منكرا من القول وزورا } فيتأكد الجزاء و هو الحرمة .
فصل : و أما الشرائط فأنواع / بعضها يرجع إلى المظاهر و بعضها يرجع إلى المظاهر منه و بعضها يرجع إلى المظاهر به أما الذي يرجع إلى المظاهر فأنواع : منها أن يكون عاقلا إما حقيقة أو تقديرا فلا يصح ظهار المجنون و الصبي الذي لا يعقل لأن حكم الحرمة و خطاب التحريم لا يتناول من لا يعقل و منها : أن لا يكون معتوها و لا مدهوشا و لا مبرسما و لا مغمى عليه و لا نائما فلا يصح ظهار هؤلاء كما لا يصح طلاقهم و ظهار السكران كطلاقه و هو على التفصيل الذي ذكرناه في كتاب الطلاق .
و منها : أن يكون بالغا فلا يصح ظهار الصبي و إن كان عاقلا لما مر في ظهار المجنون و لأن الظهار من التصرفات الضارة المحضة فلا يملكه الصبي كما لا يملك الطلاق و العتاق و غيرهما من التصرفات التي هي ضارة محضة .
و منها : أن يكون مسلما فلا يصح ظهار الذمي و هذا عندنا .
و عند الشافعي : إسلام المظاهر ليس بشرط لصحة ظهاره و يصح ظهار الذمي .
و احتج بعموم قوله عز و جل : { و الذين يظاهرون من نسائهم } من غير فصل بين المسلم و الكافر و لأن الكافر من أهل الظهار لأن حكمة الحرمة و الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات و لهذا كان أهلا للطلاق فكذا الظهار .
و لنا : أن عمومات النكاح لا يقتضي حل وطء الزوجات على الأزواج نحو قوله تعالى : { و الذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } .
و قوله عز و جل : { نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم } و الظهار لا يوجب زوال النكاح و الزوجية لأن لفظ الظهار لا ينبىء عنه و لهذا لا يحتاج إلى تجديد النكاح بعد الكفارة لأن المسلم صار مخصوصا فمن ادعى تخصيص الذمي يحتاج إلى دليل و لأن حكم الظهار حرمة مؤقتة بالكفارة أو بتحرير يخلفه الصوم و الكافر ليس من أهل هذا الحكم فلا يكون من أهل الظهار و قد خرج الجواب عما ذكره من المعنى .
و أما آية الظهار فإنها تتناول المسلم لدلائل : .
أحدها : أن أول الآية خاص في حق المسلمين و هو قوله عز و جل : { الذين يظاهرون منكم } .
فقوله تعالى { منكم } كناية عن المسلمين ألا ترى إلى قوله سبحانه و تعالى : { إن الله لغفور رحيم } و الكافر غير حائز المغفرة .
و قوله تعالى : { و الذين يظاهرون من نسائهم } بناء على الأول .
و الثاني : أن فيها أمرا بتحرير يخلفه الصيام إذا لم يجد الرقبة و الصيام يخلفه الطعام إذا لم يستطع و كل ذلك لا يتصور إلا في حق المسلم .
و الثالث : أن المسلم مراد من هذه الآية بلا شك .
و المذهب عندنا : أن العام يبنى على الخاص و متى بني العام على الخاص خرج المسلم عن عموم الآية و لم يقل به أحد و أما كونه حرا فليس بشرط لصحة الظهار فيصح ظهار العبد لأن الظهار تحرم و العبد من أهل التحريم ألا ترى أنه يملك التحريم بالطلاق فكذا بالظهار و لعموم قوله عز و جل : { و الذين يظاهرون من نسائهم } .
فإن قيل : هذه الآية لا تتناول العبد لأنه جعل حكم الظهار التحرير بقوله تعالى : { فتحرير رقبة } و العبد ليس من أهل التحرير فلا يكون من أهل حكم الظهار فلا يكون من أهل الظهار فلا يتناوله نص الظهار فالجواب أنه ممنوع أنه جعل حكم الظهار التحرير على الإطلاق بل جعل حكمه في حق من وجد فأما في حق من لم يجد فإنما جعل حكمه الصيام بقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } و العبد غير واجد لأنه لا يكون واجدا إلى بالملك و العبد ليس من أهل الملك فلا يكون واجدا فلا يكون الإعتاق حكم الظهار في حقه [ إذ لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم ] على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يجوز له التفكير بالإعتاق و كذا بالإطعام إذ الإطعام على وجه التمليك أو الإباحة و الإباحة لا تتحقق بدون الملك .
و لو كفر العبد بهما بإذن مولاه أو المولى كفر عنه بهما لم يجز لأن الملك لم يثبت له فلا يقع الإعتاق و الإطعام عنه بخلاف الفقير إذا أعتق عنه غيره أو أطعم فإنه يجوز لأن الفقير من أهل الملك فثبت الملك له أولا ثم يؤدي عنه بطريق النيابة و العبد ليس من أهل الملك فلا يملك المؤدى فلا يجزيه في الكفارة إلا الصيام و ليس لمولاه أن يمنعه من صيام الظهار بخلاف صيام النذر و كفارة اليمين لأن للمولى أن يمنعه عن ذلك لأن صوم الظهار قد تعلق به حق المرأة لأنه يتعلق به استباحة وطئها الذي استحقه بعقد النكاح فكان منعه إياها عن الصيام منعا له عن إيفاء حق مستحق للغير فلا يملك ذلك بخلاف صوم النذر و كفارة اليمين لأنه لم يتعلق به حق أحد فكان العبد بالصوم متصرفا في المنافع المملوكة لمولاه من غير إذنه لا حق لأحد فيه فكان له منعه عن ذلك سواء كان العبد قنا أو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا أو مستسعى على أصل أبي حنيفة لما قلنا و كذا كونه جادا فليس / بشرط لصحة الظهار حتى يصح ظهار الهازل كما يصح طلاقه و كذا كونه طائعا أو عامدا ليس بشرط عندنا فيصح ظهار المكره و الخاطىء كما يصح طلاقهما .
