ركن الإعتاق .
فصل : و أما ركن الإعتاق فهو اللفظ الذي جعل دلالة على العتق في الجملة أو ما يقوم مقام اللفظ فيحتاج فيه إلى بيان الألفاظ التي يثبت بها العتق في الجملة إما مع النية أو بدون النية و إلى بيان ما لا يثبت به العتق من الألفاظ رأسا .
أما الأول : فالألفاظ التي يثبت بها العتق في الجملة فتنقسم ثلاثة أقسام : صريح و ملحق الصريح و كناية .
أما الصريح : فهو اللفظ المشتق من العتق أو الحرية أو الولاء نحو قوله : أعتقتك أو حررتك أو أنت عتيق أو معتق أو أنت مولاي لأن الصريح في اللغة اسم لما هو ظاهر المعنى مكشوف المراد عند السامع و هذه الألفاظ بهذه الصفة أم لفظ العتق و الحرية فلا شك فيه لأنه لا يستعمل إلا في العتق فكان ظاهر المراد عند السامع فكان صريحا فلا يفتقر إلى النية كصريح الطلاق إذ النية لتعيين المحتمل و أما لفظ الولاء فالمولى و إن كان من الألفاظ المشتركة في الأصل لوقوعه على مسميات مختلفة الحدود و الحقائق بمنزلة اسم العين و القرء و غيرهما فإنه يقع على الناصر قال الله تعالى : { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم } و يقع على ابن العم قال الله تبارك و تعالى خبرا عن نبيه زكريا عليه الصلاة و السلام : { و إني خفت الموالي من ورائي } و يقع على المعتق و المعتق لكن ههنا لا يحتمل معنى للناصر لأن المولى لا يستنصر بعبده و لا ابن العم إذا كان العبد معروف النسب و لا المعتق إذ العبد لا يعتق مولاه فتعين المعتق مرادا به و اللفظ المشترك يتعين بعض الوجوه الذي يحتمله مراده بدليل معين فكان صريحا في العتق فلا يحتاج إلى النية كقوله أنت حر أو عتيق و كذا إذا ذكر هذه الألفاظ بصيغة النداء بأن قال : يا حر يا عتيق يا معتق لأنه ناداه بما هو صريح في الدلالة على العتق لكون اللفظ موضوعا للعتق و الحرية و لا يعتبر المعنى بالموضوعات فيثبت العتق من غير نية كقوله أنت حر أو عتيق أو معتق .
و ذكر محمد : أنه لو كان اسم العبد حرا و عرف بذلك الاسم فقال له يا حر لا يعتق لأنه إذا كان مسمى بذلك الاسم معروفا به لندائه يحمل على الاسم العلم لا على الصفة فلا يعتق و كذا إذا قال له يا مولاي يعتق عليه عند أصحابنا الثلاثة .
و قال : زفر : لا يعتق من غير نية .
وجه قوله : أن قوله : يا مولاي يحتمل للتعظيم / و يحتمل العتق فلا يحمل على التحقيق إلا بالنية كقوله : يا سيدي و يا مالكي .
و لنا : أن النداء للعبد باسم المولى لا يراد به التعظيم للعبد و إكرامه عادة و إنما يراد به الإعتاق فيحمل عليه كأن قال أنت مولاي و لو قال ذلك يعتق عليه كذا هذا بخلاف قوله : يا سيدي و يا ملكي لأن هذا قد يذكر على وجه التعظيم و الإكرام فلا يثبت به العتق من غير قرينة و علل محمد لهذا فقال لأنا إنما أعتقناه في قوله : يا مولاي لأجل الولاء لا لأجل الملك و معناه ما ذكرنا و الله عز و جل أعلم .
و لو قال في شيء من هذه الألفاظ من قوله : أعتقك أو نحوه : عنيت به الخبر كذبا لا يصدق في القضاء لعدوله عن الظاهر لأنه يستعمل في إنشاء العتق في عرف اللغة و الشرع كما يستعمل في الأخبار فإن العرب قبل ورود الشرع كانوا يعتقون عبيدهم بهذه الصيغة و في الحمل على الخبر حمل على الكذب و ظاهر حال العاقل بخلافه فلا يصدق في القضاء كما لو قال لامرأته طلقتك و نوى به الإخبار كذبا لا يصدق في القضاء و يصدق به في ما بينه وبين الله عز و جل لأنه نوى ما يحنمله كلامه لأنه يحتمل الإخبار و إن كان إرادته الخبر خلاف الظاهر .
