بيان كيفية وجوب هذه النفقة .
فصل : و أما بيان كيفية وجوب هذه النفقة فقد اختلف العلماء في كيفية وجوبها قال أصحابنا : إنها تجب على وجه لا يصير دينا في ذمة الزوج إلا بقضاء القاضي أو بتراضي الزوجين فإن لم يوجد أحد هذين تسقط بمضي الزمان و قال الشافعي : إنها تصير دينا في الذمة من غير قضاء القاضي و لا رضاه و لا تسقط بمضي الزمان فيقع الكلام في هذا الفصل في مواضع : في بيان أن الفرض من القاضي أو التراضي هل هو شرط صيرورة هذه النفقة دينا في ذمة الزوج أم لا و في بيان شرط جواز فرضها من القاضي على الزوج إذا كان شرطا و في بيان حكم صيرورتها دينا في ذمة الزوج .
أما الأول : فهو على الاختلاف الذي ذكرنا احتج الشافعي بقوله عز و جل : { و على المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف } و على كلمة إيجاب فقد أخبر سبحانه و تعالى عن وجوب النفقة و الكسوة مطلقا عن الزمان .
و قوله عز و جل : { لينفق ذو سعة من سعته و من قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } أمر تعالى بالانفاق مطلقا عن الوقت و لأن النفقة قد وجبت و الأصل أن ما وجب على إنسان لا يسقط إلا بالإيصال أو بالإبراء كسائر الواجبات و لأنها وجبت عوضا لوجوبها بمقابلة المتعة فبقيت في الذمة من غير قضاء كالمهر .
و الدليل عليه أن الزوج يجبر على تسليم النفقة و يحبس عليها و الصلة لا تحتمل الحبس و الجبر .
و لنا : أن هذه النفقة تجري مجرى الصلة و إن كانت تشبه الأعواض لكنها ليست بعوض حقيقة لأنها لو كانت عوضا حقيقة فإما إن كانت عوضا عن نفس المتعة و هي الاستمتاع و إما إن كانت عوضا عن ملك المتعة و هي الاختصاص بها لا سبيل إلى الأول لأن الزوج ملك / متعتها بالعقد فكان هو بالاستمتاع متصرفا في ملك نفسه باستيفاء منافع مملوكة له و من تصرف في ملك نفسه لا يلزمه عوض لغيره و لا وجه للثاني لأن ملك المتعة قد قوبل بعوض مرة فلا يقابل بعوض آخر فخلت النفقة عن معوض فلا يكون عوضا حقيقة بل كانت صلة و لذلك سماها الله تعالى رزقا بقوله عز و جل : { و على المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف } و الرزق اسم للصلة كرزق القاضي و الصلات لا تملك بأنفسها بل بقرينة تنضم إليها و هي القبض كما في الهبة أو قضاء القاضي لأن القاضي له ولاية الإلزام في الجملة أو التراضي لأن ولاية الإنسان على نفسه أقوى من ولاية القاضي عليه بخلاف المهر لأنه أوجب بمقابلة ملك المتعة فكان عوضا مطلقا فلا يسقط بمضي الزمان كسائر الديون المطلقة و لا حجة له في الآيتين لأن فيهما وجوب النفقة لا بقاءها واجبة لأنهما لا يتعرضان للوقت فلو ثبت البقاء إنما يثبت باستصحاب الحال و إنه لا يصلح لإلزام الخصم .
و أما قوله : إن الأصل فيما وجب على إنسان لا يسقط إلا بالإيصال أو الإبراء فنقول : هذا حكم الواجب مطلقا لا حكم الواجب على طريق الصلة بل حكمه أنه يسقط بمضي الزمان كنفقة الأقارب و أجرة المسكن و قد خرج الجواب عن قوله إنها وجبت عوضا .
و أما الجبر و الحبس : فالصلة تحتمل ذلك في الجملة فإنه يجبر على نفقة الأقارب و يحبس بها و إن كانت صلة و كذا من أوصى بأن يوهب عبده من فلان بعد موته فمات الموصي فامتنع الوارث من تنفيذ الهبة في العبد يجبر عليه و يحبس بأنه و إن كانت الهبة صلة فدل أن الجبر و الحبس لا ينفيان معنى الصلة .
