ما يرجع إلى العتق ـ القسم الرابع .
و ذكر علي الرازي أصلا فقال : المستسعى على ضربين كل من يسعى في تخليص رقبته فهو في حكم المكاتب عند أبي حنيفة و كل من يسعى في بدل رقبته الذي لزمه بالعتق أو في قيمة رقبته لأجل بدل شرط عليه أو لدين ثبت في رقبته فهو بمنزلة الحر في أحكامه مثل أن يعتق الراهن عبده المرهون و هو معسر .
و كذلك العبد المأذون إذا أعتق و عليه دين و كذلك أمة أعتقها سيدها على أن تتزوجه فقبلت ثم أبت فإنها تسعى في قيمتها و هي بمنزلة الحرة و كذلك إذا قال لعبده أنت حر رقبتك فقبل ذلك فهو بمنزلة الحر و إنما كان كذلك لأن السعاية في هذه الفصول لزمت بعد ثبوت الحرية و في الفصل الأول قبل ثبوتها و إنما يسعى ليتوسل بالسعاية إلى الحرية عند أبي حنيفة .
و على هذا لو أبرأ المولى المكاتب من مال الكتابة فلم يقبل فهو حر و عليه أن يؤدي الكتابة لأن الإبراء يصح من غير قبول إلا أنه يرتد لكن فيما يحتمل الرد و العتق لا يحتمل الرد فلم يرتد بالرد و المال يحتمل الرد فيرتد بالرد فيعتق و يلزمه المال .
و لو قال لأمته : أنت حرة على ألف درهم فقبلت ثم ولدت ثم ماتت لم يكن على الولد أن يسعى في شيء مما أعتقت عليه لأنها عتقت بالقبول و دين الحرة لا يلزم ولدها و سواء أعتق عبده على عوض فقبل أو نصف عبده على عوض فقبل أن يصح غير أنه إذا أعتق نصفه على عوض فقبل يعتق نصفه بالعوض و يسعى العبد في نصف قيمته عن النصف الآخر فإذا أدى بالسعاية عتق باقيه و هو قبل الأداء بمنزلة المكاتب في جميع أحكامه إلا أنه لا يرد في الرق و هذا قول أبي حنيفة .
و على قول أبي يوسف و محمد : يعتق كله و لا سعاية عليه بناء على أن العتق يتجزأ عنده فعتق البعض يوجب عتق الباقي فيجب تخريجه إلى العتاق فيلزمه السعاية و عندهما لا يتجزأ فكان عتق البعض بعوض عتقا للكل بذلك العوض و ذكر محمد في الزيادات فيمن قال لعبده : أنت حر على ألف درهم أنت حر على مائة دينار فقال : العبد قد قبلت عتق و كان عليه المالان جميعا .
و كذا قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا على ألف درهم أنت طالق ثلاثا على مائة دينار فقالت قد قبلت طلقت ثلاثا بالمالين جميعا و هذا قول محمد .
و قال أبو يوسف في مسألة الطلاق : القبول على الكلام الأخير و هي طالق ثلاثا بمائة دينار قال الكرخي : و كذلك قياس قوله في العتق و وجهه / أنه لما أوجب العتق بعوض ثم أوجبه بعوض آخر فقد انفسخ الإيجاب الأول فتعلق القبول بالثاني كما في البيع و لمحمد أن الإعتاق و الطلاق على مال تعليق من جانب المولى و الزوج و أنه لا يحتمل الانفساخ فلم يتضمن الإيجاب الثاني انفساخ الأول فيصح الإيجابان و ينصرف القبول إليهما جميعا إذ هو يصلح جوابا لهما جميعا فيلزم المالان جميعا بخلاف البيع لأن إيجاب البيع يحتمل الفسخ فيتضمن الثاني انفساخ الأول .
و لو باع المولى العبد من نفسه أو وهب له نفسه على عوض فله أن يبيع العوض قبل القبض لأنه مملوك بسبب لا ينفسخ بهلاكه فجاز التصرف فيه قبل قبضه كالميراث و له أن يعتقه على مال مؤجل و يكون ذلك دينا عليه مؤجلا و له أن يشتري منه شيئا يدا بيد و لا خير في نسيئة لأن من أصل أصحابنا أن جميع الديون يجوز التصرف فيها قبل القبض كأثمان البياعات و العروض و الغصوب إلا بدل الصرف و السلم إلا أنه لا بد من القبض في المجلس لئلا يكون افتراقا عن دين بدين و لو أعطاه كفيلا بالمال الذي أعتقه عليه فهو جائز لأنه صار حرا بالقبول و الكفالة بدين حر جائزة كالكفالة بسائر الديون و ولاؤه يكون للمولى لأنه عتق على ملكه و المال دين على العبد لأن في جانبه معاوضة و المولى أيضا لم يرض بخروجه عن ملكه إلا ببدل و قد قبله العبد و الله عز و جل أعلم .
