نفقة الأقارب .
فصل : و أما نفقة الأقارب فالكلام فيها أيضا يقع في المواضع التي ذكرناها في نفقة الزوجات و هي بيان وجوب هذه النفقة و سبب وجوبها و شرط الوجوب و مقدار الواجب و كيفية الوجوب و ما يسقطها بعد الوجوب .
أما الأول : و هو بيان الوجوب فلا يمكن الوصول إليه إلا بعد معرفة أنواع القرابات فنقول و بالله التوفيق القرابة في الأصل نوعان : قرابة الولادة و قرابة غير الولادة و قرابة غير الولادة نوعان أيضا قرابة محرمة للنكاح كالأخوة و العمومة و الخؤولة و قرابة غير محرمة للنكاح كقرابة بني الأعمام و الأخوال و الخالات و لا خلاف في وجوب النفقة في قرابة الولاد .
و أما نفقة الوالدين فلقوله عز و جل : { و قضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا } أي أمر ربك و قضى أن لا تعبدوا إلا إياه أمر سبحانه و تعالى و وصى بالوالدين إحسانا و الإنفاق عليهما حال فقرهما من أحسن الإحسان و قوله عز و جل : { و وصينا الإنسان بوالديه حسنا } و قوله تعالى : { أن اشكر لي و لوالديك } و الشكر للوالدين هي المكافأة لهما أمر سبحانه و تعالى الولد أن يكافىء لهما و يجازي بعض ما كان منهما إليه من التربية و البر و العطف عليه و الوقاية من كل شر و مكروه و ذلك عند عجزهما عن القيام بأمر أنفسهما و الحوائج لهما و إدرار النفقة عليهما حال عجزهما و حاجتهما من باب شكر النعمة فكان واجبا و قوله عز و جل : { و صاحبهما في الدنيا معروفا } و هذا في الوالدين فالمسلمان أولى و الإنفاق عليهما عند الحاجة من أعرف المعروف و قوله عز و جل : { فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما } و أنه كناية عن كلام فيه ضرب إيذاء و معلوم أن معنى التأذي بترك الإنفاق عليهما عند عجزهما و قدرة الولد أكثر فكان النهي عن التأفيف نهيا عن ترك الإنفاق دلالة كما كان نهيا عن الشتم و الضرب دلالة .
و روي : [ عن جابر بن عبد الله Bه أن رجلا جاء إلى رسول الله إن لي مال و إن أبي يريد أن يأخذ مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنت و مالك لأبيك ] أضاف مال الابن إلى الأب بلام التمليك و ظاهره يقتضي أن يكون للأب في مال ابنه حقيقة الملك فإن لم تثبت الحقيقة فلا أقل من أن يثبت له حق التمليك عند الحاجة .
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه و إن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم إذا احتجتم إليه بالمعروف ] و الحديث حجة بأوله و آخره و أما بآخره فظاهر لأنه صلى الله عليه و سلم أطلق للأب الأكل من كسب ولده إذا احتاج إليه مطلقا عن شرط الإذن و العوض فوجب القول به .
و أما بأوله فلأن معنى قوله و إن ولده من كسبه أي كسب ولده من كسبه لأنه جعل كسب الرجل أطيب المأكول و المأكول كسبه لا نفسه و إذا كان كسب ولده كسبه كانت نفقته فيه لأن نفقة الإنسان في كسبه و لأن ولده لما كان من كسبه كان كسب ولده ككسبه و كسب كسب الإنسان كسبه ككسب عبده المأذون فكانت نفقته فيه .
و أما نفقة الولد فلقوله تعالى : { و الوالدات يرضعن أولادهن } إلى قوله : { و على المولود له رزقهن و كسوتهن } أي رزق الوالدات المرضعات فإن كان المراد من الوالدات المرضعات المطلقات المنقضيات العدة ففيها إيجاب نفقة الرضاع على المولود له و هو الأب لأجل الولد كما في قوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } و إن كان المراد منهن المنكوحات أو المطلقات المعتدات فإنما ذكر النفقة و الكسوة في حال الرضاع و إن كانت المرأة تستوجب ذلك من غير ولد لأنها تحتاج إلى فضل إطعام و فضل كسوة لمكان الرضاع .
