ما يرجع إلى العتق - القسم الثالث .
و أما الإضافة إلى وقت موصوف فنحو أن يقول لعبده أنت حر قبل دخولك الدار بشهر أو قبل قدوم فلان بشهر أو قبل موت فلان بشهر و لا شك أنه لا يعتق قبل وجود الوقت الموصوف حتى لو وجد شيء من هذه الحوادث قبل تمام الشهر لا يعتق لأنه أضاف العتق إلى الوقت الموصوف فلا يثبت قبله و يشترط تمام الشهر وقت التكلم و إن كان العبد في ملكه قبل ذلك بشهور بل بسنين لأن إضافة العتق إلى وقت إيجاب العتق فيه غير إيجاب العتق في الزمان الماضي و إيجاب العتق في الزمان الماضي لا يتصور فلا يحمل كلام العاقل عليه و لا شك أن العتق ثبت عند وجود هذه الحوادث لتمام الشهر .
و اختلف في كيفية ثبوته فقال زفر : يثبت من أول الشهر بطريق الظهور و قال أبو يوسف و محمد : يثبت مقتصرا على حال وجود الحوادث و أبو حنيفة فرق بين القدوم و الدخول و بين الموت فقال في القدوم و الدخول كما قالا و في الموت كما قال زفر حتى لو كان المملوك أمة فولدت في وسط الشهر يعتق الولد في قول أبي حنيفة و زفر و عندهما : لا يعتق .
وجه قول زفر : أنه أوقع العتق في وقت موصوف بكونه متقدما على هذه الحوادث بشهر فإذا وجدت بعد شهر متصلة به علم أن الشهر من أوله فإن موصوفا بالتقدم عليها لا محالة فتبين أن العتق كان واقعا في أول الشهر كما إذا قال أنت حر قبل رمضان بشهر و لا فرق سوى أن هناك يحكم بالعتق من أول هلال شعبان و لا يتوقف على مجيء شهر رمضان و ههنا لا يحكم بالعتق من أول الشهر لأن ثمة رمضان يتصل بشعبان لا محالة و ههنا وجود هذه الحوادث يحتمل أن يتصل بهذا الشهر و يحتمل أن لا يتصل لجواز أنها لا توجد أصلا فأما في ثبوت العتق في المسألتين من ابتداء الشهر فلا يختلفان و لهذ قال أبو حنيفة ثبوت العتق بطريق الظهور في الموت .
وجه قولهما : أن هذا في الحقيقة تعليق العتق بهذه الحوادث لأنه أوقع العتق في شهر متصف بالتقدم على هذه الحوادث و لا يتصف بالتقدم عليها إلا باتصالها به و لا تتصل به إلا بعد وجودها فكان ثبوت العتق على هذا التدريج متعلقا بوجود هذه الحوادث فيقتصر على حال وجودها و لهذا قال أبو حنيفة هكذا في الدخول و القدوم كذا في الموت بخلاف شعبان لأن اتصاف شعبان بكونه متقدما على رمضان لا يقف على مجيء رمضان .
و وجه الفرق لأبي حنيفة بين الدخول و القدوم و بين الموت أن في مسألة القدوم و الدخول بعد ما مضى شهر من وقت التكلم يبقى الشهر الذي أضيف إليه العتق هو موهوم الوجود قد يوجد و قد لا يوجد لأن قدوم فلان موهوم الوجود قد يوجد و قد لا يوجد فإن وجد يوجد هذا الشهر و إلا فلا لما ذكرنا أن الشهر لا وجود له بدون الاتصاف و لا اتصاف بدون الاتصال و لا اتصال بدون القدوم إذ الاتصال إنما يتصور بين موجودين لا بين موجود و معدوم فصار العتق و إن كان مضافا إلى الشهر متعلقا بوجود القدوم فكان هذا تعليقا ضرورة فيقتصر الحكم المتعلق به على حال وجود الشرط كما في سائر التعليقات فأما في مسألة الموت فبعد ما مضى شهر من زمن الكلام لم يبق ذات الشهر الذي أضيف إليه العتق موهوم الوجود بل هو كائن لا محالة لأن الموت كائن لا محالة فصار هذا الشهر متحقق الوجود بلا شك بخلاف الشهر المتقدم على الدخول و القدوم غير أنه / مجهول الذات فلا يحكم بالعتق قبل وجود الموت و إذا وجد فقد وجد المعرف للشهر بخلاف الشهر المتقدم على شهر رمضان فإنه معلوم الذات لأنه كما وجد شعبان علم أنه موصوف بالتقدم على رمضان و ههنا بخلافه و بخلاف القدوم و الدخول فإن بعد مضي شهر من وقت الكلام بقي ذات الشهر الذي أضيف إليه العتق موهوم الوجود فلم يكن القدوم معرفا للشهر بل كان محصلا للشهر الموصوف بهذه الصفة بحيث لولا وجوده لما وجد هذا الشهر البتة فكان الموت مظهرا معينا للشهر فيظهر من الأصل من حين وجوده .
