بيان حكم الإعتاق و بيان وقته ـ القسم الأول .
فصل : و أما بيان حكم الإعتاق و بيان وقت ثبوت حكمه : فللإعتاق أحكام بعضها أصلي و بعضها من التوابع أما الحكم الأصلي للإعتاق فهو ثبوت العتق لأن الإعتاق إثبات العتق و العتق في اللغة عبارة عن القوة يقال عتق الطائر إذا قوي فطار عن وكره و في عرف الشرع : اسم لقوة حكمية للذات يدفع بها يد الاستيلاء و التملك عن نفسه و لهذا كان مقابله و هو الرق عبارة عن الضعف في اللغة يقال ثوب رقيق أي ضعيف و في متعارف الشرع يراد به الضعف الحكمي الذي يصير به الأدمي محلا للتملك و على عبارة التحرير الحكم الأصلي للتحرير هو ثبوت الحرية لأن التحرير هو إثبات الحرية و هي الخلوص يقال طين حر أي خالص و أرض حرة إذا لم يكن عليها خراج و في عرف الشرع يراد بها الخلوص عن الملك و الرق و هذا الحكم يعم جميع أنواع الإعتاق غير أنه إن كان تنجيزا ثبت هذا الحكم للحال و إن كان تعليقا بشرط أو إضافة إلى وقت يثبت بعد وجود الشرط و الوقت و يكون المحل قبل ذلك على حكم ملك المالك في جميع الأحكام إلا في التعليق بشرط الموت المطلق و هو التدبير عندنا و كذا الاستيلاد ثم هذا الحكم قد يثبت في جميع ما أضيف إليه و قد يثبت في بعض ما أضيف إليه و جملة الكلام فيه أن الاعتاق لا يخلو : إما أن كان في الصحة و إما أن كان في المرض فإن كان في الصحة عتق كله سواء كان له مال آخر أو لم يكن و سواء كان عليه دين أو لم يكن لأن حق الورثة أو الغريم لا يتعلق بالمال حالة الصحة فالإعتاق صادف خالص ملكه لا حق لأحد فيه فنفذ و إن كان في المرض فإن كان له مال آخر سوى العبد و العبد كله يخرج من ثلث المال يعتق كله لأن الثلث خالص حقه لا حق للورثة فيه و إنما تعلق حقهم في الثلثين و الأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة على أعمالكم ] و إن كان لا يخرج كله من ثلث المال و أجازت الورثة الزيادة فكذلك لأن المانع حق الورثة فإذا أجازوا فقد زال المانع فيعتق كله و إن لم يجيزوا الزيادة يعتق منه بقدر ثلث ماله و يسعى في الباقي للورثة و إن لم يكن له مال سوى العبد فإن أجازت الورثة عتق كله لما قلنا و إن لم يجيزوا يعتق ثلثه و يسعى في الثلثين للورثة لما قلنا .
و الدليل عليه أيضا ما روي في [ حديث أبي قلابة : أن رجلا أعتق عبدا له عند موته و لا مال له غيره فأجاز النبي صلى الله عليه و سلم ثلثه و استسعاه في ثلثي قيمته ] فدل الحديث على جواز الإعتاق في مرض الموت حيث أجاز النبي صلى الله عليه و سلم ذلك على أن الاغتاق في مرض الموت وصية حيث اعتبره من الثلث و على بطلان قول من يقول : لا سعاية في الشريعة حيث استسعى العبد .
هذا إذا لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فإن كان مستغرقا لقيمته و لا مال له سوى العبد أو له مال آخر لكن الدين مستغرق لماله فأعتق يسعى في جميع قيمته للغريم ردا للوصية لأن الدين مقدم على الوصية إلا أن العتق لا يحتمل النقض فتجب السعاية .
و روي [ عن أبي الأعرج أن رجلا أعتق عبدا له عند الموت و عليه دين فقال النبي صلى الله عليه و سلم يسعى في الدين ] و هكذ روي عن علي و ابن مسعود Bهما و إن كان الدين غير مستغرق لقيمة العبد بأن كان الدين ألف درهم و قيمة العبد ألفان يسعى في نصف قيمته للغريم ردا للوصية في قدر الدين ثم نصفه الثاني عتق بطريق الوصية فإن أجازت الورثة عتق جميع نصفه الثاني و إن لم تجز يعتق ثلث النصف الثاني مجانا بغير شيء و هو سدس الكل و يسعى في ثلثي النصف .