و أما بيان ما تصح تسميته من البدل و ما لا تصح و بيان حكم التسمية و فسادها فالبدل لا يخلو إما أن يكون عين مال و إما أن يكون منفعة و هي الخدمة فإن كان عين مال فإما أن يكون بعينه بأن كان معينا مشارا إليه و إما إن كان بغير عنيه بأن كان مسمى غير مشار إليه فإن كان بعينه عتق إذا قبل لأن عدم ملكه لا يمنع صحة تسميته عوضا لأنه مال معصوم متقوم معلوم ثم إن أجاز المالك سلم عينه إلى المولى و إن لم يجز فعلى العبد قيمة العين لأن تسميته قد صحت ثم تعذر تسليمه لحق الغير فتجب قيمته إذ الإعتاق على القيمة جائز كما إذا قال أعتقتك على قيمة رقبتك أو على قيمة هذا الشيء فقبل يعتق و كذا عدم الملك في باب البيع لا يمنع صحة التسليم أيضا حتى لو اشترى شيئا بعبد مملوك لغيره صح العقد إلا أن هناك إن لم يجز المالك يفسخ العقد إذ لا سبيل إلى إيقاعه على القيمة إذ البيع على القيمة بيع فاسد ههنا لا يفسخ لإمكان الإيقاع على القيمة إذ الإعتاق على القيمة إعتاق صحيح فتجب قيمته كما في النكاح و الخلع و الطلاق على مال و إن كان بغير عينه فإن كان المسمى معلوم الجنس و النوع و الصفة كالمكيل و الموزون فعليه المسمى و إن كان معلوم الجنس و النوع مجهول الصفة كالثياب الهروية و الحيوان من الفرس و العبد و الجارية فعليه الوسط من ذلك و إذا جاء بالقيمة يجبر المولى على القبول لأن جهالة الصفة لا تمنع صحة التسمية فيما وجب بدلا عما ليس بمال كالمهر و بدل الخلع و الصلح من دم العمد .
و إن كان مجهول الجنس كالثوب و الدابة و الدار فعليه قيمة نفسه لأن الجهالة متفاحشة ففسدت التسمية .
و الأصل فيه أن كل جهالة تزيد على جهالة القيمة توجب فساد التسمية كالجهالة الزائدة على جهالة مهر المثل في باب النكاح و الكلام فيه كالكلام في المهر و قد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في كتاب النكاح إلا أن هناك إذا فسدت التسمية يجب مهر المثل و ههنا تجب قيمة العبد لأن الموجب الأصلي هناك مهر المثل لأنه قيمة البضع و هو العدل و المصير إلى المسمى عند صحة التسمية فإذا فسدت صير إلى الموجب الأصلي و الموجب الأصلي ههنا قيمة العبد لأن الإعتاق على مال معاوضة من جانب العبد و مبنى المعاوضة على المعادلة و قيمة الشيء هي التي تعادله إلا أن عند صحة التسمية يعدل عنها إلى المسمى فإذا فسدت وجب العوض الأصلي و هو قيمة نفس العبد و إن كان البدل منفعة و هي خدمته بأن قال لعبده : أنت حر على أن تخدمني سنة فقبل فهو حر حين قبل ذلك و الخدمة عليه يؤخذ بها لأن تسمية الخدمة قد صحت فيلزمه المسمى كما إذا أعتقه على مال عين فإن مات المولى قبل الخدمة بطلت الخدمة لأنه قبل الخدمة للمولى و قد مات المولى لكن للورثة أن يأخذوا العبد بقيمة نفسه و إن كان قد خدم بعض السنة فلهم أن يأخذوه بقدر ما بقي من الخدمة و هذا قول أبي حنيفة و أبي يوسف و قال محمد : يؤخذ العبد / بقيمة تمام الخدمة إن كان لم يخدم و إن كان قد خدم بعض الخدمة يؤخذ بقيمة ما بقي من الخدمة .
و كذلك إذا قال : أنت حر على أن تخدمني أربع سنين فمات المولى قبل الخدمة على قولهما على العبد قيمة نفسه و على قول محمد عليه قيمة خدمته أربع سنين و لو كان العبد خدمه ثم مات المولى فعلى قولهما على العبد ثلاثة أرباع قيمة نفسه و على قول محمد عليه قيمة خدمته ثلاث سنين .
و كذلك لو مات العبد و ترك مالا يقضي لمولاه بقيمة نفسه عندهما و عنده يقضي بقيمة الخدمة و أصل المسألة أن من باع العبد من نفسه بجارية بعينها ثم استحقت الجارية فعلى قولهما يرجع على العبد بقيمة نفسه و على قول محمد يرجع عليه بقيمة الجارية و كذلك لو لم تستحق و لكنه وجد بها عيبا فردها فهو على هذا الاختلاف .