ألا ترى أن لها أن تفطر لأجل الرضاع إذا كانت صائمة لزيادة حاجتها إلى الطعام بسبب الولد و لأن الإنفاق عند / الحاجة من باب إحياء المنفق عليه و الولد جزء الوالد و إحياء نفسه واجب كذا إحياء جزئه و اعتبار هذا المعنى يوجب النفقة من الجانبين و لأن هذه القرابة مفترضة الوصل محرمة القطع بالإجماع و الإنفاق من باب الصلة فكان واجبا و تركه مع القدرة للمنفق و تحقق حاجة المنفق عليه يؤدي إلى القطع فكان حراما .
و اختلف في وجوبها في القرابة المحرمة للنكاح سوى قرابة الولادة قال أصحابنا : تجب و قال مالك و الشافعي لا تجب غير أن مالكا يقول لا نفقة إلا على الأب للابن و الابن للأب حتى قال لا نفقة على الجد لابن الابن و لا على ابن الابن للجد و قال الشافعي : تجب على الوالدين و المولودين و الكلام في هذه المسألة بناء على أن هذه القرابة مفترضة الوصل محرمة القطع عندنا خلافا لهما .
و على هذا ينبغي العتق عند الملك و وجوب القطع بالسرقة و هي من مسائل العتاق نذكرها هناك إن شاء الله تعالى .
ثم الكلام في المسألة على سبيل الابتداء احتج الشافعي فقال : إن الله تعالى أوجب النفقة على الأب لا غير بقوله تعالى : { و على المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف } فمن كان مثل حاله في القرب يلحق به و إلا فلا و لا يقال إن الله تعالى قال : { و على الوارث مثل ذلك } لأن ابن عباس Bه صرف قوله ذلك إلى ترك المضارة لا إلى النفقة و الكسوة فكان معناه لا يضار الوارث باليتيم كما لا تضار الوالدة و المولود له بولدهما .
و لنا : قوله تعالى : { و على الوارث مثل ذلك } و روي عن عمر بن الخطاب و زيد بن ثابت Bهما و جماعة من التابعين أنه معطوف على النفقة و الكسوة لا غير لا على ترك المضارة معناه و على الوارث مثل ما على المولود له من النفقة و الكسوة و مصداق هذا التأويل أنه لو جعل عطفا على هذا لكان عطف الاسم على الاسم و أنه شائع و لو عطف على ترك المضارة لكان عطف الاسم على الفعل فكان الأول أولى و لأنه لو جعل عطفا على قوله : لا تضار لكان من حق الكلام أن يقول و الوارث مثل ذلك و جماعة من أهل التأويل عطفوا على الكل من النفقة و الكسوة و ترك المضارة لأن الكلام كله معطوف بعضه على بعض بحرف الواو و أنه حرف جمع فيصير الكل مذكورا في حالة واحدة فينصرف قوله ذلك إلى الكل أي على الوارث مثل ذلك من النفقة و الكسوة و أنه لا يضارها و لا تضاره في النفقة و غيرها و به تبين رجحان هذين التأويلين على تأويل ابن عباس Bهما على أن ما قاله ابن عباس و من تابعه لا ينفي وجوب النفقة على الوارث بل يوجب لأن قوله تعالى : { لا تضار والدة بولدها } نهى سبحانه و تعالى عن المضارة مطلقا في النفقة و غيرها فإذا كان معنى إضرار الوالد الوالدة بولدها بترك الإنفاق عليها أو بانتزاع الولد منها و قد أمر الوارث بقوله تعالى : { و على الوارث مثل ذلك } أنه لا يضارها فإنما يرجع ذلك إلى مثل ما لزم الأب و ذلك يقتضي أن يجب على الوارث أن يسترضع الوالدة بأجرة مثلها و لا يخرج الولد من يدها إلى يد غيرها إضرارا بها .
و إذا ثبت هذا فظاهر الآية يقتضي وجوب النفقة و الكسوة على كل وارث أو على مطلق الوارث إلا من خص أو قيد بدليل .
و أما القرابة التي ليست محرمة للنكاح فلا نفقة فيها عند عامة العلماء خلافا لابن أبي ليلى .
و احتج بظاهر قوله تعالى : { و على الوارث مثل ذلك } من غير فصل بين وارث و وارث و إنا نقول المراد من الوارث الأقارب الذي له رحم لا مطلق الوارث عرفنا ذلك بقراءة عبد الله بن مسعود Bه ( و على الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ) و لأن وجوبها في القرآن العظيم معلولا بكونها صلة الرحم صيانة لها عن القطيعة فيختص وجوبها بقرابة يجب وصلها و يحرم قطعها و لم توجد فلا تجب و لهذا لا يثبت العتق عند الملك و لا يحرم النكاح و لا يمنع وجوب القطع بالسرقة و الله الموفق