فالحاصل : أنه يعتق سدسه مجانا بغير شيء و يسعى في خمسة أسداسه ثلاثة أسهم للغريم و سهمان للورثة و لو كان له عبدان فأعتقهما و هو مريض فهو على التفاصيل التي ذكرنا أنه إن كان له مال سواهما و هما يخرجان من الثلث عتقا جميعا بغير شيء لما ذكرنا و إن لم يخرجا من الثلث و أجازت الورثة الزيادة فكذلك لما قلنا و إن لم يجيزوا الزيادة يعتق من كل واحد منهما بقدر ثلث ماله و يسعى في الباقي للورثة و إن لم يكن له مال سواهما فإن أجازت الورثة عتقا جميعا بغير شيء و إن لم يجيزوا يعتق من كل واحد منهما ثلثه / مجانا و يسعى في الثلثين للورثة فيجعل كل رقبة على ثلاثة أسهم لحاجتنا إلى الثلث فيصير جملة المال و هو العبدان على ستة أسهم فيخرج منها سهام العتق و سهام السعاية للعبدين سهمان من ستة و للورثة أربعة أسهم فاستقام الثلث و الثلثان فإن مات أحدهما قبل السعاية يجعل هو مستوفيا لوصيته متلفا لما عليه من السعاية و التلف يدخل على الورثة و على العبد الباقي فيجمع نصيب الورثة و ذلك أربعة أسهم و نصيب العبد الحي و ذلك سهم فيكون خمسة فيعتق من العبد الحي خمسه و يسعى في أربعة أخماسه فيحصل للورثة أربعة أسهم و للحي سهم و الميت قد استوفى سهما فحصل للورثة أربعة أسهم و للوصية سهمان فاستقام الثلث و الثلثان .
و لو كان العبيد ثلاثة و لم يكن له مال سواهم يعتق من كل واحد ثلثه و يسعى في ثلثي قيمته فيصير كل واحد على ثلاثة أسهم فتصير العبيد على تسعة أسهم : ستة أسهم للورثة و ثلاثة أسهم للعبيد فإن مات أحدهم قبل السعاية صار متلفا لما عليه من السعاية مستوفيا لوصيته فيجمع نصيب الورثة و ذلك ستة أسهم و نصيب العبدين سهمان فيكون ثملنية أسهم فيجعل كل عبد على أربعة أسهم فيعتق من كل واحد ربعه و يسعى في ثلاثة أرباعه فيحصل للورثة ستة أسهم و للعبدين سهمان و الميت استوفى سهما فاستقام الثلث و الثلثان .
فإن مات اثنان يجمع نصيب الورثة ستة و للحي سهم فيكون سبعة فيعتق من الحي سبعة و يسعى في ستة أسباع قيمته فيحصل للورثة ستة و للحي سهم و الميتان استوفيا سهمين فحصلت الوصية ثلاثة أسهم و السعاية ستة فاستقام الثلث و الثلثان هذا كله إذا لم يكن على الميت دين فإن كان عليه دين مستغرق يسعى كل واحد في قيمته للغرماء ردا للوصية لأن العتق في مرض الموت وصية و لا وصية إلا بعد قضاء الدين و إن كان الدين غير مستغرق بأن كان ألفا و قيمة كل واحد منهما ألف يسعى كل واحد في نصف قيمته ثم نصف كل واحد منهما وصية فإن أجازت الورثة عتق الباقي من كل واحد و إن لم تجز الورثة يعتق من كل واحد ثلث نصف الباقي مجانا و هو السدس و يسعى في ثلثي النصف ففي الحاصل عتق من كل واحد سدسه مجانا و يسعى في خمسة أسداسه و الله عز و جل أعلم .
ثم المريض إذا أعتق عبده و لا مال له غيره فأمر العبد في الحال في أحكام الحرية من الشهادة و غيرها موقوف فإن برأ تبين أنه صار حرا من حين أعتق و إن مات فهو بمنزلة المكاتب في قول أبي حنيفة لأن الإعتاق يتجزأ عنده و عندهما هو حر و عليه دين لأن الإعتاق لا يتجزأ .
و أما الذي هو من التوابع فنحو المالكية و الولاية و الشهادة و الإرث و غير ذلك لكن هذه ليست من الأحكام الأصلية للإعتاق بل هي التوابع و الثمرات تثبت في بعض أنواعه دون بعض كالإعتاق المضاف إلى الصبي و المجنون و نحو ذلك و من هذا القبول الإعتاق المضاف إلى المجهول و جملة الكلام فيه أن جهالة المعتق إما أن كانت أصلية و إما أن كانت طارئة فإن كانت أصلية و هي أن تكون الصيغة من الابتداء مضافة إلى أحد المذكورين غير عين فيجهل المضاف إليه لمزاحمة صاحبه إياه في الاسم فصاحبه المزاحم لا يخلو إما أن يكون محتملا للإعتاق أو لا يكون محتملا له و المحتمل لا يخلو من أن يكون ممن ينفذ إعتاقه فيه أو ممن لا ينفذ فإن كان محتملا للإعتاق و هو ممن ينفذ إعتاقه فيه نحو أن يقول لعبديه أحدكما حر أو يقول هذا حر أو هذا أو يقول سالم حر أو بريع لا ينوي أحدهما بعينه فالكلام في هذا الفصل في موضعين : .
