صفة الإعتاق .
فصل : و أما صفة الإعتاق فهي أن الإعتاق هل يتجزأ أم لا و قد اختلف فيه قال أبو حنيفة : يتجزأ سواء كان المعتق موسرا أو معسرا و قال أبو يوسف و محمد : لا يتجزأ كيفما كان المعتق و قال الشافعي : إن كان معسرا يتجزأ و إن كان موسرا لا يتجزأ و المسألة مختلفة بين الصحابة Bهم قال بعضهم فيمن أعتق نصف عبد بينه و بين غيره إنه يعتق نصفه و يبقى الباقي رقيقا يجب تخريجه إلى العتاق و هو مذهب عبد الله بن مسعود Bه و قال بعضهم : يعتق كله و ليس للشريك إلا الضمان .
و قال علي و ابن عباس Bهما : عتق ما عتق و رق ما رق هما احتجا بالنص و المعقول و الأحكام .
أما النص فما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أعتق شقصا له من عبد عتق كله ليس لله فيه شريك ] و هذا نص على عدم التجزؤ و في رواية [ من أعتق شركا له في عبد فقد عتق كله ليس لله فيه شريك ] و أما المعقول فهو أن العتق في العرف اسم لقوة حكمية دافعة يد الاستيلاء و الرق اسم لضعف حكمي يصير به الآدمي محلا للتملك فيعتبر الحكمي بالحقيقي و ثبوت القوة الحقيقية و الضعف الحقيقي في النصف شائعا مستحيل فكذا الحكمي و لأن للعتق آثارا من المالكية و الولاية و الشهادة و الإرث و نحوها و ثبوت هذه الآثار لا يحتمل التجزي و لهذا لم يتجزأ في حال الثبوت حتى لا يضرب الإمام الرق في أنصاف السبايا و يمن عليهم بالإنصاف كذا في حالة البقاء .
و أما الأحكام : فإن إعتاق النصف قد تعدى إلى النصف الباقي في الأحكام حتى امتنع جواز التصرفات الناقلة للملك فيه من البيع و الهبة و الصدقة و الوصية عند أصحابنا و كذا يجب تخريجه إلى عتق الكل بالضمان أو بالسعاية حتى يجبره القاضي على ذلك و هذا من آثار عدم التجزؤ و كذا الاستيلاد لا يتجزأ حتى لو استولد جارية بينه و بين شريكه و ادعاه تصير كلها أم ولد له بالضمان .
و معلوم أن الاستيلاد يوجب حق الحرية لا حقيقة الحرية فالحق إذا لم يتجزأ فالحقيقة أولى و كذا لو عتق نصف أم ولده أو أم ولد بينه و بين شريكه عتق كلها و إذا لم يكن الإعتاق متجزئا لم يكن المحل في حق العتق متجزئا و إضافة التصرف إلى بعض ما لا يتجزأ في حقه يكون إضافة إلى الكل كالطلاق و العفو عن القصاص و الله أعلم .
و لأبي حنيفة : النصوص و المعقول و الحكم : أما النص فما روي [ عن عبد الله بن عمر Bه رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أعتق نصيبا له من مملوك كلف عتق بقيته ] و إن لم يكن عنده ما يعتقه فيه جاز ما صنع و روي [ كلف عتق ما بقي ] .
و روي [ وجب عليه أن يعتق ما بقي ] و ذلك كله نص على التجزي لأن تكليف عتق الباقي لا يتصور بعد ثبوت العتق في كله و قوله صلى الله عليه و سلم : [ جاز ما صنع ] إشارة إلى عتق البعض إذ هو الذي صنعه لا غير .
و روي [ عن عبد الله بن عمر Bهما أيضا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أعتق شركا له في عبد و كان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل و أعطي شركاؤه حصصهم و عتق عليه العبد و إلا ما عتق ما عتق ] و الحديث يدل على تعلق عتق الباقي بالضمان إذا كان المعتق موسرا و على عتق البعض إن كان معسرا فيدل على التجزؤ في حالة اليسار و الإعسار .
و روي [ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : من كان له شقص في مملوك فأعتقه فعليه خلاصه من ماله إن كان له مال و إن لم يكن له مال استسعي العبد في رقبته غير مشقوق عليه ] و في رواية من أعتق شقصا له من مملوك فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال و إن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه .
