بيان حكم اللعان .
فصل : و أما حكم اللعان فالكلام في هذا الفصل في موضعين : .
أحدهما : في بيان حكم اللعان .
و الثاني : في بيان ما يبطل حكمه .
أما بيان حكم اللعان فللعان حكمان أحدهما أصلي و الآخر ليس بأصلي أما الحكم الأصلي للعان فنذكر أصل الحكم و وصفه .
أما الأول : فنقول : / اختلف العلماء فيه قال أصحابنا الثلاثة هو وجوب التفريق ما داما على حال اللعان لا وقوع الفرقة بنفس اللعان من غير تفريق الحاكم حتى يجوز طلاق الزوج و ظهاره و إيلاؤه و يجري التوارث بينهما قبل التفريق .
و قال زفر و الشافعي : هو وقوع الفرقة بنفس اللعان إلا أن عند زفر لا تقع الفرقة ما لم يلتعنا .
و عند الشافعي : تقع الفرقة بلعان الزوج قبل أن تلتعن المرأة وجه قول الشافعي : أن الفرقة أمر يختص بالزوج ألا ترى أنه هو المختص بسبب الفرقة فلا يقف وقوعها على فعل المرأة كالطلاق .
و احتج زفر بما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ] و في بقاء النكاح اجتماعهما و هو خلاف النص .
و لنا : ما روى نافع [ عن ابن عمر Bهما : ( أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم و انتفى من ولدها ففرق النبي صلى الله عليه و سلم بينهما و ألحق الولد بالمرأة ] ) .
[ و عن ابن عباس Bهما : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم لما لاعن بين عاصم بن عدي و بين امرأته فرق بينهما ) ] .
و روي : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لاعن بين العجلاني و بين امرأته فلما فرغا من اللعان فرق بينهما ] ثم قال عليه الصلاة و السلام : [ الله يعلم أن أحدكما لكاذب فهل منكما تائب ] قال ذلك ثلاثا فأبيا ففرق بينهما .
فدلت الأحاديث على أن الفرقة لا تقع بلعان الزوج و لا بلعانها إذ لو وقعت لما احتمل التفريق من رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد وقوع الفرقة بينهما بنفس اللعان و لأن ذلك النكاح كان ثابتا قبل اللعان و الأصل أن الملك متى ثبت لإنسان لا يزول إلا بإزالته أو بخروجه من أن يكون منتفعا به في حقه لعجزه عن الانتفاع به و لم توجد الإزالة من الزوج لأن اللعان لا ينبىء عن زوال الملك لأنه شهادة مؤكدة باليمين أو يمين و كل واحد منهما لا ينبىء عن زوال الملك و لهذا لا يزول بسائر الشهادات و الأيمان و القدرة على الامتناع ثابتة فلا تقع الفرقة بنفس اللعان و قد خرج الجواب عما ذكره الشافعي ثم قول الشافعي مخالف لآية اللعان لأن الله تعالى خاطب الأزواج باللعان بقوله عز و جل : { و الذين يرمون أزواجهم } إلى آخر ما ذكر فلو ثبت الفرقة بلعان الزوج فالزوجة تلاعنه و هي غير زوجة و هذا خلاف النص .
و أما زفر فلا حجة له في الحديث لأن المتلاعن متفاعل من اللعن و حقيقة المتفاعل المتشاغل بالفعل فبعد الفراغ منه لا يبقى فاعلا حقيقة فلا يبقى ملاعنا حقيقة فلا يصح التمسك به لإثبات الفرقة عقيب اللعان فلا تثبت الفرقة عقيبه و إنما الثابت عقيبه وجوب التفريق فإن فرق الزوج بنفسه و إلا ينوب القاضي منابه في التفريق فإذا فرق بعد تمام اللعان وقعت الفرقة فإن أخطأ القاضي ففرق قبل تمام اللعان ينظر إن كان كل واحد منهما قد التعن أكثر اللعان نفذ التفريق و إن لم يلتعنا أكثر اللعان أو كان أحدهما لم يلتعن أكثر اللعان لم ينفذ و إنما كان كذلك لأن تفريق القاضي إذا وقع بعد أكثر اللعان فقد قضى بالاجتهاد في موضع يسوغ الاجتهاد فيه فينفذ قضاؤه كما في سائر المجتهدات و الدليل على أن تفريقه صادف محل الاجتهاد وجوه ثلاثة : .
