بيان المحرمات بالرضاع .
فصل : أما الأول : فالأصل أن كل من يحرم بسبب القرابة من الفرق السبع الذين ذكرهم الله عز و جل في كتابه الكريم نصا أو دلالة على ما ذكرنا في كتاب النكاح يحرم بسبب الرضاعة إلا أن الحرمة في جانب المرضعة متفق عليها و في جانب زوج المرضعة مختلف فيها .
أما تفسير الحرمة في جانب المرضعة فهو أن المرضعة تحرم على المرضع لأنها صارت أما له بالرضاع فتحرم عليه لقوله عز و جل : { و أمهاتكم اللاتي أرضعنكم } معطوفا على قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم } فسمى سبحانه و تعالى المرضعة أم المرضع و حرمها عليه و كذا بناتها يحرمن عليه سواء كن من صاحب اللبن أو من غير صاحب اللبن من تقدم منهن و من تأخر لأنهن أخواته من الرضاعة و قد قال الله عز و جل : { و أخواتكم من الرضاعة } / أثبت الله تعالى الأخوة بين بنات المرضعة و بين المرضع و الحرمة بينهما مطلقا من غير فصل بين أخت و أخت و كذا بنات بناتها و بنات أبنائها و إن سفلن لأنهن بنات أخ المرضع و أخته من الرضاعة و هن يحرمن من النسب كذا من الرضاعة .
و لو أرضعت امرأة صغيرين من أولاد الأجانب صارا أخوين لكونهما من أولاد المرضعة فلا يجوز المناكحة بينهما إذا كان أحدهما أنثى و الأصل في ذلك أن كل اثنين اجتمعا على ثدي واحد صارا أخوين أو أختين أو أخا و أختا من الرضاعة فلا يجوز لأحدهما أن يتزوج الآخر و لا بولده كما في النسب و أمهات المرضعة يحرمن على المرضع لأنهن جداته من قبل أمه من الرضاعة و آباء المرضعة أجداد المرضع من الرضاعة فيحرم عليهم كما في النسب فأما بنات أخوة المرضعة و أخواتها فلا يحرمن على المرضع لأنهن بنات أخواله و خالاته من الرضاعة و إنهن لا يحرمن من النسب فكذا من الرضاعة و تحرم المرضعة على أبناء المرضع و أبناء أبنائه و إن سفلوا كما في النسب و هذا تفسير الحرمة في جانب المرضعة .
و الأصل في هذه الجملة قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يحرم من الإرضاع ما يحرم من النسب ] فيجب العمل بعمومه إلا ما خص بدليل .
و أما الحرمة في جانب زوج المرضعة التي نزل لها منه لبن فثبتت عند عامة العلماء و عامة الصحابة Bهم .
و روي عن رافع بن خديج Bه أنه قال : ( لا تثبت ) و هو قول سعيد بن المسيب و عطاء بن يسار و بشر المريسي و مالك و هي المسألة الملقبة عند الفقهاء بلبن الفحل أنه هل يحرم أو لا و تفسير تحريم لبن الفحل أن المرضعة تحرم على زوج المرضعة لأنها بنته من الرضاع و كذا على أبنائه الذين من غير المرضعة لأنهم أخوتها لأب من الرضاعة و كذا على أبناء أبنائه و أبناء بناته من غير المرضعة لأنهم أبناء إخوة المرضعة و أخواتها لأب من الرضاعة .
و على هذا إذا كان لرجل امرأتان فحملتا منه و أرضعتكل واحدة منهما صغيرا أجنبيا فقد صارا أخوين لأب من الرضاعة فإذا كان أحدهما أنثى فلا يجوز النكاح بينهما لأن الزوج أخوها لأبيها من الرضاعة و إن كان أنثيين لا يجوز لرجل أن يجمع بينهما لأنهما أختان لأب من الرضاعة و تحرم على آباء زوج المرضعة لأنهم أجدادها من قبل الأب من الرضاعة و كذا على إخوته لأنهم أعمامها من الرضاعة و أخواته عمات المرضع فيحرمن عليه و أما أولاد إخوته و أخواته فلا تحرم المناكحة بينهم لأنهم أولاد الأعمام و العمات و يجوز النكاح بينهم في النسب فيجوز في الرضاع .