و أما المعقول : فهو أن الإعتاق إن كان تصرفا في الملك و المالية بالإزالة فالملك متجزىء و كذا المالية بلا شك حتى تجري فيه سهام الورثة و يكون مشتركا بين جماعة كثيرة من الغانمين و غيرهم و إن كان تصرفا في الرق فالرق متجزىء أيضا لأن محله متجزىء و هو العبد و إذا كان محله متجزئا كان هو متجزئا ضرورة و أما حكم الاثنين إذا أعتقا عبدا مشتركا بينهما كان الولاء بينهما نصفين الولاء من أحكام العتق فدل تجزؤه على تجزي العتق .
و أما الحديث : فقد قيل : إنه غير مرفوع بل هو موقوف على عمر Bه و قد روي عنه خلافه فإنه روي أنه قال في عبد بين صبي و بالغ أعتق البالغ نصيبه قال : ( ينتظر بلوغ الصبي فإذا بلغ إن شاء أعتق و إن شاء استسعى ) و لئن ثبت رفعه فتأويله من وجهين : .
أحدهما : أن معنى قوله عتق كله أي استحق عتق كله لأنه يجب تخريج الباقي إلى العتق لا محالة فيعتق الباقي لا محالة بالاستسعاء أو بالضمان و ما كان مستحق الوجود يسمى باسم الكون و الوجود قال الله تعالى : { إنك ميت و إنهم ميتون } .
و الثاني : أنه يحتمل أن المراد منه عتق كله للحال و يحتمل أن المراد منه عتق كله عند الاستسعاء و الضمان فتحمله على هذا عملا بالأحاديث كلها .
و أما قولهما : أن العتق قوة حكمية فيعتبر بالقوة الحقيقية و ثبوتها في البعض شائعا ممتنع فكذا الحكمية فنقول لم قلتم إن اعتبار الحكم بالحقيقة لازم أليس إن الملك عبارة عن القدرة الحكمية و القوة و القدرة سواء ؟ ثم الملك يثبت في النصف شائعا و هذا لأن الأمر الشرعي يعرف بدليل الشرع و هو النص و الاستدلال لا بالحقائق و ما ذكر من الآثار فليست من لوازم العتق .
ألا ترى أنه يتصور ثبوت العتق بدونها كما في الصبي و المجنون بل هي من الثمرات و فوات الثمرة لا يخل بالذات ثم إنها من ثمرات حرية كل الشخص لا من ثمرات حرية البعض فإن الولايات و الشهادات شرعت قضاء حق العاجزين شكرا لنعمة القدرة و ذلك عند كمال النعمة و هو أن ينقطع عنه حق المولى ليصل إلى إقامة حقوق الغير .
و قولهما : لا يتجزأ ثبوته كذا زواله من مشايخنا من منع و قال إن الإمام إذا ظهر على جماعة من الكفرة و ضرب الرق على أنصافهم و من على الأنصاف جاز و يكون حكمهم حكم معتق البعض في حالة البقاء ثم إن سلمنا فالرق متجزىء في نفسه حالة الثبوت لكنه تكامل لتكامل سببه و هو الاستيلاء إذا لا يتصور وروده على بعض المحل دون بعض و في حالة البقاء وجود سبب زواله كاملا و قاصرا فيثبت كاملا و قاصرا على حسب السبب .
و أما التخريج إلى الإعتاق و امتناع جواز التصرفات فليس لعدم التجزي بل لمعنى آخر نذكره إن شاء الله تعالى .
و أما الاستيلاد : فممنوع أنه لا يتجزأ بل هو متجزىء فإن الأمة للمشتركة بين اثنين إذا جاءت بولد فادعياه جميعا صارت أم ولد لهما إلا أنه إذا ادعى أحدهما صارت كلها أم ولد له لوجود سبب التكامل و هو نسبة كل أم الولد إليه بواسطة الولد على ما نذكره في كتاب الاستيلاد و ما من متجزي إلا وله حال الكمال إذا وجد السبب بكمال يتكامل و إذا وجد قاصرا لا يتكامل بل يثبت بقدره و في مسألتنا وجد قاصرا فلم يتكامل .
و كذا إعتاق أم الولد متجزىء و الثابت له عتق النصف و إنما يثبت له العتق في النصف الباقي لا بإعتاقه بل لعدم الفائدة في بقاء نصيب الشريك كما في الطلاق / و العفو على القصاص على ما عرف في مسائل الخلاف و الله أعلم .