و جملة الكلام فيه : أن المولى إذا قبض العوض ثم استحق من يده فإن كان العوض بغير عينه كالمكيل و الموزون الموصوفين في الذمة أو العروض و الحيوان كالثوب الهروي و الفرس و العبد و الجارية فعلى العبد مثله في المكيل و الموزون و الوسط في الفرس و الحيوان لأن العقد وقع على ماله في الذمة و إنما المقبوض عوض عما في الذمة فإذا استحق المقبوض فقد انفسخ فيه القبض فبقي موجب العقد على حاله فله أن يرجع على العبد بذلك و إن كان عينا في العقد و هو مكيل أو موزون فكذلك يرجع المولى على العبد بمثله لما قلنا و إن كان عرضا أو حيوانا فقد قال أبو حنيفة و أبو يوسف يرجع على العبد بقيمة نفسه و قال محمد يرجع عليه بقيمة المستحق .
وجه قول محمد : أن العقد لم يفسخ باستحقاق العوض لأنه لا يحتمل الفسخ فيبقى موجبا لتسليم العوض و قد عجز عن تسليمه فيرجع عليه بقيمته كالخلع و الصلح عن دم العمد .
و لهما : أن العقد قد انفسخ في حق أحد العوضين و هو المستحق لأنه تبين أنه وقع على عين هي ملك المستحق و لم يجز و إذا انفسخ العقد في حقه لم يبق موجبا على العبد تسليمه فلا يجب عليه قيمته و انفساخه في حق أحد العوضين يقتضي انفساخه في حق العوض الآخر و هو نفس العبد إلا أنه تعذر إظهاره في صورة العبد فيجب إظهاره في معناه و هو قيمته فتجب عليه إذ قيمته قائمة مقام رد عينه كمن باع عبدا بجارية فأعتقها و مات العبد قبل التسليم أنه يجب على البائع رد قيمة العبد لا رد الجارية كذا ههنا .
ثم ما ذكرنا من الاختلاف في العيب إذا كان العيب فاحشا لأن العيب الفاحش في هذا الباب يوجب الرد بلا خلاف كما في باب النكاح فأما إذا كان غير فاحش فكذلك عندهما .
و أما عند محمد : فلا يملك ردها لأنه مبادلة المال بمال ليس بمال فأشبه بنكاح و المرأة في باب النكاح لا تملك رد المهر إلا في العيب الفاحش و كذا المولى ههنا و لو قال عبد رجل لرجل : اشر لي نفسي من مولاي بألف درهم فاشتراه فالوكيل لا يخلو إما أن يبين وقت الشراء أنه يشتري نفس العبد للعبد و إما إن لم يبين فإن بين جاز للشراء و عتق العبد بقبول الوكيل و يجب الثمن لأنه أتى بما وكل به فنفذ على الموكل .
ثم ذكر في الجامع أن المولى يطالب الوكيل ثم الوكيل يطالب العبد فقد جعل هذا التصرف في حكم معاوضة المال بالمال كالبيع و نحوه لأن حقوق العبد إنما ترجع إلى الوكيل في مثل هذه المعاوضة .
و ذكر في كتاب الوكالة أنه يطالب العبد و لا يطالب الوكيل و اعتبره معاوضة المال ما ليس بمال كالنكاح و الخلع و الطلاق على مال و الصلح عن دم العمد و إن لم يبين يصير مشتريا لنفسه لا للعبد لأنه إذا لم يبين فالبائع رضي بالبيع لا بالإعتاق فلو قلنا : إنه يصير مشتريا للعبد و يعتق لكان فيه إثبات الولاية على البائع من غير رضاه و هذا لا يجوز و كذلك لو بين لكنه لو خالف في الثمن بأن اشترى بزيادة يكون مشتريا لنفسه لما قلنا .
هذا إذا أمر العبد رجلا فأما إذا أمر رجل العبد بأن يشتري نفسه من مولاه بألف درهم فاشترى فإن بين وقت الشراء أنه يشتري للآمر فيكون للآمر و لا يعتق لأنه اشترى للآمر لا لنفسه فيقع الشراء للآمر و يصير قابضا لنفسه بنفس العقد لأنه في يد نفسه و ليس للبائع أن يحبسه لاستيفاء الثمن لأنه صار مسلما إياه حيث عقد على شيء هو في يده و هو نفسه و لو وجد الآمر به عيبا له أن يرده و لكن العبد هو الذي يتولى الرد لأنه وكيل و حقوق هذا العقد ترجع إلى العاقد و إن لم يبين و قال / لمولاه بع نفسي مني بألف درهم فباع صار مشتريا لنفسه و عتق لأن بيع نفس العبد منه إعتاق و كذا إذا بين و خالف أمره يصير مشتريا لنفسه و يعتق .