ثم اختلف مشايخنا في كيفية الظهور على مذهب أبي حنيفة .
قال بعضهم : هو ظهور محض فتبين أن العتق كان واقعا من أول الشهر من غير اعتبار حالة الموت و هو أن يعتبر الوقوع أولا ثم يسري إلى أول الشهر لأن الأصل اعتبار التصرف على الوجه الذي أثبته المتصرف و المتصرف أضاف العتق إلى أول الشهر المتقدم على الموت فيقع في أول الشهر لا في آخره فكان وقت وقوع الطلاق أول الشهر فيظهر أن العتق وقع من ذلك الوقت كما إذا قال إن كان فلان في الدار فعبده حر فمضت مدة ثم علم أنه كان في الدار يوم التكلم يقع العتق من وقت التكلم لا من وقت الظهور .
و هؤلاء قالوا : لو كان مكان العتاق طلاق ثلاث فالعدة تعتبر من أول الشهر في قول أبي حنيفة حتى لو حاضت في الشهر حيضتين ثم مات فلان كانت الحيضتان محسوبتان من العدة و لو كان قال أنت طالق قبل موت فلان بشهرين أو ثلاثة أشهر ثم مات فلان لتمام المدة أو كانت المرأة رأت ثلاثة حيض في المدة تبين عند موته أن الطلاق كان واقعا و أن العدة انقضت كما لو قال : إن كان زيد في الدار فامرأتي طالق ثم علم بعدما حاضت المرأة ثلاثة حيض أنه كان في الدار يوم التكلم به تبين أنها قد طلقت من ذلك الوقت و أنها منقضية العدة كذا هذا .
و كذلك لو قال إن كان حمل فلانة غلاما فأنت طالق فولدت غلاما يقع الطلاق على طريق التبيين كذا هذا .
و الذي يؤيد ما قلنا أن رجلا لو قال : آخر امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة ثم أخرى ثم ماتت طلقت الثانية على وجه التبيين المحض عند أبي حنيفة و إن كان لا يحكم بطلاقها ما لم يمت كذا ههنا .
و قالوا : لو خالعها في وسط الشهر ثم مات فلان لتمام الشهر فالخلع باطل و يؤمر الزوج برد بدل الخلع سواء كانت عند الموت معتدة أو منقضية العدة أو كانت ممن لا عدة عليها بأن كانت غير مدخول بها و هؤلاء طعنوا فيما ذكر محمد في الكتاب لتخريج قول أبي حنيفة أنه إن مات فلان و هي في العدة يحكم ببطلان الخلع و يؤمر الزوج برد بدل الخلع و إن كانت غير معتدة وقت موت فلان بأن كان بعد الخلع قبل موت فلان أسقطت سقطا أو كانت غير مدخول بها لا يبطل الخلع و لا يؤمر الزوج برد بدل الخلع .
و قالوا هذا التخريج لا يستقيم على قول أبي حنيفة لأن هذا ظهور محض فتبين عند وجود الجزء الأخير أن هذا الشهر من ابتداء وجوده موصوف بالتقدم فتبين أن المطلقات الثلاث كانت واقعة من ذلك الوقت سواء كانت معتدة أو غير معتدة كما لو قال إن كان فلان في الدار فامرأته طالق ثم خالعها ثم تبين أنه كان يوم الحلف في الدار أنه يتبين أن الخلع كان باطلا على الإطلاق سواء كانت معتدة أو لم تكن كذا ههنا .