و لو قال : عنيت به أنه كان خبرا فإن كان موكدا لا يصدق أصلا لأنه كذب محض و إن كان إنشاء لا يصدق قضاء لأن الظاهر إرادة الإنشاء لهذه الألفاظ فلا يصدق في العدول عن الظاهر و يصدق ديانة لأن اللفظ يحتمل الإخبار عن الماضي .
و لو قال : أنت حر من عمل كذا أو أنت حر اليوم من هذا العمل عتق في القضاء لأن العتق بالنسبة إلى الأعمال و الأزمان لا يتجزأ لاستحالة أن يعتف اليوم و يسترق غدا أو يعتق في عمل و يرق في عمل فكان الاعتاق في عمل دون عمل و في زمان دون زمان إعتاقا من الأعمال كلها و في الأزمان بأسرها فإذا نوى بعض الأعمال و الأزمان فقد نوى خلاف الظاهر فلا يصدقه القاضي و كذا إذا قال أنت مولاي و قال عنيت به الموالاة في الدين لا يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر إذ هو يستعمل لولاء العتق ظاهرا و يصدق ديانة لأن اللفظ يحتمل ما نوى .
و لو قال : ما أنت إلا حر عتق لأن قوله ما أنت إلا حر آكد من قوله أنت حر لأنه إثبات بعد النفي كقولنا لا إله إلا الله .
و لو قال : أنت حر لوجه الله تعالى عتق لأن اللام في قوله لوجه الله تعالى لام الغرض فقد نجز الحرية و بين أن غرضه من التحرير وجه الله عز و جل و كذا لو قال لعبده : أنت حر لوجه الشيطان عتق ذكره محمد في الأصل لأنه أعتقه بقوله : أنت حر و بين غرضه الفاسد من الإعتاق فلا يقدح في العتق و لو دعى عبده سالما فقال يا سالم فأجابه مرزوق فقال أنت حر و لا نية له عتق الذي أجابه لأن قوله أنت حر خطاب و المتكلم أولى بصرف الخطاب إليه من الساكت .
و لو قال : عنيت سالما عتقا في القضاء أما مرزوق فلأن الإشارة مصروفة إليه لما بينا فلا يصدق في أنه ما عناه و أما سالم فبإقراره و أما فيما بينه و بين الله تعالى فإنما يعتق الذي عناه خاصة لأن الله تعالى يضطلع على سره و لو قال يا سالم أنت حر فإذا هو عبد آخر له أو لغيره عتق سالم لأنه لا مخاطب ههنا إلا سالم فيصرف قوله أنت حر إليه و الله عز و جل أعلم .
و أما الذي هو ملحق بالصريح فهو أن يقول لعبده وهبت لك نفسك أو وهبت نفسك منك أو بعت نفسك منك و يعتق سواء قبل أو لم يقبل نوى أو لم ينو لأن الإيجاب من الواهب أو البائع إزالة الملك من الموهوب أو المبيع و إنما الحاجة إلى القبول من الموهوب له و المشتري لثبوت الملك لهما و ههنا لا يثبت للعبد في نفسه لأنه لا يصبح مملوكا لنفسه فتبقى الهبة و البيع إزالة الملك عن الرقيق لا إلى أحد و هذا معنى الإعتاق و لهذا لا يفتقر إلى القبول فلا يحتاج إلى النية أيضا لأن اللفظ صريح في الدلالة على زوال الملك عن الموهوب و المبيع و الإعتاق إزالة الملك و قد قال أبو حنيفة إذا قال لعبده وهبت لك نفسك و قال أردت وهبت له عتقه أي لا أعتقه لم يصدق في القضاء لأن الهبة وضعت لإزالة الملك عن الموهوب وهبة العتق استبقاء الملك على الموهوب فقد عدل عن ظاهر الكلام فلا يصدق في القضاء و يصدق فيما بينه و بين الله عز و جل لأنه نوى ما يحتمله كلامه .
و روي عن أبي يوسف فيمن قال لعبده : أنت / مولى فلان أو عتيق فلان أنه يعتق في القضاء لأنه أخبر أنه معتق فلان و لا يكون معتق فلان إلا و أن يكون مملوكا لفلان فأعتقه فإن أعتقك فلان فليس بشيء لأن قوله أعتقك فلان يحتمل أنه أراد أن فلانا أنشأ العتق فيك و لا يكون ذلك إلا بعد الملك و يحتمل أنه أراد به أنه قال لك للحال : أنت حر و لا ملك له فيه فلا يعتق بالشك و الله أعلم .
و من هذا القبيل إذا اشترى أباه أو أمه أو ابنه عتق عليه نوى أو لم ينو عند عامة العلماء لأن شراءه جعل إعتاقا شرعا حتى تتأدى به الكفارة إذا اشترى أباه ناويا عن الكفارة في قول أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر و الشافعي و عند مالك : لا يعتق إلا بإعتاق مبتدأ .