و لو قال لعبد واحد : أنت حر على ألف درهم فقبل أن يقبل قال له أنت حر على مائة دينار فإن قال قبلت بالمالين عتق و يلزمه المالان جميعا بلا خلاف و إن قال قبلت مبهما و لم يبين فكذلك في قول محمد .
و كذلك لو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا على ألف درهم أنت طالق ثلاثا أنها إن قالت قبلت بالمالين طلقت بالمالين بلا خلاف و إن أبهمت بأن قالت قبلت طلقت ثلاثا بالمالين جميعا في قول محمد و أما عند أبي يوسف فالقبول على الكلام الأخير في المسألتين و وجهه أن القبول خرج عقب الإيجاب الأخير فينصرف إليه و لأنه لما أوجب بعوض آخر تضمن الثاني انفساخ الأول كما في البيع فيتعلق القبول بالثاني كما في البيع و لمحمد الفرق بين الإعتاق و الطلاق على مال و بين البيع و هو أن الاعتاق و الطلاق على مال تعليق من جانب المولى و الزوج و أنه لا يحتمل الانفساخ فلم يوجب الثاني رفع الأول بخلاف البيع لأنه يحتمل الرفع و الفسخ فيوجب الثاني ارتفاع الأول هذا إذا قبل بالمالين أو قبل على الإبهام فأما إذا قبل بأحد المالين بأن قال قبلت بالدراهم أو قال قبلت بالدنانير ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه لا يعتق و علل بأن للمولى أن يقول أعتقتك بالمالين جميعا فلا يعتق بقبول أحدهما مع الشك و ذكر أبو يوسف في الأمالي أنه يعتق و وجهه أن المولى أتى بإيجابين مختلفين فكان للعبد أن يقبل بأيهما شاء .
و لو قال : أنت حر على ألف درهم أو مائة دينار فإن قبل بأحد المالين عينا عتق بأن قال قبلت بالدراهم أو قال قبلت بالدنانير لأنه أعتقه بأحد المالين و إن قبل بأحد المالين غير عين عتق أيضا لوجود الشرط و يلزمه أحد المالين و البيان إليه كما إذا قال لفلان علي ألف درهم أو مائة دينار يلزمه أحدهما و البيان إليه كذا .
و لو قال : قبلت بالمالين لا شك أنه يعتق لأن في قبول المالين قبول أحدهما فوجد شرط العتق فيعتق و يلزمه أحد المالين لأنه أعتقه على أحد المالين فلا تلزمه الزيادة و البيان إلى العبد يختار أيهما شاء و كذلك إذا قال قبلت و لم يبين يعتق و يلزمه أحد المالين و خيار التعيين إليه لأن قوله قبلت يصلح جواب الإيجاب فيصير كأنه قال قبلت بأحدهما و لم يعين أو قبلت بهما و هناك يعتق و خيار التعيين إليه كذا ههنا .
و على هذا إذا قال لامرأته : أنت طالق على ألف درهم أو على مائة دينار فقبلت بأحدهما عينا أو غير عين أو قبلت بالمالين أو أبهمت لما قلنا في العتق و كذلك لو قال أنت حر على ألف درهم أو على الألفين إلا أن ههنا إذا قبل بالمالين يعتق بألف و لا يخير لأن الجنس متحد و التخيير بين الأكثر و الأقل في الجنس الواحد لا يفيد لأنه لا يختار إلا الأقل بخلاف الفصل الأول لأن هناك اختلف الجنس فكان التخيير مفيدا هذا كله إذا أضاف العتق إلى معين فإن أضافه إلى مجهول بأن قال لعبديه أحدكما حر بألف درهم لا يعتق واحد منهما ما لم يقبلا جميعا حتى لو قبل أحدهما و لم يقبل الآخر لا يعتق لأن قوله أحدكما كما يقع على القابل يقع على غير القابل فمن الجائز أنه عنى به غير القابل .
ألا ترى أن له أن يقول : عنيت به غير القابل فلو حكمنا بعتق القابل لكان فيه إثبات العتق بالشك و إن قبلا جميعا فإن قبل كل واحد منهما بخمسمائة لا يعتق واحد منهما لأنه أعتق أحدهما بألف لا بخمسمائة و إن قبل كل واحد منهما بألف بأن قال كل واحد منهما قبلت بألف درهم أو قال قبلت و لم يقل بألف أو قالا ما قبلنا بألف أو قالا قبلنا و لم يذكرا الألف عتق أحدهما بألف لوجود شرط العتق و هو قبول كل واحد منهما الألف و يقال للمولى اختر العتق في أحدهما لأنه هو الذي أجمل العتق فكان البيان إليه فإيهما اختار عتق و لزمته الألف فإن مات قبل البيان يعتق من كل واحد منهما نصفه بخمسمائة و يسعى في نصف قيمته لأنه لما مات قبل البيان و قد شاع عتق رقبة فيهما فيقسم عليهما نصفين .