و الفقه : أن وقت الموت إذا لم يكن وقت وقوع الطلاق لا يعتبر فيه قيام الملك و العدة و عامة مشايخنا قالوا إن العتق أو الطلاق يقع وقت الموت ثم يستند إلى أول الشهر إلا أنه يظهر أنه كان واقعا من أول الشهر .
و وجهه : مما لا يمكن الوصول إليه إلا بمقدمة و هي أن ما كان الدليل على وجوده قائما يجعل موجودا في حق الأحكام لأن إقامة الدليل مقام المدلول أصل في الشرع و العقل .
ألا ترى أن الخطاب يدور مع دليل القدرة و سببها دون حقيقة القدرة و مع دليل العلم و سببه دون حقيقة العلم حتى لا يعذر الجاهل بالله عز و جل لقيام الآيات الدالة على وجود الصانع و لا بالشرائع عند إمكان الوصول إلى معرفتها بدليلها ثم الدليل و إن خفي بحيث يتعذر الوصول إليه يكتفى به إذا كان ممكن الحصول في الجملة إذ الدلائل تتفاوت في نفسها في الجلاء و الخفاء و المستدلون أيضا يتفاوتون / في الغباوة و الذكاء فالشرع أسقط اعتبار هذا التفاوت فكانت العبرة لأصل الإمكان في هذا الباب و أما ما كان الدليل في حقه منعدما فهو في حق الأحكام ملحق بالعدم .
و إذا عرف هذا فنقول : الشهر الذي يموت فلان في آخره فإن اتصف بالتقدم من وقت وجوده لكن كان دليل اتصافه منعدما أصلا فلم يكن لهذا الاتصاف عدة و يبقى ملك النكاح إلى آخر جزء من أجزاء الشهر فيعلم كونه متقدما على موته و من ضرورة اتصاف هذا الجزء بالتقدم اتصاف جميع الأجزاء المتقدمة عليه إلى تمام الشهر و لا يظهر أن دليل الاتصاف كان موجودا في أول الشهر إذ الدليل هو آخر جزء من أجزاء الشهر و وجود الجزء الأخير من الشهر مقارنا لأول الشهر محال فلم يكن دليل اتصاف الشهر بكونه متقدما موجودا فلم يعتبر هذا الاتصاف فبقي ملك النكاح إلى وقت وجود الجزء الأخير فيحكم في هذا الجزء بكونها طالقا .
و من ضرورة كونها طالقا في هذا الجزء ثبوت الانطلاق من الأصل لأنها تكون طالقا بذلك الطلاق المضاف إلى أول الشهر الموصوف بالتقدم على الموت فلأجل هذه الضرورة حكم بالطلاق من أول الشهر بعدما كان النكاح إلى هذا الوقت قائما لعدم دليل الاتصاف بالتقدم على ما بينا ثم لما حكم بكونها طالقا للحال وثبت الانطلاق فيما مضى من أول الشهر ضرورة جعل كأن الطلاق يقع للحال ثم بعد وقوعه يسري إلى أول الشهر هكذا يوجب ضرورة ما بينا من الدليل و إذا جعل هكذا يخرج عليه المسائل .
أما العدة : فإنها تجب في آخر جزء من أجزاء حياة فلان الميت لأنها مما يحتاط في إيجابها فوجبت للحال و جعل كأن الطلاق وقع للحال .
و أما الخلع : فإن كانت العدة باقية وقت الموت لم يصح و إن كانت منقضية العدة صح لأنها إذا كانت باقية كان النكاح باقيا من وجه و يحكم ببقائه إلى هذه الحالة لضرورة عدم الدليل ثم يحكم للحال بكونها طالقا بذلك الطلاق المضاف و سرى و استند إلى أول الشهر علم أنه خالعها و هي بائنة عنه فلم يصح الخلع و يؤمر الزوج برد بدل الخلع و إذا كانت منقضية العدة وقت الموت فالنكاح الذي كان يبقى إلى آخر جزء من أجزاء حياته لضرورة عدم الدليل لا يبقى لارتفاعه بالخلع فبقي النكاح إلى وقت الخلع و لم يظهر أنه كان مرتفعا عند الخلع فحكم بصحة الخلع و لا يؤمر الزوج برد بدل الخلع بخلاف ما إذا قال : إن كان زيد في الدار لأن دليل الوقوف على كون زيد في الدار موجود حالة التكلم فانعقد الطلاق تنجيزا لو كان هو في الدار لأن التعليق بالموجود تحقق و بخلاف ما إذا قال إن كان حمل فلانة غلاما لأن الولد في البطن يمكن الوقوف في الجملة على صفة الذكورة و الأنوثة فإنه ما من ساعة إلا و يجوز أن يسقط الحمل فانعقد الطلاق تنجيزا ثم علمنا بعد ذلك .