و إذا عرف هذا الأصل يبنى عليه مسائل : عبد بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه يعتق نصيبه لا غير عند أبي حنيفة لأن الإعتاق عنده متجزىء و إعتاق البعض لا يوجب إعتاق الكل بل يعتق بقدر ما أعتق و يبقى الباقي رقيقا و للشريك الساكت خمس خيارات إن شاء أعتق نصيبه و إن شاء دبره و إن شاء كاتبه و إن شاء استسعاه معسرا كان المعتق أو موسرا و يسعى و هو رقيق و إن شاء ضمن المعتق قيمة نصيبه إن كان موسرا و ليس له خيار الترك على حاله لأنه لا سبيل إلى الانتفاع به مع ثبوت الحرية في جزء منه و ترك المال من غير انتفاع أحد به سيب له و أنه حرام فلا بد من تخريجه إلى العتق و له الخيار في ذلك من الوجوه التي وصفنا أما خيار الإعتاق و التدبير و الكتابة فلأن نصيبه باق على ملكه و أنه يحتمل لهذه التصرفات كما في حال الابتداء .
و أما خيار السعاية فلأن نصيبه صار محتبسا عند العبد لحقه لثبوت العتق له في نصفه فيصير مضمونا عليه كما إذا انصبغ ثوب إنسان بصبغ غيره من غير صنع أحد فاختار صاحب الثوب الثوب أنه يجب عليه ضمان الصبغ لصيرورة الصبغ محتسبا عنده لقيامه بثوب مملوك له لا يمكنه التمييز كذا ههنا و لأن في السعاية سلامة نفسه و رقبته له و إن لم تصر رقبته مملوكة له .
و يجوز إيجاب الضمان بمقابلة سلامة الرقبة من غير تملك كالمكاتب و شراء العبد نفسه من مولاه و لأن منفعة الإعتاق حصلت فكان عليه ضمانه لقوله صلى الله عليه و سلم [ الخراج بالضمان ] ثم خيار السعاية مذهبنا و قال الشافعي : لا أعرف السعاية في الشريعة .
و الوجه لقوله : أن ضمان السعاية : إما أن يكون ضمان إتلاف و إما أن يكون ضمان تملك و لا إتلاف من العبد بوجه إذ لا صنع له في الإعتاق رأسا و لا ملك يحصل للعبد في نفسه بالضمان و لأن المولى لا يجب له على عبده دين لما فيه من الاستحالة و هي كون الشيء الواحد واجبا عليه و له و لأن العبد معسر و الضمان في هذا الباب لا يجب على المعسر ألا ترى أنه لا يجب على المعتق إذا كان معسرا مع وجود الإعتاق منه فالعبد أولى .
و لنا ما روينا من حديث أبي هريرة Bه و روى محمد بن الحسن [ عن أبي يوسف عن الحجاج بن أرطأة عن نافع عن ابن عمر Bهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أعتق عبدا بينه و بين شريكه يقوم نصيب شريكه قيمة عدل فإن كان موسرا ضمن نصيب شريكه و إن كان معسرا سعى العبد غير مشقوق عليه ] فدل أن القول بالسعاية لازم في الجملة عرفها الشافعي أو لم يعرفها و كذا ما ذكرنا من المعاني .
و به يتبين أن ضمان السعاية ليس ضمان إتلاف و لا ضمان تملك بل هو ضمان احتباس و ضمان سلامة النفس و الرقبة و حصول المنفعة لأن كل ذلك من أسباب الضمان على ما بينا .
و قوله : لا يجب للمولى على عبده دين قلنا و قد يجب كالمكاتب و المستسعى في حكم المكاتب عنده إلى أن يؤدي السعاية إلى الشريك الساكت إذا اختار السعاية أو إلى المعتق إذا ضمنه الشريك الساكت لأنه يسعى لتخليص رقبته عن الرق كالمكاتب و تثبت فيه جميع أحكام المكاتب من الإرث و الشهادة و النكاح فلا يرث و لا يورث و لا يشهد و لا يتزوج إلا اثنتين لا يفترقان إلا في وجه واحد و هو أن المكاتب إذا عجز يرد في الرق و المستسعى لا يرد في الرق إذا عجز لأن الموجب للسعاية موجود قبل العجز و بعده و هو ثبوت الحرية في جزء منه و لأن رده في الرق ههنا لا يفيد لأنا لو رددناه إلى الرق لاحتجنا إلى أن نجبره على السعاية عليه ثانيا فلا يفيد الرق .
فإن قيل : بدل الكتابة لا يلزم العبد إلا برضاه و السعاية تلزمه من غير رضاه فأنى يستويان ؟ .