و لو قال : أحدكما حر بألف درهم فقبلا ثم قال : أحدكما حر بألف درهم أو / قال أحدكما حر بغير شيء فاللفظ الثاني لغو لأنهما لما قبلا بالعتق بالإيجاب الأول فقد نزل العتق في أحدهما لوجود شرط النزول و هو قبولهما فالإيجاب الثاني يقع جمعا بين حر و عبد فلا يصح و لو لم يقبلا ثم قال أحدكما حر بغير شيء عتق أحدهما باللفظ الثاني بغير شيء لأنهما لم يقبلا لم ينزل العتق بالإيجاب الأول فصح الإيجاب الثاني و هو تنجيز العتق على أحدهما غير عين فيقال للمولى اصرف اللفظ الثاني إلى أحدهما فإذا صرفه إلى أحدهما عتق ذلك بغير شيء لأن التنجيز حصل بغير بدل .
و أما الآخر : فإن قبل البدل في المجلس يعتق و إلا فلا لأن الإيجاب الأول وقع صحيحا لحصوله بين عبدين و تعلق العتق بشرط القبول و قد وجد فيه ضرب إشكال و هو أن شرط وجوب الحرية لأحدهما هو قبولهما و لم يوجد ههنا إلا قبول أحدهما فينبغي أن لا يعتق العبد الآخر .
و الجواب : أن الإيجاب أضيف إلى أحدهما ألا ترى أنه قال : أحدكما حر و قد وجد القبول من أحدهما ههنل إلا أنه إذا لم ينجز عنق أحدهما يتوقف عتق أحدهما على قبولهما جميعا لاحتمال أنه أراد به الآخر فإذا عينه في التخيير علم أنه ما أراده بالإيجاب الأول لأن الإعتاق من المعتق لا يتصور فتعين الآخر للقبول و قد قبل فيعتق و لو قبلا جميعا قبل البيان عتقا لأن العتق لم ينزل بالإيجاب الأول لأنه تعليق العتق بشرط القبول فلا ينزل قبل وجود الشرط فيصح الإيجاب الثاني فإذا قبلا جميعا فقد تيقنا بعتقهما لأن أيهما أريد بالإيجاب الأول عتق بالقبول و أيهما أريد بالإيجاب الثاني عتق من غير قبول لأنه إيجاب بغير بدل فكان عتق كل واحد منهما متيقنا به لكن عتق أحدهما بالإيجاب الأول و عتق الآخر بالإيجاب الثاني فيعتقان و لا يقضى عليهما بشيء لأن أحدهما و إن عتق بالإيجاب ببدل إلا أنه مجهول و القضاء بإيجاب المال على المجهول متعذر كرجلين قالا لرجل لك على أحدنا ألف درهم أنه لا يلزمهما بهذا الإقرار شيء لكون المقضي عليه مجهولا كذا هذا و لو لم يقبلا جميعا و لكن قيل أحدهما لا يعتق إلا أحدهما لوجود شرط عتق أحدهما و هو قبول أحدهما في هذه الصورة لما بينا من الفقه ثم إن صرف المولى اللفظ الثاني إلى غير القابل عتق غير القابل بغير شيء و عتق القابل بألف و إن صرف اللفظ الثاني إلى القابل عتق القابل بغير شيء و عتق غير القابل باللفظ الأول بألف إن قبل في المجلس لأن القابل منهما يعتق بالإيجاب الأول و أنه ايجاب ببدل فيعتق ببدل و غير القابل يعتق بالإيجاب الثاني و إنه إيجاب بغير بدل فيعتق بغير بدل .
و لو قال لعبديه : أحدكما حر بغير شيء ثم قال أحدكما حر بألف درهم فالكلام الثاني لغو لأن أحدهما عتق بالإيجاب الأول لوجود تنجيز العتق في أحدهما فالثاني يقع جمعا بين الحر و العبد فيبطل .