أحدهما : في بيان كيفية هذا التصرف .
و الثاني : في بيان الأحكام المتعلقة به أما الكيفية فقد ذكرنا الاختلاف فيها فيما تقدم و أما الكلام في الأحكام المتعلقة به في الأصل فنوعان : نوع يتعلق به حال حياة المولى و نوع يتعلق به بعد وفاته .
أما الأول فنقول و لا قوة إلا بالله تعالى : إن للمولى أن يستخدمهما قبل الاختيار و هذا يدل على أن العتق غير نازل في أحدهما لأنه لا سبيل إلى استخدام الحر من غير رضاه و له أن يستعملهما و يستكسبهما و تكون الغلة و الكسب للمولى و هذا أيضا يدل على ما قلنا .
و لو جنى عليهما قبل الاختيار فالجناية لا تخلو إما أن كانت من المولى و إما أن كانت من الأجنبي و لا تخلو إما أن كانت على النفس أو على ما دون النفس فإن كانت الجناية / من المولى فإن كانت على ما دون النفس بأن قطع يد العبدين فلا شيء عليه و هذا أيضا يدل على عدم نزول العتق حيث جعلهما في حكم المملوكين قبل الاختيار و سواء قطعهما معا أو على التعاقب لأن القطع لا يبطل الخيار و لا يكون ثابتا بخلاف القتل لما نذكر .
و إن كانت جناية على النفس بأن قتلهما فإن قتلهما على التعاقب فالأول عبد و الثاني حر لأنه لما أقدم على قتل الأول فقد تعين الثاني للعتق فإذا قتله فقد قتل حرا فعليه الدية و تكون لورثته لأن الدية تصير ميراثا للورثة و لا يكون للمولى من ذلك شيء لأنه قاتل و القاتل لا يرث و إن قتلهما معا بضربة واحدة فعليه نصف دية كل واحد منهما لورثته لأن المضمون على المولى أحدهما و هو الحر منهما و ليس أحدهما بأولى من الآخر فشاعت حرية واحدة فيهما و هذا يؤيد القول بنزول العتق في غير العين .
و إن كانت الجناية من الأجنبي فإن كانت فيما دون النفس بأن قطع إنسان يد العبدين فعليه أرش العبيد و ذلك نصف قيمة كل واحد منهما ليكون أرشهما للمولى سواء قطعهما معا أو على التعاقب لأن القطع لا يبطل خيار المولى و هذا يوجب القول بعدم نزول العتق إذ لو نزل لكان الواجب أرش يد عبد و حر و هو نصف قيمة عبد و نصف دية حر .
و إن كانت في النفس فالقاتل لا يخلو إما أن كان واحدا و إما أن كان اثنين : فإن كان واحدا فإن قتلهما معا فعلى القاتل نصف قيمة كل واحد منهما نصف قيمة هذا و نصف قيمة ذاك و يكون للمولى و عليه نصف دية كل واحد منهما نصف دية هذا و نصف دية ذاك و تكون لورثتهما و هذا دليل على أن العتق نازل في غير العين إذ لو لم يكن لكان الواجب في قتلهما معا قيمة عبدين و مع ذلك لم يجب بل وجب دية حر و قيمة عبد لأن أحدهما حر و قد قتل حرا و عبدا و الواجب بقتل الحر الدية و بقتل العبد القيمة و الدية للورثة و القيمة للمولى و إنما انقسم لأن كل واحد منهما تجب ديته في حال و قيمته في حال لاحتمال أنه حر و عبد فينقسم ذلك على اعتبار الأحوال كما هو أصل أصحابنا .
و إن قتلهما على التعاقب يجب على القاتل قيمة الأول للمولى و دية الثاني للورثة لأن قتل الأول يوجب تعيين الثاني للعتق فيتعين الأول للمولى و قد قتل حرا و عبدا خطأ .
و إن كان القاتل اثنين قتل كل واحد منهما رجلا فإن وقع قتل كل واحد منهما معا فعلى كل واحد من القاتلين القيمة نصفها للورثة و نصفها للمولى و إيجاب القيمتين يوجب قيمة و دية على قول من يقول إن العتق غير نازل ظاهرا لأن كل واحد منهما قتل عبدا خطأ و أنه يوجب القيمة .