فالجواب : أنه إنما كان كذلك لأن بدل الكتابة يجب بحقيقة العقد إذ المكاتبة معاوضة من وجه فافتقرت إلى التراضي و السعاية لا تجب بعقد الكتابة حقيقة بل بكتابة حكمية ثابتة بمقتضى اختيار السعاية فلا يقف وجوبها على الرضا لأن الرضا إنما شرط في الكتابة للمبتدأة لأنه يجوز أن يرضى بها العبد و يجوز أن لا يرضى بها و يختار البقاء على الرق فوقفت على الرضا و ههنا لا سبيل إلى استبقائه على الرق شرعا إذ لا يجوز ذلك فلم يشرط رضاه للزوم السعاية .
ثم اختلف أصحابنا فقال أبو حنيفة : هذا الخيار يثبت للشريك / الذي لم يعتق سواء كان المعتق معسرا أو موسرا .
و قال أبو يوسف و محمد : لا يثبت إلا إذا كان معسرا لأن الإعتاق لما لم يكن متجزئا عندهما كان المعتق متلفا نصيب الشريك فوجب عليه الضمان و وجوب الضمان يمنع وجوب السعاية فكان ينبغي أن لا يجب حال الإعسار أيضا و أن لا يكون الواجب إلا الضمان في الحالين جميعا و هو قول بشر بن غياث المريسي و هو القياس لأن ضمان الإتلاف لا يختلف بالإعسار و اليسار إلا أنا عرفنا وجوبها على خلاف القياس بالنص الذي روينا و النص ورد فيها في حال الإعسار فحال اليسار يقف على أصل القياس و لما كان متجزئا عنده لم يكن الإعتاق إتلافا لنصيب الشريك حتى يوجب ضمان الإتلاف لكن بقي نصيبه محتسبا عند العبد بحقه بحيث لا يمكن استخلاصه منه و هذا يوجب الضمان على ما بينا و هذا المعنى لا يوجب الفصل بين حال اليسار و بين حال الإعسار فيثبت خيار السعاية في الحالين و إذا عتق بالإعتاق أو بالسعاية أو ببدل الكتابة فالولاء بينهما لأن الولاء للمعتق و الإعتاق حصل منهما .
و أما خيار التضمين حال يسار المعتق فأمر ثبت شرعا غير معقول المعنى بالأحاديث التي روينا لأن الإعتاق إذا كان متجزئا عنده فإن المعتق متصرفا في ملك نفسه على طريق الاقتصار و من تصرف في ملك نفسه لا يؤاخذ بما حدث في ملك غيره عند تصرفه لا بتصرفه كمن أحرق دار نفسه فاحترقت دار جاره أو أسقى أرض نفسه فنزت أرض جاره أو حفر بئرا في دار نفسه فوقع فيها إنسان و نحو ذلك إلا أن وجوب الضمان حالة اليسار ثبت بالنصوص تعبدا غير معقول فتبقى حالة الإعسار على أصل القياس أو ثبت معقولا بمعنى النظر للشريك كي لا يتلف ماله بمقابلة مال في ذمة المفلس من غير صنع من المعتق في نصيب شريكه فصلح أن يكون موجبا للضمان و من غير أن يكون في مقابلته عوض فيكون ضمان صلة و تبرع كنفقة المحارم و ضمان الصلة و التبرع إنما يجب حالة اليسار كما في نفقة الأقارب أو وجب نظرا للعبد لأنه تبرع عليه بإعتاق نصفه فلم يتم غرضه في إيصال ثمرات العتق إلى العبد فوجب عليه الضمان تتميما لغرضه فيختص وجوبه بحالة اليسار و من مشايخنا من سلك طريقة أخرى لأبي حنيفة في ضمان العتق فقال هذا ضمان إفساده عنده لأن المعتق بإعتاقه نصيبه أفسد نصيب شريكه حيث أخرجه من أن يكون منتفعا به في حقه حتى لا يملك فيه سائر التصرفات المزيلة للملك عقيب فعله و إنما يملك الإعتاق و السعاية و الحكم متى ثبت عقيب وصف مؤثر يضاف إليه إلا أنه لا يجب على المعسر نصا بخلاف القياس .
و منهم من قال : هو ضمان تملك لأنه بوجوب الضمان على المعتق يصير نصيب شريكه ملكا له حتى كان له أن يعتق نصيبه مجانا بغير عوض و إن شاء استسعى العبد و هذا تفسير ضمان التملك أن يكون بمقابلة الضمان ملك العوض و هذا كذلك و لهذا كان ضمان الغصب ضمان تملك و ضمان التملك لا يستدعي وجود الإتلاف كضمان الغصب .