و عند الشافعية : شرط فلا يصح ظهارهما كما لا يصح طلاقهما و هذه من مسائل الإكراه .
و كذا التكلم بالظهار ليس بشرط حتى يصير مظاهرا بالكتابة المستبينة و الإشارة المعلومة من الأخرس .
و كذا الخلو عن شرط الخيار ليس بشرط فيصح ظهار شارط الخيار لما ذكرنا في كتاب الطلاق .
و أما كون المظاهر رجلا فهل هو شرط صحة الظهار ؟ قال أبو يوسف : ليس بشرط .
و قال محمد : شرط حتى لو قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أمي تصير مظاهرة عند أبي يوسف و عليها كفارة الظهار و عند محمد لا تصير مظاهرة و لما حكي قولهما للحسن بن زياد فقال : هما شيخا الفقه أخطآ عليها كفارة اليمين إذا وطئها زوجها .
وجه قول الحسن : أن الظهار تحريم فتصير كأنها قالت لزوجها أنت علي حرام و لو قالت ذلك تلزمها الكفارة إذا وطئها كذا هذا .
وجه قول محمد : أن الظهار تحريم بالقول و المرأة لا تملك التحريم بالقول ألا ترى أنها لا تملك الطلاق فكذا الظهار و لأبي يوسف أن الظهار تحريم يرتفع بالكفارة و هي من أهل الكفارة فكانت من أهل الظهار و الله أعلم .
و منها : النية عند أبي حنيفة و أبي يوسف في بعض أنواع الظهار دون بعض و بيان ذلك : أنه لو قال لامرأته أنت علي كظهر أمي كان مظاهرا سواء نوى الظهار أو لا نية له أصلا لأن هذا صريح في الظهار إذ هو ظاهر المراد مكشوف المعنى عند السماع بحيث يسبق إلى أفهام السامعين فكان صريحا لا يفتقر إلى النية كصريح الطلاق في قوله أنت طالق .
و كذا إذا نوى به الكرامة أو المنزلة أو الطلاق أو تحريم اليمين لا يكون إلا ظهارا لأن هذا اللفظ صريح في الظهار فإذا نوى به غيره فقد أراد صرف اللفظ عما وضع له إلى غيره فلا ينصرف إليه كما إذا قال لامرأته أنت طالق و نوى به الطلاق عن الوثاق أو الطلاق عن العمل أنه لا ينصرف إليه و يقع الطلاق لما قلنا كذا هذا .
و لو قال : أردت به الإخبار عما مضى كذبا لا يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر لأن اللفظ في الشرع جعل إنشاءا فلا يصدق في إرادة الإخبار عنه كقوله أنت طالق إذا أراد به الإخبار عن الماضي كاذبا و لا يسع للمرأة أن تصدقه كما لا يسع القاضي لأن القاضي إنما لا يصدقه لادعائه خلاف الظاهر و هذا موجود في حق المرأة و يصدق فيما بينه و بين الله تعالى لأنه نوى ما يحتمله كلامه و كذا إذا قال أنا منك مظاهر و قد ظاهرتك فهو مظاهر نوى به الظهار أو لا نية له لأن هذا اللفظ صريح في الظهار أيضا إذ هو مكشوف المراد عند السامع فلا يفتقر إلى النية و أي شيء نوى لا يكون إلا ظهارا و إن أراد به الخبر عن الماضي كاذبا لا يصدق قضاء و يصدق ديانة لما قلنا كما لو قال أنت مطلقة و قد طلقتك .
و كذا لو قال : أنت علي كبطن أمي أو كفخذ أمي أو كفرج أمي فهذا و قوله : أنت علي كظهر أمي على السواء لأنه يجري مجرى الصريح لما ذكرنا فيما تقدم و لو قال لها : أنت علي كأمي أو مثل أمي يرجع إلى نيته فإن نوى به الظهار كان مظاهرا و إن نوى به الكرامة كان كرامة و إن نوى به الطلاق كان طلاقا و إن نوى به اليمين كان إيلاء لأن اللفظ يحتمل كل ذلك إذ هو تشبيه المرأة بالأم فيحتمل التشبيه في الكرامة و المنزلة كأمي و يحتمل التشبيه في الحرمة ثم يحتمل ذلك حرمة الظهار و يحتمل حرمة الطلاق و حرمة اليمين فأي ذلك نوى فقد نوى ما يحتمله لفظه فيكون على ما نوى و إن لم يكن له نية لا يكون ظهارا عند أبي حنيفة و هو قول أبي يوسف إلا أن عند أبي حنيفة لا يكون شيئا .
و عند أبي يوسف : يكون تحريم اليمين و عند محمد يكون ظهارا