و على هذا يخرج ما إذا استدانت على الزوج قبل الفرض أو التراضي فأنفقت أنها لا ترجع بذلك على الزوج بل تكون متطوعة في الإنفاق سواء كان الزوج غائبا أو حاضرا لأنها لم تصر دينا في ذمة الزوج لعدم شرط صيرورتها دينا في ذمته فكانت الاستدانة إلزام الدين الزوج بغير أمره و أمر من له ولاية الأمر فلم يصح و كذا إذا أنفقت من مال نفسها لما قلنا .
و كذا لو أبرأت زوجها من النفقة قبل فرض القاضي و التراضي لا يصح الإبراء لأنه إبراء عما ليس بواجب و الإبراء إسقاط و إسقاط ما ليس بواجب ممتنع و كذا لو صالحت زوجها على نفقة و ذلك لا يكفيها ثم طلبت من القاضي ما يكفيها فإن القاضي يفرض لها ما يكفيها لأنها حطت ما ليس بواجب و الحط قبل الوجوب باطل كالإبراء و الله أعلم .
و أما الثاني : فلوجوب الفرض على القاضي و جوازه منه شرطان : .
أحدهما : طلب المرأة الفرض منه لأنه إنما يفرض النفقة على الزوج حقا لها فلا بد من الطلب من صاحب الحق .
و الثاني : حضرة الزوج حتى لو كان الزوج غائبا فطلبت المرأة من القاضي أن يفرض لها عليه نفقة لم يفرض و إن كان القاضي عالما بالزوجية و هذا قول أبي حنيفة الآخر و هو قول شريح و قد كان أبو حنيفة أولا يقول و هو قول ابراهيم النخعي إن هذا ليس بشرط و يفرض القاضي النفقة على الغائب و حجة هذا القول ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لهند امرأة أبي سفيان : [ خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك و ولدك بالمعروف ] و ذلك من النبي صلى الله عليه و سلم كان فرضا للنفقة على أبي سفيان و كان غائبا و حجة القول الأخير أن الفرض من القاضي على الغائب قضاء عليه و قد صح من أصلنا أن القضاء على الغائب لا يجوز إلا أن يكون عنه خصم حاضر و لم يوجد .
و أما الحديث فلا حجة له فيه لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما قال لهند على سبيل الفتوى لا على طريق القضاء بدليل أنه لم يقدر لها ما تأخذه من مال أبي سفيان و فرض النفقة من القاضي تقديرها فإذا لم تقدر لم تكن فرضا فلم تكن قضاء تحقيقه : أن من يجوز القضاء على الغائب قائما يجوزه إذا كان غائبا غيبة سفر فأما إذا كان في المصر فإنه لا يجوز بالإجماع لأنه لا يعد غائبا و أبو سفيان لم يكن مسافرا فدل أن ذلك كان إعانة لا قضاء فإن لم يكن القاضي عالما بالزوجية فسألت القاضي أن يسمع بينتها بالزوجية و يفرض على الغائب قال أبو يوسف : لا يسمعها و لا يفرض و قال زفر يسمع و يفرض لها و تستدين عليه فإذا حضر الزوج و أنكر يأمرها باعادة البينة في وجهه فإذا فعلت نفذ / الفرض و صحت الاستدانة و إن لم يفعل لم ينفذ و لم يصح .
وجه قول زفر : أن القاضي إنما يسمع هذه البينة لا لإثبات النكاح على الغائب ليقال : إن الغيبة تمنع من ذلك بل ليتوصل بها إلى الفرض و يجوز سماع البينة في حق حكم دون حكم كشهادة رجل و امرأتين على السرقة و إنها تقبل في حق المال و لا تقبل في حق القطع كذا ههنا تقبل هذه البينة في حق صحة الفرض لا في إثبات النكاح فإذا حضر و أنكر استعاد منها البينة فإن أعادت نفذ الفرض و صحت الاستدانة عليه و إلا فلا .
و الصحيح قول أبي يوسف لأن البينة على أصل أصحابنا لا تسمع إلا على خصم حاضر و لا خصم فلا تسمع و ما ذكره زفر أن بينتها تقبل في حق صحة الفرض غير سديد لأن صحة الفرض مبنية على ثبوت الزوجية فإذا لم يكن إلى إثبات الزوجية بالبينة سبيل لعدم الخصم لم يصح فلا سبيل إلى القبول في حق صحة الفرض ضرورة .