فإن قيل : كيف يكون ضمان التملك و المضمون و هو نصيب الشريك لا يحتمل النقل من ملك إلى ملك ؟ .
قيل : يحتمل النقل إلى ملك المعتق بالضمان إن كان لا يحتمل النقل إلى ملك غيره و يجوز بيعه منه أيضا في القياس هكذا ذكر في الأصل و قال : إن باع الذي لم يعتق نصيبه من المعتق أو وهبه له على عوض أخذه منه و هذا واختياره الضمان سواء في القياس غير أن هذا أفحشهما و البيع هو نقل الملك بعوض إلا أن في الاستحسان لا يجوز بيعه من المعتق كما لا يجوز من غيره لكن هذا لا ينفي جواز النقل لا على وجه البيع فإن الشيء قد يحتمل النقل إلى إنسان بالضمان و إن كان لا يحتمله بجهة البيع فإن الخمر تنتقل إلى المسلم بالضمان بأن أتلف على ذمي خمرة .
و إن كانت لا تنتقل إليه بالبيع على أن قبول المحل لانتقال الملك فيه بشرط حال انعقاد السبب لا حال أداء الضمان لأنه لا يملكه من ذلك الوقت فيراعى قبول المحل في ذلك الوقت .
ألا ترى أنه من غصب من آخر عبدا فهلك في يده ثم أدى الضمان أنه يملكه و معلوم أن الهالك لا يقبل الملك لكن لما كان قابلا وقت انعقاد السبب و الملك يثبت من ذلك الوقت يعتبر قبول المحل فيه و كذا ههنا ثم إذا ضمن الذي أعتق فالمعتق بالخيار إن شاء أعتق ما بقي و إن شاء دبر و إن شاء كاتب و إن شاء استسعى لما ذكرنا في الشريك الذي لم يعتق لأن نصيبه انتقل إليه فقام مقامه و بأي وجه عتق من الإعتاق أو السعاية فولاء العبد كله له لأنه عتق كله على ملكه هذا إذا كان المعتق موسرا فأما إن كان معسرا فللشريك أربع خيارات إن شاء أعتق و إن شاء دبر و إن شاء كاتب و إن شاء استسعى لما ذكرنا .
و أما على قول أبي يوسف و محمد فيعتق كله لأن الإعتاق عندهما لا يتجزأ فكان إعتاق بعضه إعتاقا لكله و لا خيار للشريك عندهما و إنما له الضمان لا غير إن كان المعتق موسرا و إن كان معسرا فله السعاية لا غير لما ذكرنا أن المعتق صار متلفا نصيب الشريك فكان ينبغي أن يكون الواجب هو الضمان في حالة اليسار و الإعسار إلا أن وجوب السعاية حال الإعسار ثبت بخلاف القياس بالنصر .
و أما على قول الشافعي : إن كان المعتق موسرا عتق كله و للشريك أن يضمنه لا غير كما قالا و إن كان معسرا يعتق ما أعتق و يبقى الباقي محلا لجميع التصرفات المزيلة للملك من البيع و الهبة و غير ذلك لأن الإعتاق عنده لا يتجزأ في حالة اليسار و في حالة الإعسار يتجزأ لما ذكرنا من الدلائل لأبي حنيفة فيقتصر حكم تصرف المعتق على نصيبه فيبقى نصيبه على ما كان من مشايخنا من قال : لا خلاف بين أصحابنا في أن العتق لا يتجزأ و إنما اختلفوا في الإعتاق و هذا غير سديد لأن الإعتاق لما كان متجزئا عند أبي حنيفة كان العتق متجزئا ضرورة إذ هو حكم الإعتاق و الحكم يثبت على وفق العلة و لما لم يكن متجزئا أيضا لما قلنا و لأن القول بهذا قول بتخصيص العلة لأنه يوجد الإعتاق في النصف و يتأخر العتق فيه إلى وقت الضمان أو السعاية و أنه قول بوجود العلة و لا حكم و هو تفسير تخصيص العلة و أنه باطل .
و لنا : أن العتق و إن ثبت في نصيب المعتق على طريق الاقتصار عليه لكن في الإعتاق حق الله عز و جل و حق العبد بالإجماع و إنما اختلفوا في الرجحان فالقول بالتمليك إبطال الحقين و هذا لا يجوز و كذا فيه إضرار بالمعتق بإهدار تصرفه من حيث الثمرة للحال و إضرار بالعبد من حيث إلحاق الذل به في استعمال النصف الحر و الضرر منفي شرعا .