و الأصل : أن كل من يملك ذا رحم محرم منه بالشراء أو بقبول الهبة أو الصدقة أو الوصية أو بالإرث يعتق عليه و قال مالك : لا يعتق ما لم يعتقه و قال الشافعي : لا يعتق بالملك إلا من له ولاد فأما من لا ولاد له فلا يعتق إلا بإعتاق مبتدأ .
أما مالك فإنه احتج بما روى أبو داود في سننه بإسناده [ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ] حقق صلى الله عليه و سلم الإعتاق عقيب الشراء و لو كان الشراء نفسه إعتاقا لم يتحقق الإعتاق عقيبه لأن إعتاق المعتق لا يتصور فدل أن شراء القريب ليس بإعتاق لأن الشراء إثبات الملك و الإعتاق إزالة الملك و بينهما منافاة فكيف يكون اللفظ الواحد إثباتا و إزالة .
و لنا : ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر ] .
و [ عن ابن عباس Bهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إني دخلت السوق فوجدت أخي يباع فاشتريته و أنا أريد أن أعتقه فقال له صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى قد أعتقه ] و الحديثان حجة على مالك و الشافعي و معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث أبي هريرة فيعتقه أي تعتقه بالشراء يحمل على هذا عملا بالأحاديث كلها صيانة لها عن التناقض .
و أما قوله : الشراء إثبات الملك و الإعتاق إزالة الملك فنعم و لكن الممتنع إثبات حكم و ضده بلفظ واحد في زمان واحد و أما في زمانين فلا لأن علل الشرع في الحقيقة دلائل و أعلام على المحكومات الشرعية فيجوز أن يكون لفظ الشراء السابق علما على ثبوت الملك في الزمان الأول و ذلك اللفظ بعينه علما على ثبوت العتق في الزمان الثاني إذ لا تنافي عند اختلاف الزمان .
و أما الكلام مع الشافعي فمبني على أن القرابة المحرمة للنكاح فيما سوى الولاد و هي قرابة الأخوة و العمومة و الخؤولة حرام القطع عندنا و عنده لا يحرم قطعها و على هذا يبنى وجوب القطع بالسرقة و وجوب النفقة في هذه القرابة أنه لا يقطع و يجب النفقة عندنا خلافا له و لا خلاف في أن قرابة الولاد حرام القطع و لا خلاف أيضا في أن القرابة التي لا تحرم النكاح كقرابة بني الأعمام غير محرمة القطع فالشافعي يلحق هذه القرابة بقرابة بني الأعمام و نحن نلحقها بقرابة الولاد .
وجه قوله : أن العتق إنما يثبت بالقرابة لكون العتق صلة و كون القرابة مستدعية للصلة و الإحسان إلى القريب و العتق من أعلى الصلات فلا يثبت إلا بأعلى القرابات و هي قرابة الولاد لما فيها من الجزئية و البعضية و لا يوجد ذلك في هذه القرابة فلا يلحق بها بل يلحق بالقرابة البعيدة و هي قرابة بني الأعمام و لهذا ألحق بها في كثير من الأحكام و هي جريان القصاص في النفس و الطرف و قبول الشهادة و الحبس بالدين و جواز الاستئجار و نكاح الحليلة و عدم التكاتب .
و لنا : أن قرابة الولاد إنما أوجبت العتق عند الملك لكونها محرمة القطع و إبقاء الملك في القريب يفضي إلى قطع الرحم لأن الملك نفسه من باب الذل و الهوان فيورث وحشة و أنها توجب التباعد بين القريبين و هو تفسير قطيعة الرحم و شرع السبب المفضي إلى القطع مع تحريم القطع متناقض فلا يبقى الملك دفعا للتناقض فلا يبقى الرق ضرورة لأنه لم يشرع بقاؤه في المسلم و الذمي إلا لأجل الملك المحترم للمالك المعصوم و إذا زال الرق ثبت العتق ضرورة و القرابة المحرمة للنكاح محرمة القطع لأن النصوص المقتضية لحرمة قطع الرحم عامة أو مطلقة قال الله تبارك و تعالى : { و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام } معناه و اتقوا الله الذي تساءلون به فلا تعصوه و اتقوا الأرحام فلا تقطعوها و يحتمل أن يكون معناه : و اتقوا الله و صلوا الأرحام و قد روي في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ صلوا الأرحام فإنه أبقى لكم في الدنيا و خير لكم في الآخرة ] و الأمر بالوصل نهيا عن القطع لأنه ضده و الأمر بالفعل نهي عن ضده .