و بخلاف ما إذا قال : آخر امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة ثم أخرى ثم مات أنه يقع الطلاق على الثانية من طريق التبيين لأن هناك لما تزوج الثانية اتصفت بكونها آخر الوجود حد الآخر و هو الفرد اللاحق و هي فرد و هي لاحقة ألا ترى أنه يقول امرأتي الأولى و امرأتي الأخيرة إلا أنه لا يحكم بوقوع الطلاق للحال لاحتمال أنه يتزوج بثالثة فتسلب صفة الآخرية عن الثانية فإذا مات قبل أن يتزوج بثالثة تقررت صفة الآخرية للثانية من الأصل فحكم بوقوع الطلاق من ذلك الوقت و ههنا دليل اتصاف الشهر بالتقدم منعدم في أول الشهر و ما لا دليل عليه يلحق بالعدم و هو هذا بخلاف ما إذا قال لامرأته إن لم أتزوج عليك فأنت طالق و لم يتزوج حتى مات أنه يقع الطلاق على امرأته مقتصرا على الحال لأن هناك علق الطلاق صريحا بعدم التزوج و العدم يستوعب العمر .
ألا ترى أنه لو تزوج في العمر مرة لا يوصف بعدم التزوج لأن الوجود قد تحقق و العدم يقابل الوجود فلا يتحقق مع الوجود فيتم ثبوته عند الموت و المعلق بشرط ينزل عند تحقق الشرط بتمامه فوقع مقتصرا على حال وجود الشرط و أما هذا فليس بتعليق الطلاق بشرط بل هو إضافة الطلاق إلى وقت موصوف بصفة فيتحقق الطلاق عند تحقق الصفة بدليله على التقدير الذي ذكرنا و الله عز و جل الموفق .
و لو قال لامرأته : أنت طالق قبل موتي بشهر أو قبل موتك بشهر فمات لتمام الشهر أو ماتت لا يقع الطلاق عندهما و عند أبي حنيفة يقع فهما فرقا بين الطلاق و العتاق فقالا العتاق يقع و الطلاق لا يقع لأن عندهما هذا تصرف تعليق الطلاق و العتاق بالشرط و المعلق بالشرط ينزل بعد وجود الشرط و الزوج بعد الموت ليس من أهل إيقاع الطلاق و لا المرأة بعد موتها محل لوقوع الطلاق عليها بخلاف العتق لأنه بعد الموت كما في التدبير و الله عز و جل أعلم .
و لو قال لعبده : أنت حر قبل موت فلان بشهر أو قبل قدوم فلان و فلان بشهر فإن مات أحدهما أو قدم قبل مضي شهر لا يعتق أبدا لأنه أضاف العتق إلى شهر موصوف بالتقدم على موتيهما أو قدومهما و لم يوجد و لا يتصور وجوده بعد ذلك لأنه لو تم الشهر بعد موت أحدهما أو قدوم أحدهما كان موصوفا بالتقدم على موت أحدهما أو قدوم أحدهما و هو ما أضاف العتق إلى هذا الشهر بل إلى شهر موصوف بالتقدم على موتيهما أو قدومهما جميعا و هذا غير ذاك .
و إن مضى شهر ثم مات أحدهما عتق العبد و إن لم يمت الآخر يعد بخلاف ما إذا قال أنت حر قبل قدوم فلان و فلان بشهر ثم قدم أحدهما لتمام الشهر أنه لا يعتق ما لم يقدم الآخر .