هذا إذا كان الزوج غائبا و لم يكن له مال حاضر فأما إذا كان له مال حاضر فإن كان المال في يدها و هو من جنس النفقة فلها أن تنفق على نفسها منه بغير أمر القاضي لحديث أبي سفيان فلو طلبت المرأة من القاضي فرق النفقة في ذلك المال و علم القاضي بالزوجية و بالمال فرض لها النفقة لأن لها أن تأخذه فتنفق على نفسها من غير فرض القاضي فلم يكن الفرض من القاضي في هذه الصورة قضاء بل كان إعانة لها على استيفاء حقها و إن كان في يد مودعه أو مضاربه أو كان له دين على غيره فإن كان صاحب اليد مقرا بالوديعة و الزوجية أو كان من عليه الدين مقرا بالدين و الزوجية أو كان القاضي عالما بذلك فرض لها في ذلك المال نفقتها في قول أصحابنا الثلاثة و قال زفر : لا يفرض .
وجه قوله : أن هذا قضاء على الغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر إذ المودع ليس بخصم عن الزوج و كذا المديون فلا يجوز .
و لنا : أن صاحب اليد و هو المودع إذا أقر بالوديعة و الزوجية أو أقر المديون بالدين و الزوجية فقد أقر أن لها حق الأخذ و الاستيفاء لأن للزوجة أن تمد يدها إلى مال زوجها فتأخذ كفايتها منه لحديث امرأة أبي سفيان فلم يكن القاضي فرض لها النفقة في ذلك المال قضاء بل كان إعانة لها على أخذ حقها و له على إحياء زوجته فكان له ذلك و إن جحد أحد الأمرين و لا علم للقاضي به لم يسمع البينة و لم يفرض لأن سماع البينة و الفرض يكون قضاء على الغائب من غير خصم حاضر لأنه إن أنكر الزوجية لا يمكنها إقامة البينة على الزوجية لأن المودع ليس بخصم عنه في الزوجية و إن أنكر الوديعة أو الدين لا يمكنها إقامة البينة على الوديعة و الدين لأنها ليست بخصم عن زوجها في إثبات حقوقه فكان سماع البينة على ذلك قضاء على الغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر و ذلك غير جائز عندنا .
هذا إذا كانت الوديعة و الدين من جنس النفقة بأن كانت دراهم أو دنانير أو طعاما أو ثيابا من جنس كسوتها فأما إذا كان من جنس آخر فليس لها أن تتناول شيئا من ذلك و إن طلبت من القاضي فرض النفقة فيه فإن كان عقارا لا يفرض القاضي النفقة فيه بالإجماع لأنه لا يمكن إيجاب النفقة فيه إلا البيع و لا يباع العقار على الغائب في النفقة بالاتفاق و إن كان منقولا من العروض فقد ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي الخلاف فيه فقال القاضي لا يبيع العروض عليه في قول أبي حنيفة و عندهما له أن يبيعها عليه و هي مسألة الحجر على الحر العاقل البالغ .
و ذكر القدوري المسألة على الاتفاق فقال القاضي : إنما يبيع على أصلهما على الحاضر الممتنع عن قضاء الدين لكونه ظالما في الامتناع دفعا لظلمه و الغائب لا يعلم امتناعه فلا يعلم ظلمه فلا يباع عليه و إذا فرض القاضي لها النفقة في شيء من ذلك و أخذ منها كفيلا فهو حسن لاحتمال أن يحضر الزوج فيقيم البينة على طلاقها أو على إيفاء حقها في النفق عاجلا فينبغي أن يستوثق فيما يعطيها بالكفالة ثم إذا رجع الزوج ينظر إن كان لم يعجل لها النفقة فقد مضى الأمر و إن كان قد عجل و أقام البينة على ذلك أو لم يقم له بينة و استخلفها فنكلت فهو بالخيار إن شاء أخذ من المرأة و إن شاء أخذ من الكفيل و لو أقرت المرأة أنها كانت قد تعجلت النفقة من الزوج فإن الزوج يأخذ منها و لا يأخذ من الكفيل لأن الإقرار حجة قاصرة فيظهر في حقها لا في حق الكفيل و لو طلبت / الزوجة من الحاكم أن يدفع مهرها و نفقتها من الوديعة و الدين لم يفعل ذلك و إن كان عالما بهما لأن القضاء بالنفقة في الوديعة و الدين كان نظرا للغائب لما في الإنفاق من إحياء زوجته بدفع الهلاك عنها و الظاهر أنه يرضى بذلك و هذا المعنى لا يوجد في المهر و الدين و لو كان الحاكم فرض لها على الزوج النفقة قبل غيبته فطلبت من الحاكم أن يقضي لها بنفقة ماضية في الوديعة و الدين قضى لها بذلك لأنه لما جاز القضاء بالنفقة في الوديعة و الدين يستوي فيه الماضي و المستقبل لأن طريق الجواز لا يختلف .