و أما على قول من يقول بنزول العتق فإنما لم تجب الدية لأن من تجب الدية عليه منهما مجهول إذ لا يعلم من الذي تجب عليه منهما فلا يمكن إيجاب الدية مع الشك و القيمة متيقنة فتجب بخلاف ما إذا كان القاتل واحدا لأن هناك من عليه معلوم لا جهالة فيه و إنما الجهالة فيمن له .
و أما انقسام القيمتين فلأن المستحق لأحد البدلين هو المولى و المستحق للبدل الآخر هو الوارث و كل واحد منهما يستحق في حال و لا يستحق في حال فوجوب القيمتين حجة أحد القولين و انقسامهما حجة القول الآخر .
و إن وقع قتل كل واحد منهما على التعاقب فعلى قاتل الأول القيمة للمولى و على قاتل الثاني الدية للورثة لأن أحدهما قتل عبدا و الآخر قتل حرا لأن قتل الأول أوجب تعين الثاني للحرية و الأول للرق و لو كان المملوكان أمتين فولدت كل واحدة منهما ولدا أو ولدت إحداهما ولدا فاختار المولى عتق إحداهما عتقت هي و عتق ولدها سواء كان للأخرى ولد أو لم يكن أما على قول التخيير فظاهر لأن العتق كان نازلا في غير العين منهما و البيان تعيين لمن وقع عليه فعتقت المعينة و عتق ولدها تبعا لها .
و أما على قول التعليق فلأن العتق إن لم ينزل فقد انعقد سبب النزول في إحداهما فيسري إلى ولدها كالاستيلاد و الكتابة و لو ماتت الأمتان معا قبل الاختيار قد ولدت كل واحدة منهما ولدا خير المولى فيختار عتق أي الولدين شاء لأنهما لما ماتتا الأمتان معا لم تتعين إحداهما الحرية فحدث الولدان على وصف الأم فيخير المولى فيهما كما كان يخير في الأم فإن مات أحد الولدين قبل الآخر مع بقاء الأمتين لا يلتفت إلى ذلك و يخير المولى لأنه لم يتعلق بموته تعيين إذ الحرية إنما تتعين فيه بتعينها في أمه و حكم التعيين في الأم قائم لأن تعيينها ممكن فيخير المولى فيهما / فأيهما اختار عتقها فعتقت عتق ولدها و لو قتل الأمتين معا رجل خير المولى في الولدين لما قلنا في الموت و أيهما اختار عتقه فعتق لا يرث من أرش أمه شيئا لأنه إنما عتق باختيار العتق فيه و ذلك يتأخر عن الموت فلا يرث شيئا بل يكون الكل للمولى و هذا نص مذهب التعليق لأن العتق لو كان نازلا في إحداهما لحدوثهما على وصف الأم لكان الاختيار تعيينا لمن وقع عليه العتق فكان عتقه متقدما على موت الأم فينبغي أن يرث و الله عز و جل أعلم .
و لو وطئت الأمتان بشبهة قبل اختيار المولى يجب عقر أمتين و يكون للمولى كالأرش و هذا يؤيد قول التعليق إذ لو كان تنجيزا لكان الواجب عقر حرة و أمة و لكان نصف ذلك للأمتين و النصف للمولى و لما كان كسبهما له و الأرش فالعقر أولى لأنهما لا يملكان بدون ملك الأصل و قد يملك الكسب بدون ملك الأصل كالغاصب فلما كان الكسب له فالأرش و العقر أولى و لو باعهما صفقة واحدة كان البيع فاسدا أما على قول التنجيز فظاهر لأن العتق إذا نزل في غير العين منهما صار جامعا بين حر و عبد في البيع من غير بيان حصة كل واحد منهما لأنه غير جائز بالإجماع .
و أما على قول التعليق : فلأن حق الحرية قد ثبت و هو انعقاد سبب الحرية لأحدهما فيمنع جواز البيع كما لو جمع بين قن و مدبر في البيع لم يبين حصة كل واحد منهما من الثمن .
و لو أنه باعهما صفقة واحدة و سلمهما إلى المشتري فأعتقهما المشتري فيقال للبائع اختر العتق في أحدهما و أيهما اختار عتقه عتق الآخر على المشتري لأن المشتري لما قبضهما بعقد فاسد فقد ملك أحدهما و نفذ إعتاقه فيه فإذا عين البائع أحدهما للعتق تعين الآخر للملك الفاسد فينفذ فيه إعتاق المشتري و إنما بدىء بتخيير البائع لأن التمليك منه حصل في مجهول فما لم يتعين أحدهما للحرية لا يتعين الآخر للملك الفاسد فإن مات البائع قبل البيان قامت الورثة مقامه و يقال لهم بينوا فإن بينوا في أحدهما عتق الآخر على المشتري و لا يقال ينبغي أن ينقسم العتق بموت المولى كما إذا مات قبل البيع لأن شرط الانقسام أن لا يزول الملك عن أحدهما لاستحالة انقسام الحرية على الحر و الملك قد زال عن أحدهما فتعذر الانقسام و بقي الخيار فقام الوارث مقام المورث .