فإن قيل : إن كان في التمليك إضرار بالمعتق في ملكه فوق التعارض فالجواب أنا لا نمنعه من التمليك أصلا و رأسا فإن له أن يضمن المعتق و يستسعى العبد و يكاتبه و في التضمين تمليكه من المعتق بالضمان و في الاستسعاء و المكاتبة إزالة الملك إلى عوض و هو السعاية و بدل الكتابة فكان فيما قلنا رعاية الجانبين أولى فإن اختار للتدبير فدبر نصيبه صار نصيبه مدبرا عند أبي حنيفة لأن نصيبه باق على ملكه فيحتمل التخريجإلى العتق و التدبير تخريج إلى العتق إلا أنه لا يجوز له أن يتركه على حاله ليعتق بعد الموت بل يجب عليه السعاية للحال فيؤدي فيعتق لأن تدبيره اختيار منه للسعاية و له أن يعتق لأن المدبر قابل للإعتاق و ليس له أن يضمن المعتق لأن التضمين يقتضي تملك المضمون و المدبر لا يحتمل النقل من ملك إلى ملك لأن تدبيره اختيار منه للسعاية و اختيار السعاية يسقط و لاية التضمين على ما نذكر إن شاء الله تعالى و إن اختار الكتابة فكاتب نصيبه يصير نصيبه مكاتبا عند أبي حنيفة لما ذكرنا و كانت مكاتبته اختيارا منه للسعاية حتى لا يملك تضمين المعتق بعد ذلك و لأن ملك المكاتب و هو مكاتب لا يحتمل النقل أيضا فتعذر التضمين و يملك إعتاقه لأن الكتابة لا تمنع من الإعتاق : ثم معتق البعض إذا كوتب فالأمر لا يخلو إما أن كاتبه على الدراهم و الدنانير و إما أن كاتبه على العروض و إما أن كاتبه على الحيوان فإن كاتبه على الدراهم و الدنانير فإن كانت المكاتبة على قدر قيمته جازت لأنه قد ثبت له اختيار السعاية فإذا كاتبه على ذلك فقد اختار السعاية و تراضيا عليها و إن كاتبه على أقل من قيمته يجوز أيضا لأنه رضي بإسقاط بعض حقه و له أن يرضى بإسقاط الكل فهذا أولى .
و إن كاتبه على أكثر من قيمته فإن كانت الزيادة مما يتغابن الناس في مثلها جازت أيضا لأنها ليست زيادة متحققة لدخولها تحت تقويم أحد المقومين و إن كانت مما لا يتغابن الناس في مثلها يطرح عنه الفضل لأن مكاتبته اختيار للسعاية و السعاية من جنس الدراهم و الدنانير فلا يجوز أخذ الزيادة على القدر المستحق لأنه يكون ربا .
و إن كانت المكاتبة على العروض جازت بالقليل و الكثير لأن الثابت له عليه و هو السعاية من جنس الدراهم و الدنانير بالعروض جائز / قلت العروض أو كثرت و إن كانت على الحيوان جازت لأن الحيوان يثبت دينا في الذمة عوضا عما ليس بمال و لهذا جاز ابتداء الكتابة على حيوان و يجب الوسط كذا هذا .
و لو صالح الذي لم يعتق العبد أو المعتق على مال فهذا لا يخلو عن الأقسام التي ذكرناها في المكاتبة فإن كان الصلح على الدراهم و الدنانير على نصف قيمته لا شك أنه جائز و كذا إذا كان على أكثر من نصف قيمته مما يتغابن الناس في مثله لما قلنا .
فأما إذا كان على أكثر من نصف قيمته مما لا يتغابن الناس في مثله فالفصل باطل في قولهم جميعا أما على أصل أبي يوسف و محمد فظاهر لأن نصف القيمة قد وجب على العبد أو على المعتق و القيمة من الدراهم و الدنانير فالزيادة على القدر المستحق تكون فضل مال لا يقابله عوض في عقد المعاوضة فيكون ربا كمن كان له على آخر ألف درهم فصالحه على ألف و خمسمائة إن الصلح يكون باطلا كذا هذا و هذا على أصلهما مطرد لأن عندهما أن من أتلف على آخر ما لا مثل له أو غضب منه ما لا مثل له فهلك في يده فالثابت في ذمته القيمة حتى لو صالح على أكثر من قيمته لا يجوز عندهما فكذا ضمان المعتق لأنه ضمان إتلاف عندهما .