و كذلك إذا كان للغائب مال حاضر و هو من جنس النفقة و له أولاد صغار فقراء و كبار ذكور زمنى فقراء أو أناث فقيرات و والدان فقيران فإن كان المال في أيديهم فلهم أن ينفقوا منه على أنفسهم و إن طلبوا من القاضي فرض النفقة منه فرض لأن الفرض منه يكون إعانة لا قضاء و إن كان المال في يد مودعه أو كان دينا على إنسان فرض القاضي نفقتهم منه .
و كذلك إذا أقر المودع و المديون بالوديعة و الدين و النسب أو علم القاضي بذلك لأن نفقة الوالدين و المولودين تجب بطريق الإحياء لأن الإنسان يرضى بإحياء كله و جزئه من ماله و لهذا كان لأحدهما أن يمد يده إلى مال الآخر عند الحاجة و يأخذه من غير قضاء و لا رضا و قد تحققت الحاجة ههنا فكان للقاضي أن يفرض ذلك من طريق الإعانة لصاحب الحق و إن جحدهما أو أحدهما و لا علم للقاضي به لم يفرض لما ذكرنا في الزوجة و لا يفرض لغيرهما و لا من ذوي الرحم المحرم نفقتهم في مال الغائب لأن نفقتهم من طريق الصلة المحضة إذ ليس لهم حق في مال الغائب أصلا .
ألا ترى أنه ليس لأحد أن يمد يده إلى مال صاحبه فيأخذه و إن مست حاجته من غير قضاء القاضي فكان الفرض قضاء على الغائب من غير خصم حاضر فلا يجوز و إن لم يكن المال من جنس النفقة فليس لهم أن يبيعوا بأنفسهم و ليس للقاضي أن يبيع على الغائب في النفقة على هؤلاء العقار بالإجماع و الحكم في العروض ما بينا من الاتفاق أو الاختلاف و في بيع الأب العروض خلاف نذكره في نفقة المحارم .
و أما يسار الزوج فليس بشرط لوجوب الفرض حتى لو كان معسرا و طلبت المرأة الفرض من القاضي فرض عليه إذا كان حاضرا و تستدين عليه فتنفق على نفسها لأن الإعسار لا يمنع وجوب هذه النفقة فلا يمنع الفرض و إذا طلبت المرأة من القاضي فرض النفقة على زوجها الحاضر فإن كان قبل النقلة و هي بحيث لا تمتنع من التسليم أو كان امتناعها بحق فرض القاضي لها إعانة لها على الوصول إلى حقها الواجب لوجود سبب الوجوب و شرطه و إن كان بعدما حولها إلى منزله فزعمت أنه ليس ينفق عليها أو شكت التضييق في النفقة فلا ينبغي له أن يعجل بالفرض و لكنه يأمره بالنفقة و التوسيع فيها لأن ذلك من باب الإمساك بالمعروف و أنه مأمور به و يتأتى في الفرض و يتولى الزوج الإنفاق بنفسه قبل الفرض إلى أن يظهر ظلمه بالترك و التضييق في النفقة فحينئذ يفرض عليه نفقة كل شهر و يأمره أن يدفع النفقة إليها لتنفق هي بنفسها على نفسها .
و لو قالت : أيها القاضي : إنه يريد أن يغيب فخذ لي منه كفيلا بالنفقة لا يجبره القاضي على إعطاء الكفيل لأن نفقة المستقبل غير واجبة للحال فلا يجبر على الكفيل مما ليس بواجب يحققه أنه لا يجبر على التكفيل بدين واجب فكيف بغير الواجب و إلى هذا أشار أبو حنيفة فقال : لا أوجب عليه كفيلا بنفقة لم تجب لها بعد .
و قال أبو يوسف : أستحسن أن آخذ لها منه كفيلا بنفقة أشهر لأنا نعلم بالعادة أن هذا القدر يجب في السفر لأن السفر يمتد إلى شهر غالبا و الجواب أن نفقة الشهر لا تجب قبل الشهر فكان تكفيلا بما ليس بواجب فلا يجبر عليه و لكن لو أعطاها كفيلا جاز لأن الكفالة بما يذوب على فلان جائزة