فإن قيل : الخيار عندكم لا يورث فكيف ورثتم هذا الخيار و هذا منكم تناقض ؟ .
فالجواب : أن هذا الخيار لا يورث عندنا بل يثبت للورثة ابتداء لا بطريق الإرث بل لأنهم استحقوا قيمة أحد العبدين فكان لهم التعيين كما كان البائع و هذا كما قالوا فيمن باع أحد عبديه على أنه بالخيار و قبضهما المشتري فماتا في يده ثم مات البائع أن لورثة البائع الاختيار ابتداء لا بطريق الإرث كذا هذا فإن لم يعتق المشتري حتى مات البائع لم ينقسم العتق فيهما حتى يفسخ القاضي البيع فإذا فسخه انقسم و عتق من كل واحد منهما نصفه و إنما كان كذلك لما ذكرنا من فوات شرط الانقسام و هو عدم زوال الملك في أحدهما و الملك قد زال عن أحد العبدين فتعذر التقسيم و التوزيع إلا أن البيع الفاسد واجب الفسخ حقا للشرع رفعا للفساد و فسخه بفعل القاضي أو بتراضي المتعاقدين فإذا فسخ عاد إلى ملك البائع و شاع العتق فيهما و عتق من كل واحد منهما نصفه و لو وهبهما قبل الاختيار أو تصدق بهما أو تزوج عليهما يخير فيختار العتق في أيهما شاء و تجوز الهبة و الصدقة و الإمهار في الآخر لأن حرية أحدهما أو حق الحرية و هو انعقاد سبب الحرية في أحدهما على اختلاف الكيفيتين لا يوجب بطلان هذه التصرفات ألا ترى أنه لو جمع في الهبة أو في الصدقة أو في النكاح بين حر و عبد يصح في العبد .
و كذا إذا جمع فيها بين مدبر و قن يصح في القن و هذا لأن الجمع بين الحر و العبد في البيع إنما يوجب فساد البيع لأنه إذا جمع بينهما فقد جعل قبول البيع في كل واحد منهما شرطا لصحة قبوله في الآخر و أنه شرط فاسد و هذه التصرفات لا تبطلها الشروط الفاسدة .
فإن قيل : إذا قبضهما الموهوب له أو المتصدق عليه أو المرأة فقد زال الملك عن أحدهما فكيف يخير المولى فالجواب : أنا لا نقول بزوال الملك عن أحدهما قبل الاختيار بل زواله موقوف على وجود الاختيار فإذا تعين أحدهما للعتق باختياره العتق يزول الملك عن أحدهما .
و إن مات المولى قبل أن يبين العتق في أحدهما بطلت الهبة و الصدقة فيهما و بطل أمهارها لأنه لما مات فقد شاع العتق فيهما لوجود شرط الشياع فيعتق من كل واحد منهما نصفه و معتق البعض لا يحتمل التمليك من الغير .
و لو أسرهما أهل الحرب كان للمولى أن يختار عتق أحدهما و يكون الآخر لأهل الحرب لأن أهل الحرب لم يملكوهما بالأسر لأن أحدهما حرا و حق الحرية لأحدهما ثابت و كل ذلك يمنع من التملك بالأسر و لهذا لا يملكون المكاتب و المدبر بالأسر كما لا يملكون الحر و إذا لم يملكا بالأسر بقيا على ملك المولى و له خيار العتق فإذا اختار أحدهما بقي الآخر عبدا فيملكه أهل الحرب فإن لم يختر المولى حتى مات بطل ملك أهل الحرب بينهما لأنه لما مات المولى شاعت الحرية و عتق من كل واحد منهما نصفه فتعذر الملك .
و لو أسر أهل الحرب أحدهما لم يملكوه لأن أحدهما حرا و ثبت له حق الحرية و كل ذلك يمنع من التملك بخلاف ما إذا باع أحدهما لأن بيعه إياه اختار منه للملك فقد باع ملكه باختياره فصح و لو اشتراهما من أهل الحرب تاجر فللمولى أن يختار عتق أيهما شاء و يأخذ الآخر بحصته من الثمن لأن الخيار كان ثابتا للمولى قبل البيع فإذا باعوا فقد ثبت للمشتري ما كان ثابتا قبل خيار العمل فإذا اختار عتق أحدهما صح ملك أهل الحرب و المشتري منهم في الآخر فيأخذه بحصته من الثمن فإن اشترى التاجر أحدهما فاختار المولى عتقه عتق و بطل الشراء لما ذكرنا أن ولاية الاختيار قائمة للمولى فإن أخذه المولى من الذي اشتراه بالثمن عتق الآخر لأن أخذه إياه إعادة له إلى قديم ملكه فيتعين الآخر للعتق كأنه أعتقه .