و أما عند أبي حنيفة : فالصلح عن المتلف أو المغصوب على أضعاف قيمته جائز و ههنا نقول لا يجوز فيحتاج إلى الفرق بين المسألتين و الفرق له من وجوه : .
أحدها : أن الواجب بالإتلاف و الغضب فيما لا مثل له من جنسه في ذمة المتلف و الغاصب هو المتلف لا قيمته فإذا صالح على أكثر من قيمة المتلف و المغصوب كان ذلك عوضا عن المتلف فجاز و ضمان العتق ليس بضمان إتلاف و لا ضمان غصب عنده لثبوت المتلف و المغصوب في الذمة فكان الثابت في الذمة هو القيمة و هي دراهم و دنانير فلا يجوز الصلح على أكثر منها .
و الثاني : أن الغاصب إنما يملك المغصوب عند اختيار الضمان لا قبله بدليل أن له أن لا يضمنه ليهلك على ملكه فيثاب على ذلك و يخاصم الغاصب يوم القيامة فكان المغصوب قبل اختيار الضمان على ملك المغصوب منه فكان هذا صلحا عن العبد على هذا القدر من المالين فكأنه ملكه منه به و أنه محتمل للملك فصح و معتق البعض لا يحتمل التمليك مقصودا فكان الصلح عن قيمته فلا يجوز لما بينا .
و الثالث : أن الضمان في باب الغصب يجب وقت الغصب لأنه هو السبب الموجب للضمان فيثبت الملك إلى الغاصب في المغصوب في ذلك الوقت و إنه في ذلك الوقت قابل للتمليك فيصح الصلح على القليل و الكثير و الضمان في باب العتق يجب وقت الإعتاق و العبد في ذلك الوقت لا يحتمل التمليك مقصودا فالصلح لا يقع عند العبد و إنما يقع قميته فلا تجوز الزيادة من قيمته و إن كان الصلح على عرض جاز بالقليل و الكثير لأن ذلك بيع العرض بالدراهم و الدنانير و ذلك جائز كيفما كان .
و إن صالحه على شيء من الحيوان كالعبد و الفرس نحوهما فإن صالح العبد جاز و عليه الوسط و إن صالح المعتق لم يجز لأن في الفصل الأول جعل الحيوان بدلا عن العتق و أنه ليس بمال و الحيوان يثبت دينا في الذمة بدلا عما ليس بمال كالإعتاق على مال و الكتابة و النكاح و الصلح عن دم العمد و لأن الصلح مع العبد في معنى مكاتبته و إن كاتبه على عبد مطلق أو فرس يصح و يجب الوسط كذا هذا و أما في الفصل الثاني فإنما جعل الحيوان بدلا عن القيمة و إنها مال و الحيوان لا يثبت دينا في الذمة بدلا عن المال كالبيع و نحوه .
و لو كان شريك المعتق في العبد صبيا أو مجنونا له أب أو جد أو وصي فوليه أو وصيه بالخيار إن شاء ضمن المعتق و إن شاء استسعى العبد و إن شاء كاتبه و ليس له أن يعتق أو يدبر لأن التدبير إعتاق و الصبي و المجنون لا يملكان الإعتاق فلا يملكه من يلي عليهما و إنما ملك الأب و الوصي الاستسعاء و التضمين لأن الاستسعاء مكاتبة و الأب و الوصي يملكان مكاتبة عبد الصبي و المجنون و التضمين فيه نقل الملك إلى المعتق فيشبه البيع و هما يملكان بيع مال الصبي و المجنون و كذلك لو كان الشريك مكاتبا أو مأذونا عليه دين أنه يتخير بين الضمان و السعاية و المكاتبة إلا أنهما لا يملكان الإعتاق لانعدام ملك الرقبة أما ثبوت الخيار للمكاتب فلا شك فيه لأنه أخص بالتصرف فيما يده من المولى و أما المأذون الذي عليه دين فكذلك لأن المولى لا يملك ما في يده على أصل أبي حنيفة فيكون الخيار للعبد و على أصلهما إن كان يملك لكن العبد أخص بالتصرف فيما في يده من المولى فإن لم يكن عليه عين فالخيار للمولى كما في الحرية لأنه إذا لم يكن عليه دين فهو و ما في يده ملك المولى فكان الخيار للمولى فإن اختار الشريك السعاية ففي الصبي و المجنون و الولاء لهما لأنهما من أهل الولاء لكونهما حرين و في المكاتب و المأذون الولاء للمولى لكونهما رقيقين و الولاء لا يثبت إلا للحر و إن لم يكن للصغير و المجنون ولي و لا وصي فإن كان هناك حاكم نصب الحاكم من يختار لهما أصلح الأمور من التضمين و الاستسعاء و المكاتبة و إن لم يكن هناك حاكم وقف الأمر حتى يبلغ الصبي و يفيق المجنون فيستوفيان حقوقهما من الخيارات الخمس .
