ما يرجع إلى المكاتبة - القسم الثاني .
و رواية كتاب الشرب على حال الإجازة وجه رواية كتاب المكاتب أنه كاتبه على مال لا يملك لأنه كاتبه على عبد هو ملك الغير فلا يجوز وبه علل في الأصل فقال : لأنه كاتبه على ما لا يملك لأنه كاتبه على ملك الغير وشرح هذا التعليل أن المكاتبة عقد وضع لإكساب المال والعبد لا يقدر على إكساب هذا العين لا محالة لأن مالك العبد قد يبيعه وقد لا يبيعه فلا يحصل ما وضع له العقد و لأنا لو قضينا بصحة هذه المكاتبة لفسدت من حيث تصح لأنه إذا كاتبه على عبد هو ملك الغير ولم يجز المالك فقد تعذر عليه التسليم فكان موجبها وجوب قيمة العبد فيصير كأنه كاتبه على قيمة عبد فيفسد من حيث يصح وما كان في تصحيحه إفساده فيقضى بفساده من الأصل أو يقال تعذر عليه التسليم فإما أن تجب عليه قيمة العبد أو قيمة نفسه وكل ذلك فاسد .
وجه رواية كتاب الشرب وهو المروي عن أبي يوسف أيضا أن المكاتبة في معنى الإعتاق على مال ثم لو أعتق عبده على عبد بعينه لرجل فقبل العبد جاز .
وجه ما روي عن محمد من التوقف على الإجازة : أن هذا عقد له مجيز حال وقوعه فيتوقف على الإجازة كالمبيع وكذلك كلما عينه من مال غيره من عرض أو مكيل أو موزون لأن هذه الأشياء كلها تتعين في العقود بالتعيين فكانت كالعبد .
ولو قال : كاتبتك على ألف فلان هذه جازت المكاتبة لأن الدراهم لا تتعين بالتعيين في عقود المعاوضات فيقع العقد على مثلها في الذمة لا على عينها فيجوز وإن أدى غيرها عتق لأن المكاتبة وقعت على ما في الذمة وسواء كان البدل قليلا أو كثيرا لأن دلائل جواز المكاتبة لا يفصل بين القليل و الكثير وساء كان مؤجلا أو غير مؤجل عندنا .
و عند الشافعي : لا يجوز إلا مؤجلا وهو على قلب الاختلاف في السلم أنه لا يجوز إلا مؤجلا عندنا وعنده يجوز مؤجلا وغير مؤجل فالحاصل أنه لا خلاف في جواز المكاتبة على بدل مؤجل .
واختلاف في الجواز على بدل غير مؤجل قال أصحابنا يجوز .
وقال الشافعي : لا يجوز إلا مؤجلا منجما بنجمين فصاعدا .
وجه قوله : أن العبد عاجز عن تسليم العبد عند العقد لأنه معسر لا مال له والعجز عن التسليم عند العقد بمنع انعقاده بدليل أنه لو طرأ على العقد يرفعه فإذا قارنه يمنعه من الانعقاد من طريق الأولى لأن المنع أسهل من الرفع وكذا مأخذ الاسم يدل على ما قلنا فإن الكتابة مأخوذة من الكتاب و الكتاب يذكر بمعنى الأجل قال عز و جل { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } أي أجل لا يتقدم ولا يتأخر فسمى هذا عقد كتابة لكون البدل فيه مؤجلاويذكر بمعنى الكتاب المعروف وهو المكتوب .
سمي العقد بذلك لأن البدل يكتب في الديوان والحاجة إلى الكتابة للمؤجل لا للحال فكان الأجل فيه شرطا كالمسلم لما كان مأخوذا من التسليم كان تسليم رأس المال فيه شرطا لجواز السلم وكذا الصرف لما كان ينبئ عن نقل البدل من يد إلى يد كان القبض فيه من الجانبين شرطا كذا هذا .
ولنا : قوله D : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } من غير فصل بين الحال والمؤجل ولأن بدل الكتابة دين يجوز الاستبدال به قبل لقبض فلا يشترط فيه التأجيل كسائر الديون بخلاف بجل الصرف والسلم .