و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الرحم شجنة من الله تعالى معلقة بالعرش تقول يا رب هذا مقام العائذ بك قطعت و لم أوصل فيقول الله تبارك و تعالى : أما يكفيك أني شققت لك اسما من اسمي أنا الرحمن و أنت الرحم فمن وصلك وصلته و من قطعك بتته ] و مثل هذا الوعيد لا يكون إلا بارتكاب المحرم فدل أن قطع الرحم حرام و الرحم هو القرابة سميت القرابة رحما اما باعتبار أن الرحم مشتق من الرحمة كما جاء في الحديث و القرابة سبب الرحمة و الشفقة على القريب طبعا و إما باعتبار العضو المخصوص من النساء المسمى بالرحم محل السبب الذي يتعلق به وجود القرابات فكان كل قرابة أو مطلق القرابة محرمة القطع بظاهر النصوص إلا ما خص أو قيد بدليل ثم نخرج الأحكام أما جريان القصاص فلا يفضي إلى قطع الرحم لأن القصاص جزاء الفعل و جزاء الفعل يضاف إلى الفاعل فكان الأخ القاتل أو القاطع هو قاطع الرحم فكأنه قتل نفسه أو قطع طرفه باختياره و كذا الحبس بالدين لأنه جزاء المطل الذي هو جناية فكان مضافا إليه .
و أما الإجارة فهي عقد معاوضة و هو تمليك المنفعة بالمال و أنه حصل باختياره فلا يفضي إلى القطع إلا أنه لا يجوز استئجار الأب ابنه في الخدمة التي يحتاج إليها الأب لا لأنه يفضي إلى قطيعة الرحم بل لأن ذلك يستحق على الابن شرعا فلا يجوز أن يستحق الأجر في مقابلته فلا يدخل في العقد و لو استأجر الابن أباه يصح و لكن يفسخ احتراما للأب و نحن نسلم أن للأب زيادة احترام شرعا يظهر في حق هذا و في حق القصاص و الحبس و لا كلام فيه .
و أما نكاح الحليلة فإنه و إن كان فيه نوع غضاضة لكن هذا النوع من الغضاضة غير معتبر في تحريم القطع فلأن الجمع بين الأختين حرم للصيانة عن قطيعة الرحم ثم يجوز نكاح الأخت بعد طلاق أختها و انقضاء عدتها و إن كان لا يخلو عن نوع غضاضة .
و أم التكاتب : فعند أبي يوسف و محمد : يتكاتب الأخ كما في قرابة الولاد و عن أبي حنيفة فيه روايتان ثم نقول : عدم تكاتب الأخ لا يفضي إلى قطيعة الرحم لأن ملكه لا يصلح للتكاتب لأنه من رباب الصلة و التبرع و ملك المكاتب ملك ضروري لا يظهر في حق التبرع و العتق فإذا لم يتكاتب عليه لم يقدر الأخ على إزالة الذل عنه و هو الملك فلا يفضي إلى الغضاضة بخلاف الولد لأن ملك المكاتب و إن كان ضروريا لم يشرع إلا في حق حرية نفسه لكن حرية أبيه و ابنه في معنى حرية نفسه لأن المرء يسعى لحرية أولاده و آبائه مثل ما يسعى لحرية نفسه فهو الفرق و الله عز و جل أعلم .
و سواء كان المالك لذي الرحم المحرم بالغا أو صبيا عاقلا أو مجنونا يعتق عليه إذا ملكه لعموم قوله صلى الله عليه و سلم : [ من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر ] و لأنه علق الحكم و هو الحرية بالملك فيقتضي أن كل من كان من أهل الملك كان من أهل هذا الحكم و الصبي المجنون من أهل الملك فكانا من أهل هذا الحكم فإن قيل إن الصبي العاقل إذا اشترى أباه يعتق عليه و شراء القريب إعتاق عند أصحابنا حتى تتأدى به الكفارة و الصبي و إن كان عاقلا فليس من أهل الإعتاق فينبغي أن لا يعتق أو لا يكون الشراء إعتاقا قيل إن كون شراء الأب إعتاقا عرفناه بالنص و هو ما رويناه من حديث أبي هريرة Bه و النص قابل للتخصيص و التقييد و قد قام الدليل على أن الصبي ليس بمراد لأنه ليس من أهل الإعتاق فلا يكون الشراء من الصبي و إن كان عاقلا إعتاقا بل يكون تمليكا فقط فيعتق عليه بالملك شرعا لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر ] لا بالإعتاق و لو ملك حليلة ابنه أو منكوحة أبيه أو أمه من الرضاع لا يعتق عليه .
