بيان حكم صيرورة النفقة دينا .
و أما الثالث : و هو بيان حكم صيرورة هذه النفقة دينا في ذمة الزوج فنقول إذا فرض القاضي لها نفقة كل شهر أو تراضيا على ذلك ثم منعها الزوج قبل ذلك أشهرا غائبا كان أو حاضرا فلها أن تطالبه بنفقة ما مضى لأنها لما صارت دينا بالفرض أو التراضي صارت في استحقاق المطالبة بها كسائر الديون بخلاف نفقة الأقارب إذا مضت المدة و لم تؤخذ أنها تسقط لأنها لا تصير دينا رأسا لأن وجوبها للكفاية و قد حصلت الكفاية فيما مضى فلا يبقى الواجب كما لو استغنى بماله فأما وجوب / هذه النفقة فليس للكفاية و إن كانت مقدرة بالكفاية .
ألا ترى أنها تجب مع الاستغناء بأن كانت موسرة و ليس في معنى الزمان إلا الاستغناء فلا يمنع بقاء الواجب و لو أنفقت من مالها بعد الفرض أو التراضي لها أن ترجع على الزوج لأن النفقة صارت دينا عليه .
و كذلك إذا استدانت على الزوج لما قلنا سواء كانت استدانتها بإذن القاضي أو بغير إذنه غير أنها إن كانت بغير إذن القاضي كانت المطالبة عليها خاصة و لم يكن للغريم أن يطالب الزوج بما استدانت و إن كانت بإذن القاضي لها أن تحيل الغريم على الزوج فيطالبه بالدين و هو فائدة إذن القاضي بالاستدانة و لو فرض الحاكم النفقة على الزوج فامتنع من دفعها و هو موسر و طلبت المرأة حبسه لها أن تحبسه لأن النفقة لما صارت دينا عليه بالقضاء صارت كسائر الديون إلا أنه لا ينبغي أن يحبسه في أول مرة تقدم إليه بل يؤخر الحبس إلى مجلسين أو ثلاثة يعظه في كل مجلس يقدم إليه فإن لم يدفع حبسه حينئذ كما في سائر الديون لما نذكر في كتاب الحبس إن شاء الله تعالى .
و إذا حبس لأجل النفقة فما كان من جنس النفقة سلمه القاضي إليها بغير رضاه بالإجماع و ما كان من خلاف الجنس لا يبيع عليه شيئا من ذلك لكن يأمره أن يبيع بنفسه و كذا في سائر الديون في قول أبي حنيفة و عند أبي يوسف و محمد يبيع عليه و هي مسألة الحجر على الحر العاقل البالغ نذكرها في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى .
فإن ادعى الزوج أنه قد أعطاها النفقة و أنكرت فالقول قولها مع يمينها لأن الزوج يدعي قضاء دين عليه و هي منكرة فيكون القول قولها مع يمينها كما في سائر الديون و لو أعطاها الزوج مالا فاختلفا فقال الزوج : هو من المهر و قالت هي هو من النفقة فالقول قول الزوج إلا أن تقيم المرأة البينة لأن التمليك منه فكان هو أعرف بجهة التمليك كما لو بعث إليها شيئا فقالت هو هدية و قال هو من المهر أن القول فيه قوله إلا في الطعام الذي يؤكل لما قلنا كذا هذا .
و لو كان للزوج عليها دين فاحتبست عن نفقتها جاز لكن برضا الزوج لأن التقاص إنما يقع بين الدينين المتماثلين ألا ترى أنه لا يقع بين الجيد و الرديء و دين الزوج أقوى بدليل أنه لا يسقط بالموت و دين النفقة يسقط بالموت فأشبه الجيد بالرديء فلا بد من المقاصة بخلاف غيرها من الديون و الله أعلم