ثم إذا اختلف حكم اليسار و الإعسار في الضمان لا بد من معرفتهما فاليسار هو أن يملك المعتق قدر قيمة ما بقي من العبد قلت أو كثرت و الإعسار هو أن لا يملك هذا القدر لا ما يتعلق به حرمة الصدقة و حلها حتى لو ملك هذا القدر كان للشريك ولاية تضمينه و إلا فلا .
إلى هذا وقعت الإشارة فيما روينا من [ حديث أبي هريرة Bه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : من كان له شقص في مملوك فأعتقه فعليه خلاصه من ماله إن كان له مال و إن لم يكن له مال استسعي العبد في رقبته غير مشقوق عليه ] اعتبر مطلق المال لا النصاب و أشار النبي صلى الله عليه و سلم إلى أن الواجب تخليص العبد .
و بهذا القدر يحصل التخليص و بدونه لا يحصل ثم يسار المعتق و إعساره يعتبر وقت الإعتاق حتى لو كان معسرا وقت الإعتاق لا يضمن و إن أيسر بعد ذلك لأن ذلك وقت وجوب الضمان فيعتبر ذلك الوقت كضمان الإتلاف و الغصب .
و لو اختلفا فير اليسار و الإعسار فإن كان اختلافهما حال الإعتاق فالقول قول المعتق لأن الأصل هو الفقر و الغنا عارض فكان الظاهر شاهدا للمعتق و البينة بينة الآخر لأنها تثبت زيادة .
و إن كان الإعتاق متقدما و اختلفا فقال المعتق أعتقت عام الأول و أنا معسر ثم أيسرت فيعتبر ذاك الوقت و قال الآخر : بل أعتقه عام الأول و أنت موسر فالقول قول المعتق و على الشريك إقامة البينة لأن حالة اعتبار اليسار و الإعسار شاهد للمعتق فيحكم الحال كما إذا اختلف صاحب الرحى و الطحان في انقطاع الماء و جريانه أنه يحكم الحال كذا ههنا .
و قد قال أبو يوسف : في عبدين بين رجلين قال أحدهما : أحدكما حر و هو فقير ثم استغنى ثم اختار أن يوقع العتق على أحدهما ضمن نصف قيمته يوم العتق و كذلك لو كان مات قبل أن يختار و قد استغنى قبل موته ضمن ربع قيمة كل واحد منهما إنما أنظر إلى حاله يوم أوقع بمنزلة من كاتب نصيبه من العبد ثم أدى العبد فيعتق .
ثم إنما أنظر إلى حال مولاه يوم عتق المكاتب و لا أنظر إلى حاله يوم كاتب و هذا على أصله صحيح لأن إضافة العتق إلى المجهول تعليق لعتق عبده بشرط الاختيار كأنه علقه نصا فيعتبر حاله يوم الاختيار لأنه يوم العتق كما لو قال لعبد مشترك بينه و بين غيره : إن دخلت الدار فأنت حر فدخل أنه يضمن نصف قيمته يوم دخل الدار لا يوم اليمين لأن يوم الدخول هو يوم العتق .
و أما على أصل محمد فإضافة العتق إلى المجهول تنجيز و إنما الاختيار تعيين لمن وقع عليه العتق فيعتبر صفة العتق في يساره و إعساره يوم التكلم بالعتق و كذا يعتبر قيمة العبد في الضمان و السعاية يوم الإعتاق حتى لو علمت قيمته يوم أعتق ثم ازدادت أو انتفضت أو كاتب أمة فولدت لم يلتفت إلى ذلك و يضمنه قيمته يوم أعتقه لأنه يوم وجوب الضمان فيعتبر قيمته يومئذ كما في الغضب و الإتلاف و إن لم يعلما ذلك و اختلفا فجملة الكلام فيه أن العبد لا يخلو إما أن يكون قائما وقت الخصومة و إما أن يكون هالكا اتفقا على حال المعتق أو اختلفا فيها