و لو قال في صحته لعبديه : أحدكما حر ثم مرض مرض الموت فاختار عتق أحدهما يعتق من جميع المال و إن كانت قيمته أكثر من الثلث بأن كانت قيمة أحدهما ألفا و قيمة الآخر ألفين فبين العتق في الذي قيمته ألفان و هذا يدل على أن إضافة العتق إلى المجهول إيقاع و تنجيز إذلو كان تعليقا و اقتصر العتق على حالة المرض ينبغي أن يعتبر من الثلث كما لو أنشأ العتق في المرض و الله عز و جل الموفق و للعبدين حق مخاصمة المولى فلهما أن يرفعانه إلى القاضي و يستعديا عليه و إذا استعديا عليه أعداهما القاضي و أمره القاضي بالبيان أعني اختيار أحدهما و جبره عليه بالحبس لو امتنع .
و أما على مذهب التنجيز فلأن العتق نازل في أحد منهما غير عين و كل واحد منهما يجوز أن يكون هو الحر و الحرية حقه أو له فيها حق .
و أما على مذهب التعليق فلأن الحرية لم تثبت في أحدهما فقد يثبت حق الحرية أعني انعقد سبب ثبوت الحرية من غير ثبوت الحرية أصلا و هذا حقه و له فيه حق و البيان طريق استيفاء هذا الحق فكان كل واحد منهما بسبيل من الخصومة و المطالبة بالبيان .
و إنما كان البيان إلى المولى لأن الإجمال منه فكان البيان إليه كما في بيان المجمل و المشترك في النصوص و كمن أقر بشيء مجهول أو باع قفيزا من صبرة كان البيان إليه كذا هذا .
ثم البيان أنواع ثلاثة : نص و دلالة و ضرورة أما النص فنحو أن يقول المولى لأحدهما عينا : إياك عنيت أو نويت أو أردت بذلك اللفظ الذي ذكرت أو اخترت أن تكون حرا باللفظ الذي قلت أو أنت حر بذلك اللفظ الذي قلت أو بذلك الإعتاق أو أعتقتك بالعتق السابق و غير ذلك من الألفاظ فلو قال أنت حر أو أعتقتك بالعتق السابق فإن أراد به عتقا مستأنفا عتقا جميعا هذا بالإعتاق المستأنف و ذاك باللفظ السابق لأن إنشاء العتق في أحدهما قبل الاختيار اختيار العتق في الآخر دلالة لما نذكر إن شاء الله تعالى .
و إن قال : عنيت به الذي لزمني بقولي أحدكم حر يصدق في القضاء و يحمل قوله أعتقتك على اختيار العتق أي اخترت عتقك .
و أما الدلالة فهي أن يخرج المولى أحدهما عن ملكه بالبيع أو بالهبة أو بالصدقة أو بإنشاء العتق أو يرهن أحدهما أو يؤاجر أو يكاتب أو يدبر أو يستولد إن كانت أمة لأن الأصل إن من خير بين أمرين ففعل ما يستدل به على اختياره أحدهما يجعل ذلك اختيارا منه دلالة و يقوم ذلم مقام النص كأنه قال اخترت .
و الأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنه قال لبربرة إن وطئك زوجك فلا خيار لك ] لما أن تمكينها من الوطء دليل اختياره زوجها لا نفسها فصار هذا أصلا في الباب .
و هذه التصرفات كلها في أحدهما دليل اختيار العتق في الآخر لأن منها ما ينافي اختيار العتق المبهم في المتصرف فيه و هي التصرفات المزيلة للملك و منها ما لا ينافي اختيار العتق المبهم في المتصرف فيه لكن اختيار العتق المبهم فيه يبطله و هو الرهن و الإجارة و الكتابة و التدبير و الاستيلاد و العاقل يقصد صحة تصرفاته و سلامتها عن الانتقاض و البطلان فكان إقدامه على كلا النوعين من التصرفات في أحدهما دليلا على اختياره العتق المبهم في الآخر و اختياره العتق المبهم في أحدهما عينا شرط لنزول العتق فيه بالكلام السابق .