و كذا إذا ملك ابن العم و العمة أو ابنتها أو ابن الخال أو الخالة أو بنتيهما لا يعتق لأن شرط العتق ملك ذي رحم محرم فلا بد من وجودهما أعني الرحم المحرم ففي الأول وجد المحرم بلا رحم و في الثاني وجد الرحم بلا محرم فلا يثبت العتق و أهل الإسلام و أهل الذمة في ذلك سواء لاستوائهم في حرمة قطع الرحم و أهلية الإعتاق و أهلية الملك و لعموم قوله صلى الله عليه و سلم [ من ملك ذا رحم محرم فهو حر ] و ولاء المعتق لمن عتق عليه لأن العتق إن وقع بالشراء فالشراء إعتاق .
و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الولاء لمن أعتق ] و إن وقع بالملك شرعا فالملك للمعتق عليه فكان الولاء له و لو اشترى أمة و هي حبلى من أبيه و الأمة لغير الأب جاز الشراء و عتق ما في بطنها و لا تعتق الأمة و لا يجوز بيعها قبل أن تضع وله أن يبيعها إذا وضعت .
أما جواز الشراء فلا شك فيه لأن شراء الأخ جائزا كشراء الأب و سائر ذوي الرحم المحرم .
و أما عتق الحمل فلأنه أخوه و قد ملكه فيعتق عليه و لا تعتق الأم عليه لأنها أجنبية عنه لعدم القرابة بينهما يحققه أنه لو ملكها أبوه لا تعتق عليه فابنه أولى .
و أما عدم جواز بيعها ما دام الحمل قائما فلأن في بطنها ولدا حرا و لأن بيع الحامل بدون الحمل لا يجوز .
ألا ترى أنه لو باعها و استثنى الحمل يفسد البيع فإذا كان الولد حرا و الحر لا يكون محلا للبيع يصير كأنه استثنى الولد و إذا وضعت جاز بيعها لأن المانع قد زال و إذا ملك شقصا من ذي رحم محرم منه عتق عليه قدر ما ملك في قول أبي حنيفة و عند أبي يوسف و محمد و زفر يعتق كله كما لو أعتق شقصا من عبد له أجنبي لأن العتق يتجزأ عنده و عندهم لا يتجزأ .
و لو ملك رجلان ذا رحم محرم من أحدهما حتى عتق عليه فهذا لا يخلو إما إن ملكاه بسبب لهما فيه صنيع و إما إن ملكاه بسبب لا صنيع لهما فيه فإن ملكاه بسبب لهما فيه صنع بأن ملكاه بالشراء أو بقبول الهبة أو الصدقة أو الوصية لا يضمن من عتق عليه لشريكه شيئا موسرا كان أو معسرا في قول أبي حنيفة و لكن يسعى له العبد في نصيبه و عند أبي يوسف و محمد يضمن الذي عتق عليه نصيبه إن كان موسرا .
و على هذا الخلاف إذا باع رجل نصف عبده من ذي رحم محرم من عبده أو وهبه له حتى عتق عليه لا يضمن المشتري نصيب البائع عند أبي حنيفة موسرا كان القريب أو معسرا و لكن يسعى العبد في نصف قيمته للبائع و عندهما يضمن إن كان موسرا و إن كان معسرا يسعى العبد .
و لو قال الرجل لعبد ليس بقريب له : إن ملكته فهو حر ثم اشتراه الحالف و غيره صفقة واحدة ذكر الجصاص أنه على هذا الخلاف أنه لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة و عندهما يضمن و ذكر الكرخي أني لا أعرف الرواية في هذه المسألة .
و أجمعوا على أن العبد إذا كان بين اثنين فباع أحدهما نصيبه من قريب العبد حتى عتق عليه أن المشتري يضمن نصيب الشريك الساكت إن كان موسرا و لا يضمن البائع شيئا .
و الكلام في هذه المسائل بناء على أن الإعتاق لا يتجزأ عند أبي حنيفة و عندهما لا يتجزأ و وجه البناء على هذا الأصل أن الإعتاق لما لم يكن متجزئا عندهما و شراء القريب إعتاق فكان شراء نصيبه إعتاقا لنصيبه و إعتاق نصيبه إعتاق لنصيب صاحبه فيعتق كله كالعبد المشترك بين اثنين أعتقه أحدهما و هو موسر و لما كان متجزئا عنده كان شراء نصيبه إعتاقا لنصيبه خاصة فلم يكن إفسادا لنصيب شريكه و لا تمليكا لنصيبه أيضا لأن ذلك ثبت لضرورة تكميل الإعتاق لضرورة عدم التجزئة فإذا كان متجزئا عنده فلا ضرورة إلى التكميل فلا حاجة إلى التمليك .