و لو قال : أحدكما حر بألف درهم فقبل أن يقبلا قال أحدكما حر بمائة دينار فإن قبل كل واحد منهما العتق بأحد المالين بأن قبل أحدهما بألف درهم و قبل الآخر بمائة دينار أو قبل أحدهما بالمالين و لم يقبل الآخر أو قبل أحدهما بالمالين و قبل الآخر بمال واحد لا يعتق واحد منهما لأن المولى أن يجمع المالين على أحدهما فيقول عنيتك بالمالين أو يقول عنيت غيرك فلا يثبت العتق مع الشك فإن قبلا جميعا بالمالين بأن قال كل واحد منهما قبلت بالمالين أو قالا جميعا قد قبلنا يخير المولى فيقال له إما أن تصرف اللفظين جميعا إلى أحدهما فتجمع المالين عليه فيعتق بالمالين و يبقى الآخر رقيقا و إما أن تصرف أحد اللفظين إلى أحدهما و الآخر إلى صاحبه فيعتق أحدهما بألف درهم و الآخر بمائة دينار لأن الإيجابين وقعا صحيحين .
أما الأول فلا شك فيه و لأنه أضيف إلى أحد العبدين و كذا الثاني لأن الإيجاب الأول لم يتصل به القبول و العتق معلق بالقبول فالإيجاب الثاني حصل مضافا إلى أحد عبدين فيصح و متى صح الإيجاب الثاني فيحتمل أنه عنى به من عناه بالإيجاب الأول و يحتمل أنه عنى به العبد الآخر لذلك خير المولى فإن مات قبل البيان عتق من كل واحد ثلاثة أرباعه بنصف المالين لأن أحدهما حر بيقين لأنه أراد بالإيجاب الثاني غير من أراده بالأول فكان الثابت بالكلامين عتقين بكل كلام عتق و إن أراد بالثاني عين من أراده بالأول كان الثابت بالكلامين عتقين بكل كلام عتق و إن أراد بالثاني عين من أراده بالأول كان الثابت بالكلامين عتق واحد فإذا عتق واحد ثابت بيقين و العتق الآخر يثبت / في حال و لا يثبت في حال فينصف فثبت عتق و نصف عتق بالمالين و ليس أحدهما بكمال العتق بأولى من الآخر فينقسم عتق و نصف عتق بينهما فيصيب كل واحد منهما ثلاثة أرباع العتق بنصف المالين و يسعى في ربع قيمته .
و لو قال لعبد له بعينه : أنت حر على ألف درهم فقبل أن يقبل جمع بين عبد له آخر و بينه فقال : أحدكما حر بمائة دينار فقالا قبلنا يخير المولى فإن شاء صرف اللفظين إلى المعين و عتق بالمالين جميعا و إن شاء صرف أحد اللفظين إلى أحدهما و الآخر إلى الآخر و عتق المعين بألف درهم و غير المعين بمائة دينار لأن الإيجابين صحيحان لما قلنا فيحتمل أنه أراد بالثاني المعين أيضا و يحتمل أنه أراد به غير المعنى فيقال له بين فأيهما بين فالحكم للبيان فإن مات قبل البيان عتق المعين كله لأنه دخل تحت الإيجابين جميعا .
أما الإيجاب الأول فلا شك فيه لأنه خصه به فلا يشاركه فيه غيره .
و أما الإيجاب الثاني فلأن قوله أحدكما يقع على كل واحد منهما فإذا قبل الإيجابين وجد شرط عتقه فيعتق فيلزمه ألف درهم و خمسون دينارا أما الألف فلأنه لا مشاركة للثاني فيهما و أما نصف المائة الدينار فلأنه في حال يلزمه مائة دينار و هي ما عناه باللفظين و في حال لا يلزمه منها شيء و هي ما إذا عنى باللفظ الثاني غيره فيتنصف ذلك فيلزمه خمسون دينارا .
و أما غير المعين فإنه يعتق نصفه بنصف المائة لأنه يعتق في حال و لا يعتق في حال لأنه إن عناه بالإيجاب الثاني يعتق كله بكل المائة و إن لم يعنه شيء منه و لا يلزمه شيء فيعتق في حال و لم يعتق في حال فتغير الأحوال و يعتق نصفه بنصف المائة و هو خمسون .
هذا إذا عرف المعين من غير المعين فإن لم يعرف و قال كل واحد منهما : أنا المعين يعتق من كل واحد منهما ثلاثة أرباعه بنصف المالين و هو نصف الألف و نصف المائة الدينار لاستوائهما في ذلك و الثابت عتق و نصف عتق فيصيب كل واحد منهماثلاثة أرباع العتق و يسعى في ربع قيمته .