وأما قوله : أن العبد عاجز عن تسليم البدل عند العقد فمسلم لكن الأداء يكون بعد العقد ويحتمل حدوث القدرة بعده بأنه يكتب مالا بقبول هبة أو صدقة بدل الكتابة .
وأما مأخذ الاسم فالكتابة تحتمل معان يقال : كتب أي أوجب قال تعالى : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } وكتب أي ثبت قال تعالى : { كتب في قلوبهم الإيمان } و كتب أي حكم وقضى قال الله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } وشيء من هذه المعاني لا ينبئ عن التأجيل ثم إذا كانت المكاتبة حالة فإن أدى البدل حين طالبه المولى بها وإلا يرد في الرق سواء شرط ذلك في العقد أو لم يشرط بأن قال له إن لم تؤدها إلى حالة فأنت رقيق أو لم يقل لأنه كاتبه على بدل موصوف بصفة الحلول فلم يكن راضيا بدون تلك الصفة وكذلك إذا كانت منجمة بنجوم فعجز عن أول نجم منها يرد إلى الرق في قول أبي حنيفة و محمد وعند أبي يوسف لا يرد حتى يتوالى عليه نجمان .
احتج أبو يوسف بما روى عن علي Bه أنه قال : ( المكاتب إذا توالى عليه نجمان رد في الرق ) فقد شرط حلول نجمين للرد في الرق ولأن العجز لا يتحقق إلا عند حلول نجمين لجواز أن يقرضه إنسان أو يحصل له مال من موضع آخر فيؤدي فإذا اجتمع عليه مال نجمين فقد تحقق عجزه .
ولهما : ما روي عن عبد الله بن عمر Bهما ( أنه كاتب عبدا له فعجز عن نجم واحد فرده إلى الرق ) والظاهر أن ذلك كان على علم من الصحابة Bهم ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد فيكون إجماعا ولأن المولى شرط عليه في كل نجم قدرا من المال وإنه شرط معتبر مفيد من شرائط الكتابة فكان له أن يرده إلى الرق عند فواته كما لو عجز عن نجمين .
وأما احتجاجه بقول علي Bه فغير سديد لأنه احتجاج بالمسكوت لأن فيه أنه إذا توالى عليه نجمان يرد إلى الرق وليس فيه أنه إذا كسر نجما واحدا ماذا حكمه أو يحمل على الندب وبه نقول إن المكاتب إذا كسر نجما يندب مولاه إلى أن لا يرده إلى الرق ما لم يتوالى عليه نجمان رفقا به ونظرا فإن عجز عن نجمين على أصله أو عن نجم على أصلهما فإن كان له مال حاضر أو غائب مرجو حضوره بأن قال لي مال على إنسان أو حال يجيء في القافلة فإن القاضي ينتظر فيه يومين أو ثلاثة استحسانا لأن هذا القدر من التأخير ما لا ضرر فيه على المولى وفيه رجاء وصول كل واحد منهما إلى حقه فيفعل القاضي ذلك عند رجاء الوصول .
ولو اختلف المولى والمكاتب في قدر البدل أو جنسه بأن قال المولى كاتبتك على ألفين أو على الدنانير وقال العبد : كاتبتني على ألف أو على الدراهم فالقول قول المكاتب في قول أبي حنيفة الآخر سواء كان قد أدى عن بدل الكتابة شيئا أو كان لم يؤد وكان يقول أولا : يتحالفان ويترادان كالبيع لأن في المكاتبة معنى المبادلة ثم رجع وقال القول قول المكاتب لأنه المستحق عليه ومتى وقع الاختلاف في قدر المستحق أو جنسه فالقول قول المستحق عليه في الشرع كما في سائر الديون ولأن القياس يمنع التحالف لما نذكر في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى إلا أن الشرع ورد بخلاف القياس في البيع وأنه مبادلة المال بالمال مطلقا والكتابة بخلافه فلم تكن في معنى البيع فلا يقاس عليه والله D أعلم