و الدليل عليه : أنه لا ضمان إذا كان معسرا و ضمان الإتلاف و التمليك لا يسقط بالإعسار و كان ينبغي أن لا يجب الضمان على الشريك المعتق إلا أنع عرفنا وجوب الضمان ثمة مخالفا للأصول بالنص نظرا للشريك الساكت و هو مستحق للنظر إذ لم يوجد منه الرضا بمباشرة الإعتاق من الشريك و لا بمباشرة شرطه و ههنا وجد لأن كل واحد من المشترين راض بشراء صاحبه و كيف لا يكون راضيا به و أن شراء كل واحد منهما شرط لصحة شراء صاحبه حتى لو أوجب البائع لهما فقبل أحدهما دون صاحبه لم يصح .
و كذا البائع نصف عبده من ذي رحم محرمراض بشرائه و من رضي بالضرر لا ينظر له فلم تكن هذه المواضع نظير المنصوص عليه فبقي الحكم فيها على الأصل بخلاف العبد المشترك بين اثنين باع أحدهما نصيبه من ذي رحم محرم منه لأن هناك لم يوجد دليل الرضا من الشريك الساكت بشراء القريب أصلا حتى يوجب سقوط حقه في الضمان فكان في معنى المنصوص عليه / فيلحق به ثم وجه الكلام لأبي حنيفة على طريق الابتداء أنه و إن سلم أن شراء نصيبه إعتاق لنصيبه و إفساد لنصيب شريكه لكن هذا إفساد مرضي به من جهة الشريك لأنه رضي بشراء نفسه و إثبات الملك له في نصيبه و لا يمكنه ذلك دون شراء صاحبه لأن الخلاف فيما إذا أوجب البائع البيع لهما صفقة واحدة فلا بد و أن يكون القبول موافقا للإيجاب إذ البائع ما رضي إلا به .
ألا ترى أنه لو قال : بعت منكما فقبل أحدهما و لم يقبل الآخر لم يصح البيع فكان الرضا بشراء نفسه رضا بشراء صاحبه فكان شراء القريب إفسادا لنصيب الشريك برضا الشريك فلا يوجب الضمان كما إذا كان العبد مشتركا بين اثنين فقال أحدهما لصاحبه : أعتق نصيبك أو رضيت بإعتاق نصيبك فأعتق لا يضمن كذا هذا .
فإن قيل : هذه النكتة لا تتمشى في الهبة فإن أحدهما إذا قبل الهبة دون الآخر يثبت له الملك فلم يكن الرضا بقبول الهبة في نصيبه رضا بقبول صاحبه فلم يكن هذا إفسادا مرضيا به من جهة الشريك و كذا لا تتمشى فيما إذا لم يعلم الشريك الأجنبي أن شريكه قريب العبد لأنه إذا لم يعلم به لم يعلم كون شراء الشريك إعتاقا لنصيبه فلا يعلم كونه إفسادا لنصيب شريكه فلا يثبت رضاه بالإفساد لأن الرضا بالشيء بدون العلم به محال .
فالجواب : أن هذا من باب عكس العلة لأنه أراه الحكم مع عدم العلة و هذا تفسير العكس و العكس ليس بشرط في العلل الشرعية لجواز أن يكون لحكم واحد شرعي علل فنحن نفينا وجوب الضمان في بعض الصور بما ذكرنا و نبقيه في غيره بعلة أخرى ثم نقول أما فصل الهبة فنقول كل واحد منهما و إن لم يكن قبوله شرط صحة قبول الآخر حتى ينفرد كل واحد منهما بالقبول لكنهما إذا قبلا جميعا كان قبولهما بمنزلة شيء واحد لأنه جواب إيجاب واحد مثاله إذا قرأ المصلي آية واحدة قصيرة أو طويلة على الاختلاف يتعلق به الجواز و لو قرأ عشر آيات أو أكثر يتعلق الجواز بالكل و يجعل الكل كآية واحدة كذا هذا .
و أما فصل العلم فتخريجه على جواب ظاهر الرواية و هو : أن عند أبي حنيفة لا يجب الضمان سواء علم أو لم يعلم و عندهما يجب علم أو لم يعلم نص عليه في الجامع الصغير .
أما على أصلهما فظاهر لأن الضمان عندهما يجب مع العلم فمع الجهل أولى .
و أما على أصل أبي حنيفة فلأن سقوط الإتلاف عند الإذن و الرضا به لا يقف على العلم فإن من قال لرجل كل هذا الطعام و الآذن لا يعلم أنه طعام نفسه فأكله الرجل لا يستحق الضمان عليه و إن لم يعلم به و هذا لأن حقيقة العلم ليست بشرط في بناء الأحكام عليها بل المعتبر هو سبب حصول العلم و الطريق الموصول إليه و يقام ذلك مقام حقيقة العلم كما يقام سبب القدرة مقام حقيقة القدرة و طريق حصول العلم ههنا في يده و هو السؤال و الفحص عن حقيقة الحال فإذا لم يفعل فقد قصر فلا يستحق الضمان .