و لو قال لعبديه : أحدكما حر على ألف درهم و الآخر على خمسمائة فإن قالا جميعا قبلنا أو قال كل واحد منهما قبلت بالمالين أو قال كل واحد منهما قبلت بأكثر المالين عتقا جميعا فيلزم كل واحد منهما خمسمائة أما عتقهما فلأن الإيجابين خرجا على الصحة بخروج كل واحد منهما بين عبدين و المراد بالإيجاب الثاني ههنا غير المراد بالإيجاب الأول فإذا قبلا فقد وجد شرط نزول العتق فيهما جميعا و انقطع خيار المولى ههنا فيعتقان جميعا و على كل واحد منهما خمسمائة لأن أحدهما عتق بألف و الآخر بخمسمائة لكنا لا ندري الذي عليه الألف و الذي عليه خمسمائة إلا أنا تيقنا بوجوب خمسمائة على كل واحد منهما و في الفصل الثاني شك فيجب المتيقن و لا يجب المشكوك فيه كاثنين قالا لرجل لك على أحدنا ألف درهم و على الآخر خمسمائة لا يطالب كل واحد منهما إلا بخمسمائة لما قلنا فكذا هذا .
و لو قبل أحدهما بأقل المالين و الآخر بأكثر المالين عتق الذي قبل العتق بأكثر المالين لأنه لا يخلو إما أن عناه المولى بالإيجاب بالأقل أو بالإيجاب بالأكثر فتيقنا بعتقه ثم في الأكثر قدر الأقل و زيادة فيلزمه خمسمائة كأنه قال قبلت بالمالين فيلزمه الأقل و هو خمسمائة و يصير بعد العتق كأنه قال لك علي ألف درهم أو خمسمائة و لو قال ذلك لزمه الأقل كذا ههنا .
و لو قبل كل واحد منهما بأقل المالين لا يعتقان لأن حجة المولى لم تنقطع لأن له أن يقول لم أعتقك بهذا المال بخلاف ما إذا قبل أحدهما بأكثر المالين لأن الأقل داخل في الأكثر .
و لو قال : أحدكما حر بألف و الآخر بألفين فإن قبل بأن قال كل واحد منهما قبلت بالمالين أو قالا قبلنا عتقا لوجود شرط عتقهما و على كل واحد منهما ألف لأنه أعتق أحدهما بألف و الآخر بألفين فتيقنا بوجوب الألف على كل واحد منهما كرجلين قالا لرجل لك على أحدنا ألف و على الآخر ألفان يلزم كل واحد منهما ألف لكون الألف تيقنا بها كذا هذا .
و إن قبل أحدهما المالين جميعا بأن قال قبلت بالمالين أو قال قبلت أو قبل بأكثر المالين بأن قال قبلت بالمالين أو قال قبلت بألفين يعيق لوجود شرط العتق و هو القبول أما إذا قبل بالمالين أو قال قبلت فلا شك فيه و كذا إذا قبل بأكثر المالين لوجود القبول المشروط بيقين فيعتق .
و قيل : هذا على قياس قولهما فأما على قياس قول أبي حنيفة ينبغي أن لا يعتق و هو القياس على مسألة الشهادة بالألف و الألفين و الصحيح أنه يعتق بلا خلاف و إذا عتق لا يلزمه الألف درهم لأن الواجب أحد المالين و أحدهما أقل و الآخر أكثر و الجنس متحد فيتعين بالأقل للوجوب و لا يخير العبد ههنا لأن التخيير بين الأقل و الأكثر عند اتحاد الجنس غير مفيد لأنه يختار الأقل لا محالة و إن قبل أحدهما بالألف لا يعتق لأن للمولى أن يصرف العتق إلى الآخر كما إذا قال : أحدكما حر بألفين فقبل أحدهما .
و لو قال : أحدكما حر بألف أحدكما حر بمائة دينار فإن قبلا عتقا لوجود شرط العتق و لا شيء عليهما لأن المقضي عليه مجهول إذ لا يدرى الذي عليه الألف منهما و الذي عليه المائة الدينار كاثنين قالا لرجل لك على أحدنا ألف درهم و على الآخر مائة دينار أنه لا يلزم أحدهما شيء كذا هذا و كذا هذا في الطلاق بأن قال لامرأتيه إحداكما طالق بألف و الأخرى بمائة دينار فقبلتا جميعا طلقت كل واحدة منهما طلقة بائنة و لا يلزمهما شيء لما قلنا .
و إن قبل أحدهما العتق بألف درهم أو بمائة دينار أو قبل أحدهما العتق بأحد المالين و الآخر بالمال الآخر لا يعتق واحد منهما لأن المولى أن يقول لم أعنك بهذا المال الذي قبلت .
و لو قبل أحدهما بالمالين عتق و يلزمه أي المالين اختاره لأن الواجب أحدهما و هما جنسان مختلفان فكان التخيير مفيدا فيخير بخلاف الفصل الأول فإن قبل الآخر في المجلس عتقا و سقط المال عن القابل الأول لأن المقضي عليه مجهول هذا إذا كان قبل قبل البيان من الأول فإن قبل بعد البيان عتق الثاني بغير شيء و عتق الأول بالمالين لأن بيانه في حق نفسه صحيح و في حق الآخر لم يصح .