و وجه الفرق : على ما بينا فيما تقدم و هو أنه إذا مات أحدهما تحقق كون الشهر سابقا على موتهما و إذا قدم أحدهما لم يتحقق كون الأول سابقا على قدومهما و إنما يتحقق عند وجود قدومهما جميعا فكان القياس أن لا يعتق ما لم يموتا جميعا في لحظة واحدة بعد مضي شهر فكذا في القدوم و هو قول علي الرازي لأن العتق أضيف إلى شهر موصوف بالتقدم على موتهما أو قدومهما متصل بهما لأنه أضاف العتق إلى شهر متقدم على موتهما أو قدومهما و من ضرورة ذلك وجود موتهما أو قدومهما جميعا و عند ثبوت التراخي فيما بين الموتين أو القدومين يكون العتق واقعا قبل موت أحدهما أو قدوم أحدهما بشهر و قبل موت الآخر أو قدوم الآخر بشهر و أنه خلاف ما أضاف فلا يقع بخلاف ما إذا قال : أنت حر قبل يوم الفطر و الأضحى بشهر حيث يعتق كما أهل هلال رمضان لأن وجود وقت متصف بالتقدم عليهما بشهر مستحيل و العاقل لا يقصد بكلامه المستحيل فعلم أنه أراد به إضافة العتق إلى وقت موصوف بالتقدم على أحد اليومين بشهر و على الآخر بمدة غير مقدرة و فيما نحن فيه لا استحالة فيراعى عين ما أضاف إليه وجوب الاستحالة عن هذا أن الأصل في أحكام الشرع أن المستحيل عادة يلحق بالمستحيل حقيقة و قدوم شخص في جزء لا يتجزأ من الزمان بحيث لا يتقدم أحدهما على صاحبه مستحيل عادة و كذا موت شخصين على هذا الوجه و الجواب في المستحيل حقيقة و هو مسألة الفطر و الأضحى هكذا فكذا في المستحيل عادة .
و كذا لو قال : أنت حر قبل قدوم فلان و موت فلان بشهر فإن مات أحدهما أو قدم أحدهما قبل مضي الشهر لا يعتق أبدا لما قلنا و إن مات أحدهما لتمام الشهر لا يعتق حتى يقدم الآخر و إن قدم أحدهما بعد مضي الشهر عتق و لا ينتظر موت الآخر إلا أنه لا يستدل لما ذكرنا أن الموت كائن لا محالة و القدوم موهوم الوجود .
و لو قال : أنت حر الساعة إن كان في علم الله عز و جل أن فلانا يقدم إلى شهر فهذا و قوله قبل قدوم فلان بشهر سواء لأنه لا يراد بهذا علم الله تعالى الأزلي القائم بذاته عز و جل و إنما يراد به ظهور هذا القدوم المعلوم لنا و قد يظهر لنا و قد لا يظهر فكان شرطا فيقتصر العتق على حالة وجود الشرط كما في سائر التعليقات بشروطها و الله عز و جل أعلم .
و لو قال : أنت حر بعد موتي بشهر فكاتبه في نصف الشهر ثم مات لتمام الشهر فإن كان استوفى بدل الكتابة ثم مات لتمام الشهر كان العتق حاصلا بجهة الكتابة و إن كان لم يستوف بعد بدل الكتابة عتق بالإعتاق السابق و سقط اعتبار الكتابة عند أبي حنيفة و هذا يدل على أن العتق يثبت بطريق الاستناد عنده و قال أبو القاسم الصفار : إنه تبطل الكتابة من الأصل سواء كان استوفى بدل الكتابة أو لم يستوف و هو قياس قول من يقول بثبوت العتق من طريق الظهور المحض لأنه تبين أن العتق يثبت من أول الشهر فيتبين أن الكتابة لم تصح و قد ذكرنا تصحيح ما ذكر في الكتاب و هو العتق بطريق الاستناد فيما تقدم فلا نعيده و عندهما إن استوفى بدل الكتابة فالأمر ماض لأن العتق عندهما يثبت مقتصرا على حال الموت و هو حر في هذه الحالة لوصوله إلى الحرية بسبب الكتابة عند أداء البدل و إن كان لم يستوف بعد بدل الكتابة فإن كان العبد يخرج من الثلث عتق من جميع المال و إن لم يكن له مال غيره عتق ثلثه بالتدبير لأنه مدبر مقيد لأن عتقه علق بموت موصوف بصفة قد يوجد على / تلك الصفة و قد لا يوجد و يسعى في الأقل من ثلثي قيمته و من جميع بدل الكتابة عند أبي يوسف و عند محمد يسعى في الأقل من ثلثي بدل الكتابة و من ثلثي قيمته .