هذا تفسير لبن الفحل : احتج من قال إنه لا يحرم بأن الله عز و جل بين الحرمة في جانب المرضعة و لم يبين في جانب الزوج بقوله تعالى : { و أمهاتكم اللاتي أرضعنكم } و لو كانت الحرمة ثابتة في جانبه لبينها كما بين في النسب بقوله عز و جل : { حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم } و لأن المحرم هو الإرضاع و أنه وجد منها لا منه فصارت بنتا لها لا له .
و الدليل عليه لو نزل للزوج لبن فارتضعت منه صغيرة لم تحرم عليه فإذا لم تثبت الحرمة بلبنه فكيف تثبت بلبن غيره .
و لنا : الحديث المشهور و هو قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] .
و روي [ أن عائشة Bها قالت : ( جاء عمي من الرضاعة فاستأذن علي فأبيت أن آذن له حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته عن ذلك فقال صلى الله عليه و سلم إنما هو عمك فأذني له ] فقلت : يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة و لم يرضعني الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنه عمك فليلج عليك ] قالت عائشة Bها : و كان ذلك بعد أن ضرب علينا الحجاب أي بعد أمر الله عز و جل النساء بالحجاب عن الأجانب .
و قيل : كان الداخل عليها أفلح أخا أبي القعيس و كانت امرأة أبي القعيس أرضعتها و [ عن عمرة أن عائشة Bها أخبرتها : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عندها و إنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة ] .
قالت عائشة : فقلت يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك فقال : [ أراه فلانا لعم حفصة من الرضاعة ] فقلت : يا رسول الله لو كان فلانا حيا لعمي من الرضاعة أكان يدخل علي فقال : [ نعم إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ] و عن علي Bه أنه قال : لا تنكح من أرضعته امرأة أبيك و لا امرأة أخيك و لا امرأة ابنك .
و عن ابن عباس Bهما / أنه سئل عن رجل له امرأتان أو جارية و امرأة فأرضعت هذه غلاما و هذه جارية هل يصلح للغلام أن يتزوج الجارية ؟ فقال Bه : لا اللقاح واحد بين الحكم و أشار إلى المعنى و هو اتحاد اللقاح و لأن المحرم هو اللبن و سبب اللبن هو ماء الرجل و المرأة جميعا فيجب أن يكون الرضاع منهما جميعا كما كان الولد لهما جميعا .
و أما قولهم : إن الله تعالى بين الحرمة في جانب المرضعة لا في جانب زوجها فنقول إن لم يبينها نصا فقد بينها دلالة و هذا لأن البيان من الله تعالى بطريقين بيان إحاطة و بيان كفاية فبين في النسب بيان إحاطة و بين في الرضاع بيان كفاية تسليطا للمجتهدين على الاجتهاد و الاستدلال بالمنصوص عليه على غيره و هو أن الحرمة في جانب المرضعة لمكان اللبن و سبب حصول اللبن و نزوله هو ماؤهما جميعا فكان الرضاع منهما جميعا و هذا لأن اللبن إنما يوجب الحرمة لأجل الجزئية و البعضية لأنه ينبت اللحم و ينشر العظم على ما نطق به الحديث و لما كان سبب حصول اللبن و نزوله ماءهما جميعا و بارتضاع اللبن تثبت الجزئية بواسطة نبات اللحم يقام سبب الجزئية مقام حقيقة الجزئية في باب الحرمات احتياطا و السبب يقام مقام المسبب خصوصا في باب الحرمات أيضا .
ألا ترى أن المرأة تحرم على جدها كما تحرم على أبيها و إن لم يكن تحريمها على جدها منصوصا عليه في الكتاب العزيز لكن لما كان مبينا بيان كفاية و هو أن البنت و إن حدثت من ماء الأب حقيقة دون ماء الجد لكن الجد سبب ماء الأب أقيم السبب مقام المسبب في حق الحرمة احتياطا كذا هنا .
و الدليل عليه أنه لما لم يذكر البنات من الرضاعة نصا لم يذكر بنات الأخوة و الأخوات من الرضاعة نصا و إنما ذكر الأخوات ثم ذكر لبنات الأخوة و الأخوات دلالة حتى حرمن بالإجماع كذا ههنا على أنه لم يبين بوحي متلو فقد بين بوحي غير متلو على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] و قد خرج الجواب عن قولهم إن الإرضاع وجد منها لما ذكرنا أنه وجد منهما لأن سبب حصول اللبن ماؤهما جميعا فكان الإرضاع منهما جميعا .