و هذا التخريج على قول من يقول : إن العتق غير نازل في العين فيهما فأما على قول من يقول بنزول العتق في أحدهما غير عين فهو أن هذه التصرفات لا صحة لها بدون الملك فالإقدام عليها يكون اختيارا للملك في المتصرف فيه فتعين الآخر فيعتق ضرورة من غير اختيار المولى نصا و دلالة كما إذا مات أحدهما قبل الاختيار أو قتل و سواء كان البيع بتا أو فيه خيار للبائع أو للمشتري أما على مذهب التنجيز فلأنه لا صحة للبيع إلا بالملك فكان إقدامه على بيع أحدهما اختيارا إياه للملك فيتعين الآخر للعتق ضرورة و أما على مذهب التعليق أما خيار المشتري فلا يمنع زوال المبيع عن ملكه بلا خلاف فينافي اختيار العتق المبهم فيه و أما اختيار البائع فلأن اختيار العتق المبهم يبطل شرط الخيار .
و سواء كان البيع صحيحا أو فاسدا إذا قبض المشتري لأنه وقع مزيلا للملك فيتعين الآخر للعتق دلالة أو ضرورة .
و أما إذا لم يقبض فقد ذكر في الأصل إذا باع أحدهما بيعا فاسدا و قبض المشتري عتق الباقي و لم يذكر أنه إذا لم يقبض ماذا حكمه .
و هكذا ذكر محمد في الإملاء إذا وهب أحدهما و أقبضه أو تصدق و أقبض عتق الآخر عند أبي حنيفة و أبي يوسف و عندنا و لم يذكر حال عدم القبض .
و ذكر الجصاص : أن القبض ليس بشرط و يتعين العتق في الآخر سواء قبض المشتري أو لم يقبض و هكذا ذكر القدوري و قال : قد ظهر القول من أصحابنا أنه إذا ساوم بأحد العبدين وقع العتق في الآخر .
و هكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه لو أوصى بأحدهما أو ساوم عتق الآخر و معلوم أن المساومة دون البيع الفاسد فالسوم لما كان بيانا فالبيع أولى .
و به تبين أن ذكر القبض في الأصل ليس على سبيل الشرط بل وقع ذكره اتفاقا أو اشعارا أنه مع القبض من التصرفات المزيلة للملك و لو علق عتق أحدهما عينا بشرط أنه قال له : إن دخلت الدار فأنت حر عتق الآخر أما على مذهب التنجيز فلأن العليق بما سوى الملك و سببه لا يصح إلا في الملك فكان الإقدام على تعليق عتقه اختيارا للملك في فيتعين الآخر للعتق ضرورة كما لو نجز العتق في أحدهما .
و أما على مذهب التعليق فلأن اختيار العتق المبهم فيه يبطل التعليق بالشرط فصار كما لو دبر أحدهما .
و ذكر ابن سماعة عن محمد أنه إذا قال لأحدهما : إن دخلت الدار فأنت حر ثم قال أحدكما حر ثم دخل الذي علق عتقه بدخول الدار حتى عتق عتق الآخر لأن ملك المولى زال عن أحدهما لسبب من جهته فصار كما لو أعتقه ابتداء أو باعه و لو كان المملوكان أختين فوطىء المولى إحداهما فإن علقت منه عتقت الأخرى بالإجماع لأنها صارت أم ولد له و قد ذكرنا أن الاستيلاد يكون معينا للعتق في الأخرى و إن لم تعلق لا تعتق الأخري في قول أبي حنيفة و عند أبي يوسف و محمد تعتق .
و روى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه قال : و كذلك لو قبل إحداهما بشهوة أو لمس بشهوة أو نظر إلى فرجها عن شهوة و لو استخدم إحداهما لا تعتق الأخرى في قولهم جميعا لأن الاستخدام تصرف لا يختص بالملك إذ قد يستخدم الحرة .
وجه قولهما : أن الظاهر من حال العاقل المتدين الإقدام على الوطء الحلال لا الحرام و حل الوطء لا يثبت إلا بأحد نوعي الملك و لم يوجد ههنا ملك النكاح فتعين ملك اليمين للحل و إذا تعينت الموطوءة للملك تعينت الأخرى للعتق و لأن الوطء لو لم يجعل بيانا فمن الجائز أن يقع اختياره على الموطوءة فيتبين أنه وطىء حرة من غير نكاح فيجعل الوطء بيانا ضرورة التحرج عن الحرام حالا و مآلا حتى لو قال إحداكما مدبرة ثم وطىء إحداهما لا يكون بيانا بالإجماع لأن التدبير لا يزيل ملك الاستمتاع فلا حاجة إلى التحرز بالبيان و لهذا جعل الوطء بيانا في الطلاق المبهم حتى لو قال لامرأتيه إحداكما طالق فوطىء إحداهما طلقت / الأخرى كذا ههنا .