و أصل المسألة : أن من دبر عبده ثم كاتبه ثم مات المولى و لا مال له غيره يعتق ثلثه مجانا بالتدبير ثم يسعى في الأقل من ثلثي قيمته و من جميع بدل الكتابة عند أبي حنيفة و أبي يوسف و عند محمد في الأقل من ثلثي قيمته و من ثلثي بدل الكتابة فهذا على ذاك إلا أن عند أبي حنيفة يخير بين أن يسعى في هذا و بين أن يسعى في ذاك و عندهما يسعى في الأقل منها بدون التخيير ثم عند أبي حنيفة في مسألة الكتابة يعتبر صحة المالك و مرضه في أول الشهر هكذا ذكر في النوادر لأنه يصير معتقا من ذلك الوقت و قيل هذا هو الحيلة لمن أراد أن يدبر عبده و يعتق من جميع المال .
و إن كان لا يخرج من الثلث بأن يقول أنت حر قبل موتي بشهر أو شهربن أو ثلاثة أشهر أو ما شاء من المدة ليعتق من ذلك الوقت و هو فيه صحيح فيعتق من جميع المال و عندهما كيف ما كان يعتبر عتقه من الثلث لأنه يصير عندهما معتقا بعد الموت و الله عز و جل المستعان .
و أما الإضافة إلى وقتين فالأصل فيه أن المضاف إلى وقتين ينزل عند أولهما و المعلق بشرطين ينزل عند آخرهما و المضاف إلى أحد الوقتين غير عين فينزل عند أحدهما و المعلق بأحد شرطين غير عين ينزل أولهما و لو جمع بين فعل و وقت يعتبر فيه الفعل و ينزل عند وجوده في ظاهر الرواية و روي عن أبي يوسف أنه ينزل عند أولهما أيهما كان .
و بيان هذه الجملة : إذا قال لعبده : أنت حر اليوم و غدا يعتق في اليوم لأنه جعل الوقتين جميعا ظرفا للعتق فلو توقف وقوعه على أحدهما لكان الظرف واحدا لوقتين لا كلاهما و أنه إيقاع تصرف العاقل لا على الوجه الذي أوقعه .
و لو قال : أنت حر اليوم غدا أعتق في اليوم لأنه أضاف الإعتاق إلى اليوم ثم وصف اليوم بأنه غد و أنه محال و يبطل وصفه و بقيت الإضافة إلى اليوم .
و لو قال : أنت حر غدا اليوم يعتق في الغد لأنه أضاف العتق إلى الغد و وصف الغد باليوم و هو محال فلم يصح وصفه و بقيت إضافته للمعتق إلى الغد فيعتق في الغد و لو قال أنت حر إن قدم فلان و فلان فما لم يقدما جميعا لا يعتق لأنه علق عتقه بشرطين فلا ينزل إلا عند آخرهما إذ لو نزل عند أولهما لبطل التعليق بهما و لكان ذلك تعليقا بأحدهما و هو علق بهما جميعا لا بأحدهما .
و لو قال : أنت حر اليوم أو غدا يعتق في الغد لأنه جعل أحد الوقتين ظرفا فلو عتق في اليوم لكان الوقتان جميعا ظرفا و هذا خلاف تصرفه .
و لو قال : أنت حر إن قدم فلان أو غدا فإن قدم فلان قبل يجيء الغد عتق و إن جاء الغد قبل قدوم فلان لا يعتق ما لم يقدم في جواب ظاهر الرواية .