و لو قال أحدكما : حر بألف و الآخر حر بغير شيء فإن قبلا جميعا عتقا لوجود شرط عتقهما و هو قبولهما و لا شيء عليهما لأن الذي عليه البدل مجهول و لا يمكن القضاء على المجهول كرجلين قالا لرجل لك على أحدنا ألف درهم و لا شيء على الآخر لا يجب على أحدهما شيء لجهالة من عليه الواجب كذا ههنا و إن قبل أحدهما بألف و لم يقبل الآخر يقال للمولى اصرف اللفظ الذي هو إعتاق بغير بدل إلى أحدهما فإن صرفه إلى غير القابل عتق غير القابل بغير شيء و عتق القابل بألف و إن صرفه إلى القابل عتق القابل بغير شيء و يعتق الآخر بالإيجاب الذي هو ببدل إذا قبل في المجلس و كذا لو لم يقبل واحد منهما حتى صرف الإيجاب الذي هو بغير بدل إلى أحدهما يعتق هو و يعتق الآخر إن قبل البدل في المجلس و إلا فلا .
و إن مات المولى قبل البيان عتق القابل كله و عليه خمسمائة و عتق نصف الذي لم يقبل و يسعى في نصف قيمته أما عتق القابل كله فلأن عتقه ثابت بيقين لأنه إن أريد بالإيجاب الأول عتق و إن أريد بالإيجاب الثاني عتق فكان عتقه متيقنا به و أما لزوم خمسمائة لأنه إن أعتق بالإيجاب الأول يعتق بألف و إن أعتق بالإيجاب الثاني يعتق بغير شيء فينصف الألف فيلزمه خمسمائة .
و أما عتق النصف من غير القابل فلأنه إن أريد باللفظ الأول لا يعتق و إن أريد باللفظ الثاني يعتق فيعتق في حال دون حال فيتنصف عتقه فيعتق نصفه و يسعى في نصف قيمته .
هذا إذا كان الإعتاق تنجيزا أو تعليقا بشرط فأما إذا كان أضافه إلى وقت فلا يخلو إما أن أضافه إلى وقت واحد و إما أن أضافه إلى وقتين فإن أضافه إلى وقت واحد فإما إن أضافه إلى مطلق الوقت و إما أن أضافه إلى وقت موصوف بصفة و في الوجوه كلها يشترط وجود الملك وقت الإضافة لأن إضافة الإعتاق إلى وقت إثبات العتق في ذلك الوقت لا محالة و لا ثبوت للعتق بدون الملك و لا يوجد الملك في ذلك الوقت إلا إذا كان موجودا وقت الإضافة لأنه إن كان موجودا وقت الإضافة فالظاهر أنه يبقى إلى الوقت المضاف إليه فيثبت العتق و إذا لم يكن موجودا كان الظاهر بقاءه على العدم فلا يثبت العتق في الوقت المضاف إليه لا محالة فيكون خلاف تصرفه .
و الأصل اعتبار تصرف العاقل على الوجه الذي أوقعه أما الإضافة إلى وقت مطلق فنحو أن يقول لعبده أنت حر غدا أو رأس شهر كذا فيعتق إذا جاء غد أو رأس الشهر لأنه جعل الغد أو رأس الشهر ظرفا للعتق فلا بد من وقوع العتق عنده ليكون ظرفا له و ليس هذا تعليقا بشرط لانعدام أدوات التعليق / و هي كلمات الشرط و لهذا لو حلف لا يحلف فقال هذه المقالة لا يحنث بخلاف ما إذا قال : أنت حر إذا جاء غد لأن ذلك تعليق بشرط لوجود كلمة التعليق .
فإن قيل : كيف يكون تعليقا بشرط و الشرط ما في وجوده خطر و مجيء الغد كائن لا محالة قيل له من مشايخنا من قال إن الغد في مجيئه خطر لاحتمال قيام الساعة في كل ساعة قال الله سبحانه و تعالى : { و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر } أو هو أقرب فيصلح مجيء الغد شرطا لكن هذا الجواب ليس بسديد لأن الساعة لا تقوم إلا عند وجود أشراطها من خروج يأجوج و مأجوج و دابة الأرض و خروج الدجال و طلوع الشمس من مغربها و نحو ذلك مما دل عليه الكتاب و وردت به الأخبار .
و الجواب الصحيح أن يقال : أن مجيء الغد و إن كان متيقن الوجود يمكن كونه شرطا لوقوع العتق و ليس بمتيقن الوجود بل له خطر الوجود و العدم لاحتمال موت العبد قبل مجيء الغد أو موت المولى أو موتهما و حينئذ لا يكون شرطا لعدم تصور الجزاء على أن الشرط اسم لما جعل علما لنزول الجزاء سواء كان موهوم الوجود أو متيقن الوجود