ركن الإجارة و معناها .
أما ركنها فالإيجاب و القبول و ذلك بلفظ دال عليها و هو لفظ الإجارة و الاستئجار و الإكراء فإذا وجد ذلك فقد تم الركن و الكلام في صيغة الإيجاب و القبول و صفتها في الإجارة كالكلام فيهما في البيع و قد ذكرنا ذلك في كتاب البيوع .
و أما معنى الإجارة فالإجارة بيع المنفعة لغة و لهذا سماها أهل المدينة بيعا و أرادوا بيع المنفعة و لهذا سمي البدل في هذا العقد أجرة و سمى الله بدل الرضاع أجرا بقوله : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } و الأجرة بدل المنفعة لغة و لهذا سمي المهر في باب النكاح أجرا بقوله عز و جل : { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن } أي مهورهن لأن المهر بدل منفعة البضع و سواء أضيف إلى الدور و المنازل و البيوت و الحوانيت و الحمامات و الفساطيط و عبيد الخدمة و الدواب و الثياب و الحلي و الأواني و الظروف و نحو ذلك أو إلى الصناع من القصار و الخياط و الصباغ و الصنائع و النجار و البناء و نحوهم و الأجير قد يكون خاصا و هو الذي يعمل لواحد و هو المسمى بأجير الوحد و قد يكون مشتركا و هو الذي يعمل لعامة الناس و هو المسمى بالأجير المشترك .
و ذكر بعض المشايخ : أن الإجارة نوعان : إجارة على المنافع و إجارة على الأعمال و فسر النوعين بما ذكرنا و جعل المعقود عليه في أحد النوعين المنفعة و في الآخر العمل و هي في الحقيقة نوع واحد لأنها بيع المنفعة فكان المعقود عليه المنفعة في النوعين جميعا إلا أن المنفعة تختلف باختلاف محل المنفعة فيختلف استيفاؤها باستيفاء منافع المنازل بالسكنى و الأراضي بالزراعة و الثياب و الحلل و عبيد الخدمة بالخدمة و الدواب بالركوب و الحمل و الأواني و الظروف بالاستعمال و الصناع بالعمل من الخياطة و القصارة و نحوهما و قد يقام فيه تسليم النفس مقام الاستيفاء كما في أجير الوحد حتى لو سلم نفسه في المدة و لم يعمل يستحق الأجر .
و إذا عرف أن الإجارة بيع المنفعة فنخرج عليه بعض المسائل فنقول : لا تجوز إجارة الشجر و الكرم للثمر لأن الثمر عين و الإجارة بيع المنفعة لا بيع العين و لا تجوز إجارة الشاة للبنها أو سمنها أو صوفها أو ولدها لأن هذه أعيان فلا تستحق بعقد الإجارة و كذا إجارة الشاة ليرضع جديا أو صبيا لما قلنا و لا تجوز إجارة ماء في نهر أو بئر أو قناة أو عين لأن الماء عين فإن استأجر القناة و العين و البئر مع الماء لم يجز أيضا لأن المقصود منه الماء و هو عين و لا يجوز استئجار الآجام التي فيها الماء للسمك و غيره من القصب و الصيد لأن كل ذلك عين فإن استأجرها مع الماء فهو أفسد و أخبث لأن استئجارها بدون الماء فاسد فكان مع الماء أفسد و لا تجوز إجارة المراعي لأن الكلأ عين فلا تحتمل الإجارة و لا تجوز إجارة الدراهم و الدنانير و لا تبرهما و كذا تبر النحاس و الرصاص و لا استئجار المكيلات و الموزونات لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد استهلاك أعيانها و الداخل تحت الإجارة المنفعة لا العين حتى لو استأجر الدراهم و الدنانير ليعير بها ميزانا أو حنطة ليعير بها مكيالا أو زيتا ليعير به أرطالا أو أمنانا أو وقتا معلوما .
ذكر في الأصل : أنه يجوز لأن ذلك نوع انتفاع بها مع بقاء عينها فأشبه استئجار سنجات الميزان .
و ذكر الكرخي : أنه لا يجوز لفقد شرط آخر و هو كون المنفعة مقصودة و الانتفاع بهذه الأشياء من هذه الجهة غير مقصود عادة و لا يجوز استئجار الفحل للضراب لأن المقصود منه النسل و ذلك بإنزال الماء و هو عين و قد روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنه نهى عن عسب الفحل ] أي كرائه لأن العسب في اللغة و إن كان اسما للضراب لكن لا يمكن حمله عليه لأن ذلك ليس بمنهي لما في النهي عنه من قطع النسل فكان المراد منه كراء عسب الفحل إلا أنه حذف الكراء و أقام العسب مقامه كما في قوله عز و جل : { واسأل القرية } و نحو ذلك .
و لو استأجر كلبا معلما ليصيد أو بازيا لم يجز لأنه استئجار على العين و هو الصيد و جنس هذه المسائل تخرج على الأصل .
فإن قيل : أليس إن استئجار الظئر جائز و إنه استئجار على العين و هي اللبن بدليل أنها لو أرضعته بلبن شاة لم تستحق الأجرة .
فالجواب أنه روي عن محمد : أن العقد يقع على خدمة الصبي و اللبن يدخل على طريق التبع فكان ذلك استئجارا على المنفعة أيضا و استيفاؤها بالقيام بخدمة الصبي من غسله و غسل ثيابه و إلباسها إياه و طبخ طعامه و نحو ذلك و اللبن يدخل فيه تبعا كالصبغ في استئجار الصباغ و إذا أرضعته بلبن الشاة فلم تأت بما دخل تحت العقد فلا تستحق الأجرة كالصباغ إذا صبغ الثوب لونا آخر غير ما وقع عليه العقد أنه لا يستحق عليه الأجر و ذا لا يدل على أن المعقود عليه ليس هو المنفعة كذا ههنا .
و من مشايخنا من قال إن المعقود عليه هناك العين و هي اللبن مقصودا و الخدمة تبع لأن المقصود تربية الصبي و لا يتربى إلا باللبن فأجري اللبن مجرى المنافع و لهذا لا يجوز بيعه و على هذا يخرج استئجار الأقطع و الأشل للخياطة بنفسه و القصارة و الكتابة و كل عمل لا يقوم إلا باليدين و استئجار الأخرس لتعليم الشعر و الأدب و الأعمى لنقط المصاحف أنه غير جائز لأن الإجارة بيع المنفعة و المنفعة لا تحدث عادة إلا عند سلامة الآلات و الأسباب و كذا استئجار الأرض السبخة و النزة للزراعة و هي لا تصلح لها لأن منفعة الزراعة لا يتصور حدوثها منها عادة فلا تقع الإجارة بيع المنفعة فلم نجز و على هذا يخرج استئجار المصحف أنه لا يجوز لأن منفعة المصحف النظر فيه و القراءة منه و النظر في مصحف الغير و القراءة منه مباح و الإجارة بيع المنفعة و المباح لا يكون محلا للبيع كالأعيان المباحة من الحطب و الحشيش .
و كذا استئجار كتب ليقرأ فيها شعرا أو فقها لأن منافع الدفاتر النظر فيها و النظر في دفتر الغير مباح من غير أجر فصار كما لو استأجر ظل حائط خارج داره ليقعد فيه .
و لو استأجر شيئا من الكتب ليقرأ فقرأ لا أجر عليه لانعدام عقد المعاوضة و على هذا أيضا يخرج إجارة الآجام للسمك و القصب و إجارة المراعي للكلأ و سائر الأعيان المباحة أنها غير جائزة لما بينا و الله عز و جل أعلم