و روي عن أبي يوسف : أن أيهما سبق مجيؤه يعتق عند مجيئه و الأصل فيه أنه ذكر شرطا و وقتا في تصرف واحد و لا يمكن الجمع بينهما لما بين التعليق بشرط و بين الإضافة إلى وقت من التنافي فلا بد من اعتبار أحدهما و ترجيحه على الآخر فأبو يوسف رجح جانب الشرط لأن الشرط لا يصلح ظرفا و الظرف قد يصلح شرطا فكان الرجحان لجانب الشرط فاعتبره تعليقا بأحد الشرطين فينزل عند وجود أولهما أنهما كان كما إذا نص على ذلك و نحن رجحنا السابق منهما في اعتبار التعليق و الإضافة فإن كان الفعل هو السابق يعتبر التصرف تعليقا و اعتباره تعليقا يقتضي نزول العتق عند أول الشرطين كما إذا علقه بأحد شرطين نصا و إن كان الوقت هو السابق يعتبر إضافته و اعتبارها يقتضي نزول العتق عند آخر الوقتين كما إذا أضاف إلى آخر الوقتين نصا و الله عز و جل أعلم .
و أما الذي يرجع إلى نفس الركن فهو ما ذكرنا في الطلاق و هو أن يكون الركن عاريا عن الاستثناء رأسا كيفما كان الاستثناء وضعيا كان أو عرفيا عند عامة العلماء و الكلام في الاستثناء في العتاق و بيان أنواعه و ماهية كل نوع و شرائط صحته على نحو الكلام في باب الطلاق و قد ذكرنا ذلك كله في كتاب الطلاق و لا يختلفان إلا في شيء واحد و هو أنه يتصور استثناء بعض العدد في الطلاق و لا يتصور في العتاق لأن الطلاق ذو عدد فيتصور فيه استثناء بعض العدد و العتق لا عدد له فلا يتصور فيه استثناء بعض العدد و إنما يتصور استثناء بعض الجملة الملفوظة نحو أن يقول لعبيده أنتم أحرار إلا سالما لأن نص الاستثناء مع نص المستثنى منه تكلم بالباقي .
و لو استثنى / عتق بعض العبد يصح عند أبي حنيفة و لا يصح عندهما بناء على أن العتق يتجزأ عنده فيكون استثناء البعض من الكل فيصح و عندهما لا يتجزأ فيكون استثناء الكل من الكل فلا يصح .
و ذكر ابن سماعة في نوادره عن محمد فيمن قال : غلاماي حران سالم و بريع إلا بريعا أن استثناءه جائز لأنه ذكر جملة ثم فصلها بقوله سالم و بريع فانصرف الاستثناء إلى الجملة الملفوظة بها فكان استثناء البعض من الجملة الملفوظة فصح و ليس كذلك ما إذا قال : سالم حر و بريع إلا سالما لأنه لما ذكر كل واحد منهما بانفراده كان هذا استثناء عن كل واحد منهما فكان استثناء الكل من الكل فلا يصح و لو قال أنت حر و حر إن شاء الله تعالى بطل الاستثناء في قول أبي حنيفة و قال أبو يوسف و محمد : الاستثناء جائز .
وجه قولهما : أن هذا كلام واحد معطوف بعضه على بعض بحرف العطف فلا يقع به الفصل بين المستثنى و المستثنى منه كما لو قال : أنت حر لله إن شاء الله تعالى .
و لأبي حنيفة : أن قوله حر و حر لغو لثبوت الحرية باللفظ الأول فكان فاصلا بمنزلة السكوت بخلاف قوله : أنت حر لله إن شاء الله تعالى لأن قوله لله تعالى : ليس بلغو فلا يكون فاصلا .
و روى ابن سماعة في نوادره عن محمد في رجل له خمسة من الرقيق فقال عشرة من مماليكي إلا واحدا أحرار أنه يعتق الخمسة جميعا لأنه لما قال : عشرة من مماليكي أحرار إلا واحدا فقد استثنى الواحد من العشرة و الاستثناء تكلم بالباقي فصار كأنه قال : تسعة من مماليكي أحرار و له خمسة و لو قال ذلك عتقوا جميعا كذا هذا .
و لو قال : مماليكي العشرة أحرارا إلا واحدا عتق منهم أربعة لأن هذا الرجل ذكر مماليكه و غلط في عددهم بقوله العشرة فيلغوا هذا القول و يبقى قوله مماليكي أحرار إلا واحدا و لو قال ذلك و له خمسة مماليك يعتق أربعة منهم كذا هذا و الله عز و جل أعلم