باب جواز الإجارة .
أما الأول : فالإجارة جائزة عند عامة العلماء .
و قال أبو بكر الأصم : إنها لا تجوز و القياس ما قاله لأن الإجارة بيع المنفعة و المنافع للحال معدومة والمعدوم لا يحتمل البيع فلا يجوز إضافة البيع إلى ما يؤخذ في المستقبل كإضافة البيع إلى أعيان تؤخذ في المستقبل فإذا لا سبيل إلى تجويزها لا باعتبار الحال و لا باعتبار المآل فلا جواز لها رأسا لكنا استحسنا بالكتاب العزيز و السنة و الإجماع .
و أما الكتاب العزيز فقوله عز و جل خبرا عن أب المرأتين اللتين سقى لهما موسى عليه الصلاة و السلام : { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } أي على أن تكون أجيرا لي أو على أن تجعل عوضي من إنكاحي ابنتي إياك رعي غنمي ثماني حجج يقال : آجره الله تعالى أي عوضه و أثابه و قوله عز و جل خبرا عن تينك المرأتين : { قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } و ما قص الله علينا من شرائع قبلنا من غير نسخ يصير شريعة لنا مبتدأة و يلزمنا على أنه شريعتنا لا على أنه شريعة من قبلنا لما عرف في أصول الفقه و قوله عز و جل : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } و الإجارة ابتغاء الفضل و قوله عز و جل : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } .
[ و قد قيل : نزلت الآية في حج المكاري فإنه روي : أن رجلا جاء إلى ابن عمر Bهما فقال : إنا قوم نكري و نزعم أن ليس لنا حج فقال : ألستم تحرمون و تقفون و ترمون فقال : نعم فقال Bه : أنتم حجاج ثم قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم عما سألتني فلم يجبه حتى أنزل الله عز و جل : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنتم حجاج ] .
و قوله عز و جل في استئجار الظئر { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم } نفى سبحانه و تعالى الجناح عمن يسترضع ولده و المراد منه الاسترضاع بالأجرة دليله قوله تعالى { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } قيل : أي الأجر الذي قبلتم و قوله : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } و هذا نص و هو في المطلقات .
و أما السنة فما روى محمد في الأصل [ عن أبي سعيد الخدري و أبي هريرة Bهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يستام الرجل على سوم أخيه و لا ينكح على خطبته و لا تناجشوا و لا تبيعوا بإلقاء الحجر و من استأجر أجيرا فليعلمه أجره ] و هذا منه صلى الله عليه و سلم تعليم شرط جواز الإجارة و هو إعلام الأجر فيدل على الجواز .
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ] و أمر صلى الله عليه و سلم بالمبادرة إلى إعطاء أجر الأجير قبل فراغه من العمل من غير فصل فيدل على جواز الإجارة .
و عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة و من كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر و رجل باع حرا فأكل ثمنه و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه و لم يعطه أجره ] .
[ و عن عائشة Bها أنها قالت : استأجر رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر Bه رجلا من بني الدئل هاديا خريتا و هو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما و واعداه غار ثور بعد ثلاث فأتاهما فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة و الدليل الدئلي فأخذ بهم طريق الساحل ] و أدنى ما يستدل بفعل النبي صلى الله عليه و سلم الجواز .
[ و روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر على رافع بن خديج و هو في حائطه فأعجبه فقال لمن هذا الحائط ؟ فقال : لي يا رسول الله استأجرته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تستأجره بشيء منه ] .
خص صلى الله عليه و سلم النهي باستئجاره ببعض الخارج منه و لو لم تكن الإجارة جائزة أصلا لعم النهي إذ النهي عن المنكر واجب و كذا : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم و الناس يؤاجرون و يستأجرون فلم ينكر عليهم فكان ذلك تقريرا منه و التقرير أحد وجوه السنة .
و أما الإجماع : فإن الأمة أجمعت على ذلك قبل وجود الأصم حيث يعقدون عقد الإجارة من زمن الصحابة Bهم إلى يومنا هذا من غير نكير فلا يعبأ بخلافه إذ هو خلاف الإجماع .
و به تبين أن القياس متروك لأن الله تعالى إنما شرع العقود لحوائج العباد و حاجتهم إلى الإجارة ماسة لأن كل واحد لا يكون له دار مملوكة يسكنها أو أرض مملوكة يزرعها أو دابة مملوكة يركبها و قد لا يمكنه تملكها بالشراء لعدم الثمن و لا بالهبة و الإعارة لأن نفس كل واحد لا تسمح بذلك فيحتاج إلى الإجارة فجوزت بخلاف القياس لحاجة الناس كالسلم و نحوه .
تحقيقه : إن الشرع شرع لكل حاجة عقدا يختص به فشرع لتمليك العين بعوض عقدا و هو البيع و شرع لتمليكها بغير عوض عقدا و هو الهبة و شرع لتمليك المنفعة بغير عوض عقدا و هو الإعارة فلو لم يشرع الإجارة مع امتساس الحاجة إليها لم يجد العبد لدفع هذه الحاجة سبيلا و هذا خلاف موضوع الشرع