و روى بشر عن أبي يوسف : أنه فصل بين العلم و الجهل فقال إن كان الأجنبي يعرف ذلك فإن العبد يعتق و يسعى للأجنبي في قول أبي حنيفة و أبي يوسف و إن كان لا يعلم فهو بالخيار إن شاء نقص البيع و إن شاء تم عليه و هذا قول أبي حنيفة و أبي يوسف .
و وجه هذه الرواية : أن الشراء مع شركة الأب عيب فكان بمنزلة سائر العيوب أنه إن علم به المشتري يلزمه البيع كما في سائر العيوب .
و إن لم يعلم به لم يلزمه مع العيب و إذا لم يلزمه العقد في حق أحد الشريكين لم يلزم في حق الآخر فلا يعتق العبد و يثبت للمشتري حق الفسخ .
و ذكر في الجامع الصغير لو اشترى رجل نصف عبد ثم اشترى أب العبد النصف الباقي و هو موسر فالمشتري بالخيار بمنزلة عبد بين اثنين أعتقه أحدهما فالمشتري بالخيار لأنه لم يوجد من المشتري الأجنبي ما هو دليل الرضا في سقوط الضمان عن الأب فلا يسقط .
و روي عن أبي يوسف أنه قال : لو أن عبدا اشترى نفسه هو و أجنبي من مولاه فالبيع باطل في حصة الأجنبي لأنه اجتمع العتق و البيع في عقد واحد في زمان واحد لأن بيع نفس العبد منه إعتاق على مال فلا يصبح البيع بخلاف الرجلين اشتريا ابن أحدهما أنه يصح و إن اجتمع الشراء و العتق في عقد واحد لأن شراء القريب تملك في الزمان الأول و إعتاق في الزمان الثاني و أنه جائز لما بينا .
و روي عن أبي يوسف أنه قال : إذا قال : إن ملكت من هذا العبد شيئا فهو حر ثم اشتراه الحالف و أبوه صفقة واحدة عتق على الأب و هذه على أصله لأن العتق عنده لا يتجزأ و قد اجتمع للعتق سببان القرابة و اليمين إلا أن القرابة سابقة على اليمين فإذا ملكاه صار كأن عتق الأب أسبق فيعتق النصيبان عليه و لهذا قال في رجل قال : إن اشتريت فلانا أو بعضه فهو حر فادعى رجل آخر أنه ابنه ثم اشترياه عتق عليهما و نصف ولائه للذي أعتقه و هو ابن للذي ادعاه لأن النسب ههنا لم يسبق اليمين فيعتق نصيب كل واحد منهما عليه و لاؤه بينهما لأنه عتق عليهما و الولاء للمعتق .
و إن ملك اثنان ذا رحم محرم من أحدهما بسبب لا صنع لهما فيه بأن ورثا عبدا و هو قريب أحدهما حتى عتق عليه لا يضمن نصيب شريكه موسرا كان أو معسرا و لكن يسعى العبد في نصف قيمته لشريكه في قولهم جميعا لأن العتق ههنا ثبت بالملك شرعا من غير إعتاق من جهة أحد من العباد إذ لا صنع لأحد من العباد في الإرث و وجوب الضمان على المرء يعتمد شرعا صنعا من جهته و لم يوجد من القريب فلا يضمن و الله الموفق .
و من هذا القبيل ألفاظ النسب و ذكرها لا يخلو : إما أن يكون على وجه الصفة و إما أن يكون على سبيل الفداء فإن ذكرها على طريق الصفة بأن قال لمملوكه هذا ابني فهو لا يخلو إما إن كان يصلح ابنا له بأن كان يولد مثله لمثله و إما إن كان لا يصلح و لا يخلو إما إن كان مجهول النسب أو معروف النسب من الغير فإن كان يصلح ابنا له فإن كان مجهول النسب يثبت النسب و العتق بالإجماع و إن كان معروف النسب من الغير لا يثبت النسب بلا شك و لكن يثبت العتق عندنا و عند الشافعي : لا يثبت العتق .
و الأصل عنده : أن العتق بناء على النسب فإن ثبت النسب ثبت العتق و إلا فلا و إن كان لا يصلح ابنا له فلا يثبت النسب بلا شك و هل يعتق قال أبو حنيفة : يعتق سواء كان مجهول النسب أو معروف النسب و قال أبو يوسف و محمد : لا يعتق و الأصل عندهما أن العتق مبني على تصور النسب و احتمال ثبوته فإن تصور ثبوته ثبت العتق و إلا فلا .