و لأبي حنيفة : أن كون الوطء بيانا للعتق في غير الموطوءة يستدعي نزول العتق ليكون العتق تعيينا للمعتقة منهما و العتق بالكلام السابق غير نازل لما بينا من الدلائل و هكذا نقول في الطلاق المبهم إنه غير واقع في غير المعين منهما بل هو معلق بشرط الاختيار إلا أن هناك جعل الوطء دلالة الاختيار و لم يجعل ههنا لأن الوطء في باب النكاح مستحق على الزوج شرعا لقوله عز و جل : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } قيل في التفسير إن الإمساك بالمعروف هو الوطء و النفقة و إذا كان الوطء مستحقا بالنكاح عند اختيار الإمساك فإذا قصد وطء إحداهما صار مختارا لإمساكها فيلزمه إيفاء المستحق شرعا ضرورة اختيار الإمساك فيصير مختارا طلاق الأخرى و الوطء في الأمة غير مستحق بحال فلا يكون وطء إحداهما اختيارا للعتق في الأخرى لو صار مختارا للإمساك إنما يصير ليقع وطؤه حلالا تحرجا عن الحرمة و وطؤه إياهما جميعا حلال و باختيار إحداهما لا يظهر أن وطء الموطوأة كان حراما لأن العتق ثبت حال الاختيار مقصورا عليها .
و أما الضرورة فنحو أن يموت أحد العبدين قبل الاختيار فيعتق الآخر لأنه بالموت خرج من أن يكون محلا لاختيار العتق المبهم فتعين الآخر ضرورة من غير تعيين المولى لا نصا و لا دلالة و هذا يدل على أن العتق غير نازل إذ لو كان نازلا لما تعين الآخر للعتق لأن التعيين للضرورة و هي ضرورة عدم المحل و لا ضرورة لأن الميت كان محلا للبيان إذ البيان تعيين لمن وقع عليه العتق بالإيجاب السابق وقت وجوده و كان حيا في ذلك الوقت و هذا بخلاف ما إذا باع أحد عبديه على أن المشتري بالخيار ثلاثة أيام فمات أحدهما أن ملك المشتري يتعين في الميت منهما و لا يتعين في الحي لأن هناك وجد المسقط للخيار في الميت قبل الموت و هو حدوث العيب فيه إذ الموت لا يخلو عن مقدمة مرض عادة فحدوث العيب فيه يبطل خيار المشتري فيه فيتعين بالبيع فيتعين الحي للرد .
و ههنا حدوث العيب في أحدهما لا يوجب تعيينه للملك قبل الموت فيتعين للموت فيتعين الآخر للعتق ضرورة بخلاف ما إذا قال : أحد هذين ابني أو أحد هاتين أم ولدي فمات أحدهما لم يتعين الآخر للحرية و الاستيلاد كذا روى ابن سماعة عن محمد لأن قوله أحد هاتين أم ولدي أو أحد هذين ابني ليس بانشاء بل هو إخبار عن أمر سابق و الإخبار يصح في الحي و الميت فيقف على بيانه .
و قوله : أحدكما حر أو أحد هذين حر إنشاء للحرية في أحدهما و الإنشاء لا يصح إلا في الحي فإذا مات أحدهما تعين الآخر للحرية و كذا إذا قتل أحدهما سواء قتله المولى أو أجنبي لما قلنا غير أن القتل و إن كان من المولى فلا شيء عليه و إن كان من الأجنبي فعليه قيمة العبد المقتول للمولى .
فإن اختار المولى عتق المقتول لا يرتفع العتق عن الحي و لكن قيمة المقتول تكون لورثته لأن المولى قد أقر بحريته فلا يستحق شيئا من قيمته فإن قطعت يد أحدهما لا يعتق الآخر سواء كان القطع من المولى أو من أجنبي لأن القطع لا يقطع خيار المولى لبقاء محل الخيار بخلاف القتل فإن قطع أجنبي يد أحدهما ثم بين المولى العتق فإن بينه في غير المجني عليه فالأرش للمولى بلا شك و إن بينه في المجني عليه ذكر القدوري في شرحه أن الأرش للمولى أيضا و لا شيء للمجني عليه من الأرش .
و ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن الأرش يكون للمجني عليه و هكذا ذكر القاضي فيما إذا قطع المولى ثم بين العتق أنه إن بينه في المجني عليه يجب عليه أرش الأحرار و يكون للعبد و علل بأنه أقر على نفسه بأنه جنى على حر و إن بينه في غير المجني عليه فلا شيء على المولى و لم يذكر القدوري هذا الفصل و إنما ذكر فصل الأجنبي .
و ما ذكره القاضي قياس مذهب التنجيز لأن البيان يكون تعيينا لمن وقع عليه العتق فيتبين أنه كان حرا وقت ورود الجناية عليه فيوجب أرش الأحرار على المولى للعبد