و أما الزوج إذا نزل له لبن فارتضعت صغيرة فذاك لا يسمى رضاعا عرفا و عادة و معنى الرضاع أيضا لا يحصل به و هو اكتفاء الصغير به في الغذاء لأنه لا يغنيه من جوع فصار كلبن الشاة و الله عز و جل أعلم .
ثم إنما تثبت الحرمة من جانب الزوج إذا كان لها زوج فأما إذا لم يكن لها زوج بأن ولدت من الزنا فنزل لها لبن فأرضعت به صبيا فالرضاع يكون منها خاصة لا من الزاني لأن نسبه يثبت منها لا من الزاني .
و الأصل : أن كل ما يثبت منه النسب يثبت منه الرضاع و من لا يثبت منه النسب لا يثبت منه الرضاع و كذا البكر إذا نزل لها لبن و هي لم تتزوج قط فالرضاع يكون منها خاصة و الله الموفق .
و كذا كل من يحرم بسبب الصاهرة من الفرق الأربع الذين وصفناهم في كتاب النكاح يحرم بسبب الرضاع فيحرم على الرجل أم زوجته و بنتها من زوج آخر من الرضاع كما في النسب إلا أن الأم تحرم بنفس العقد على البنت إذا كان صحيحا و البنت لا تحرم إلا بالدخول بالأم كما في النسب و كذا جدات زوجته من أبيها و أمها و إن علون أو بنات بناتها و بنات أبنائها و إن سفلن من الرضاع كما في النسب و كذا تحرم حليلة ابن الرضاع و ابن ابن الرضاع و إن سفل على أب الرضاع و أب أبيه و إن علا كما في النسب و تحرم منكوحة أب الرضاع و أب أبيه و إن علا على ابن الرضاع و ابن ابنه و إن سفل كما في النسب و كذا يحرم بالوطء أو الموطوءة و بنتها من الرضاع على الواطىء .
و كذا جداتها و بنات بناتها كما في النسب و تحرم الموطوءة على أب الواطىء و ابنه من الرضاع .
و كذا على أجداده و إن علوا و على أبناء أبنائه و إن سفلوا كما في النسب سواء كان الوطء حلالا بأن كان يملك اليمين أو الوطء بنكاح فاسد أو شبهة نكاح أو كان بزنا عندنا و عند الشافعي : الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة فلا يوجب حرمة الرضاع و المسألة قد مرت في كتاب النكاح .
ثم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] مجرى على عمومه إلا في مسألتين إحداهما أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج بأخت ابنه من النسب لأمه و هو أن يكون لابنه أخت لأمه من النسب من زوج آخر كان لها و يجوز له أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع و هو أن يكون لابنه من الرضاع أخت من النسب لم ترضعها امرأته لأن المانع من الجواز في النسب كون أم الأخت موطوءة الزوج لأن أمها / إذا كانت موطوءة كانت هي بنت الموطوءة و إنها حرام و هذا لم يوجد في الرضاع و لو وجد لا يجوز كما لا يجوز في النسب و الثانية أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أم هذه الأخت و يجوز له أن يتزوج أم أخته من الرضاع و هو أن يكون له أخت من الرضاعة فيتزوج أمها من النسب لأن المانع في النسب كون المتزوجة موطوءة أبيه و هذا لم يوجد في الرضاع حتى لو وجد لا يجوز كما فب النسب و يجوز للرجل أن يتزوج أخت أخيه لأبيه من النسب و صورته منكوحة أبيه إذا ولدت ابنا و لها بنت من زوج آخر فهي أخت أخيه لأبيه فيجوز له أن يتزوجها و كذا يجوز للرجل أن يتزوج أخت أخته من الرضاع و هذا ظاهر و يجوز لزوج المرضعة أن يتزوج أم المرضع من النسب لأن المرضع ابنه و يجوز للإنسان أن يتزوج أم ابنه من النسب .
و كذا أب المرضع من النسب يجوز له أن يتزوج المرضعة لأنها أم ابنه من الرضاع فهي كأم ابنه من النسب و كذا يجوز بمحارم أبي الصبي من الرضاعة أو النسب كما يجوز له أن يتزوج بأمه و الله عز و جل أعلم