و الأصل عند أبي حنيفة : أن ثبوت العتق لا يقف على ثبوت النسب و لا على قصور ثبوته و كذلك لو قال لمملوكته : هذه بنتي فهو على هذا التفصيل و الاتفاق و الاختلاف الذي ذكرنا في الابن .
وجه قولهم : أن العتق لو ثبت لا يخلو : إما إن ثبت ابتداء أو بناء على ثبوت النسب لا وجه للأول لأنه لم يوجد الإعتاق ابتداء و لا سبيل للثاني أما عند الشافعي فلأن النسب لم يثبت في المسألتين جميعا فلا يثبت العتق بناء عليه و أما عندهما فلأن في المسألة الثانية لا يتصور ثبوت النسب فلا يثبت العتق و في المسألة الأولى يتصور ثبوت النسب منه حقيقة بالزنا و الاشتهار من غيره بناء على النسب الظاهر فيعتق .
و لأبي حنيفة : أن كلام العاقل المتدين يحمل على الصحة و السداد ما أمكن لاعتبار عقله و دينه دلالة و أمكن تصحيح هذا الكلام من وجهين : الكناية و المجاز أما الكناية فلوجود طريق الكناية في اللغة و هو الملازمة بين الشيئين أو المجاورة بينهما غالبا على وجه يكون بينهما تعلق الوجود به أو عنده أو تعلق البقاء و تكون الكناية كالتابع للمكني و المكني هو المقصود فيترك اسم الأصل صريحا و يكنى عنه باسم الملازم إياه التابع له كما في قوله عز و جل { أو جاء أحد منكم من الغائط } و الغائط اسم للمكان الخالي المطمئن من الأرض كنى به عن الحدث لملازمة بين هذا المكان و بين الحدث غالبا و عادة إذ العادة أن الحدث يوجد في مثل هذا المكان تسترا عن الناس .
و كذا الاستنجاء و الاسجمار كناية عن تطهير موضع الحدث إذ الاستنجاء طلب النجو و الاستجمار طلب الجمار و كذا العرب تقول ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم أي نطأ المطر إذ المطر ينزل من السماء و نحو ذلك من مواضع الاستعمال و البنوة في الملك ملازمة للحرية فجاز أن يكنى بقوله هذا ابني عن قوله هذا معتقي و ذكر الصريح و الكناية في الكلام سواء و لو صرح فقال : هذا معتقي عتق فكذا إذا كنى به .
و أما المجاز فلأن من طرقه المشابهة بين الذاتين في المعنى الملازم المشهور في محل الحقيقة فيطلق اسم المستعار عنه على المستعار له لإظهار المعنى الذي هو ظاهر / في المستعار عنه خفي في المستعار له كما في الأسد مع الشجاع و الحمار مع البليد و نحو ذلك و قد وجد هذا الطريق ههنا من وجهين : .
أحدهما : أن الابن في اللغة اسم للمخلوق من ماء الذكر و الأنثى و فيه معنى ظاهر لازم و هو كونه منعما عليه من جهة الأب بالإحياء لاكتساب سبب وجوده و بقائه بالتربية و المعتق منعم عليه من جهة المعتق إذ الإعتاق إنعام على المعتق و قال الله عز و جل : { و إذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه } قيل في التفسير : أنعم الله تعالى عليه بالإسلام و أنعمت عليه بالإعتاق فكان بينهما مشابهة في هذا المعنى و أنه معنى لازم مشهور فيجوز إطلاق اسم الابن على المعتق مجازا لإظهار نعمة العتق كإطلاق اسم الأسد على الشجاع و الحمار على البليد .
و الثاني : أن بين معتق الرجل و بين ابنه الداخل في ملكه مشابهة في معنى الحرية و هو معنى لازم للابن الداخل في ملكه بحيث لا ينفك عنه و أنه مشهور فيه فوجد طريق الاستعارة فصحت الاستعارة و قد خرج الجواب عن قولهم : إن العتق إما إن ثبت ابتداء أو بناء على النسب لأنا نقول ابتداء لكن بأحد الطريقين و هو الكناية أو المجاز على ما بينا و لا يلزم على أبي حنيفة ما إذا قال لامرأته : هذه بنتي و مثله لا يلد مثلها أنه لا تقع الفرقة بينهما لأن إقراره بكونها بنتا له نفي النكاح لأجل النسب و ههنا لم يثبت النسب فلا ينتفي النكاح فأما ثبوت العتق فليس يقف على ثبوت النسب