أحدها : أنه عرف أن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من الأحكام فاقتضى اجتهاده إلى أن الأكثر يقوم مقام الكل في اللعان .
و الثاني : أنه اجتهد أن التكرار في اللعان للتأكيد و التغليظ و هذا المعنى يوجد في الأكثر .
و الثالث : أنه زعم أنه لما ساغ للشافعي الاقتصار على لعان الزوج إذا قذف المجنونة أو الميتة فلأن يسوغ له الاجتهاد بعد إكمال الزوج لعانه و إتيان المرأة بأكثر اللعان أولى فثبت أن قضاء القاضي صادف محل الاجتهاد فينفذ فإن قيل شرط جواز الاجتهاد أن لا يخالف النص و هذا قد خالف النص من الكتاب و السنة لأن كتاب الله ورد باللعان بعدد مخصوص و كذا النبي صلى الله عليه و سلم لاعن بين الزوجين على ذلك العدد و إذا كان العدد منصوصا عليه فالاجتهاد إذا خالف النص باطل فالجواب ممنوع أن اجتهاد القاضي خالف النص فإن التنصيص على عدد لا ينفي جواز الأكثر و إقامته مقام الكل و لا يقتضي الجواز أيضا فلم يكن الحكم منصوصا عليه بل كان مسكوتا عنه فكان محل الاجتهاد و فائدته التنصيص على العدد المذكور و التنبيه على الأصل و الأولى و هذا لا ينفي الجواز .
و أما الثاني : فقد اختلف العلماء فيه أيضا / قال أبو حنيفة و محمد : الفرقة في اللعان فرقة بتطليقة بائنة فيزول ملك النكاح و تثبت حرمة الاجتهاد و التزوج ما داما على حالة اللعان فإن أكذب الزوج نفسه فجلد الحد أو أكذبت المرأة نفسها بأن صدقته جاز النكاح بينهما و يجتمعان .
و قال أبو يوسف و زفر و الحسن بن زياد : هي فرقة بغير طلاق و إنها توجب حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع و المصاهرة و احتجوا بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ] و هو نص في الباب .
و كذا روي عن جماعة من الصحابة Bهم مثل عمر و علي و عبد الله بن مسعود و غيرهم Bهم أنهم قالوا : ( المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ) و لأبي حنيفة و محمد ما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لما لاعن بين عويمر العجلاني و بين امرأته فقال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا ] و في بعض الروايات : [ كذبت عليها إن لم أفارقها فهي طالق ثلاثا ] فصار طلاق الزوج عقيب اللعان سنة المتلاعنين لأن عويمر طلق زوجته ثلاثا بعد اللعان عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنفذها عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيجب على كل ملاعن أن يطلق فإذا امتنع ينوب القاضي منابه في التفريق فيكون طلاقا كما في العنين و لأن سبب هذه الفرقة قذف الزوج لأنه يوجب اللعان و اللعان يوجب التفريق و التفريق يوجب الفرقة فكانت الفرقة بهذه الوسائط مضافة إلى القذف السابق و كل فرقة تكون من الزوج أو يكون فعل الزوج سببها تكون طلاقا كما في العنين و الخلع و الإيلاء و نحو ذلك و هو قول السلف إن كل فرقة وقعت من قبل الزوج فهي طلاق من نحو إبراهيم و الحسن و سعيد بن جبير و قتادة و غيرهم Bهم و أما الحديث فلا يمكن العمل بحقيقتهلما ذكرنا أن حقيقة المتفاعل هو المتشاغل بالفعل و كما فرغا من اللعان ما بقيا متلاعنين حقيقة فانصرف المراد إلى الحكم و هو أن يكون حكم اللعان فيهما ثابتا