بيان التملك بقضاء القاضي .
و أما بقضاء القاضي فالكلام فيه في ثلاثة مواضع : في بيان كيفية التملك بالقضاء بالشفعة و في بيان شرط جواز القضاء بالشفعة و في بيان وقت القضاء بالشفعة .
أما الأول : فالمبيع لا يخلو إما أن يكون في يد البائع و إما أن يكون في يد المشتري فإن كان في يد البائع ذكر الكرخي C أن القاضي إذا قضى بالشفعة ينتقض البيع الذي كان بين البائع و بين المشتري في المشهور من قولهم و روي عن أبي يوسف C أنه لا ينقض .
و اختلف المشايخ فيه قال بعضهم : البيع لا ينتقض بل تتحول الصفقة إلى الشفيع و قال بعضهم ينتقض البيع الذي جرى بين البائع و المشتري و ينعقد للشفيع بيع آخر كأنه كان من البائع إيجابان : .
أحدهما : مع المشتري و الآخر : مع الشفيع فإذا قضى القاضي بالشفعة فقد قبل الشفيع الإيجاب الذي أضيف إليه و انتقض ما أضيف إلى المشتري سواء قبل المشتري الإيجاب أو لم يقبل .
وجه قول من قال بالتحول لا بالانتقاض : أن البيع لو انتقض لتعذر الأخذ بالشفعة لأنه من شرائط وجوب الشفعة فإذا انتقض لم يجب فتعذر الأخذ .
وجه قول من قال : إنه ينتقض نص محمد و المعقول و الأحكام أما الأول فقد ذكر محمد C و قال : انتقض البيع فيما بين البائع و المشتري و هذا نص في الباب .
و أما المعقول : فمن وجهين : .
أحدهما : أن القاضي إذا قضى بالشفعة قبل القبض فقد عجز المشتري عن قبض المبيع و العجز عن قبض المبيع يوجب بطلان البيع لخلوه من الفائدة كما إذا هلك المبيع قبل القبض .
و الثاني : أن يملك قبل الأخذ بالشفعة للمشتري لوجود آثار الملك في حقه على ما بينا فيما تقدم و لو تحول الملك إلى الشفيع لم يثبت الملك للمشتري .
و أما الأحكام : فإن الشفيع أن يرد الدار على من أخذها منه بخيار الرؤية و إذا رد عليه لا يعود شراء المشتري و لو تحولت الصفقة إلى الشفيع لعاد شراء المشتري لأن التحول كان لضرورة مراعاة حق الشفيع و لما رد فقد زالت الضرورة فينبغي أن يعود الشراء و لأنها تحولت إليه لصار المشتري و كيلا للشفيع لأن عقده يقع له و لو كان كذلك لما ثبت للشفيع خيار الرؤية إذا كان المشتري رآها قبل ذلك و رضي بها لأن خيار الرؤية يبطل برؤية الوكيل و رضاه .
و كذلك لو كان الشراء بثمن مؤجل فأراد الشفيع أن يأخذها للحال يأخذ بثمن حال و لو تحولت الصفقة إليه لأخذها بثمن مؤجل و كذا لو اشتراها على البائع برئ من كل عيب بها عند البيع ثم أخذها الشفيع فوجد بها عيبا فله أن يردها على من أخذها منه .
و لو تحولت تلك الصفقة إلى الشفيع لما ثبت له حق الرد كما لم يثبت للمشتري فدلت هذه المسائل على أن شراء المشتري ينتقض و يأخذها الشفيع بشراء مبتدأ بعد إيجاب مبتدأ مضاف إليه و قد خرج الجواب عن قولهم : إن البيع لو انتقض لتعذر الأخذ بالشفعة لأنه لا يأخذ بذلك العقد لانتقاضه بل بعقد مبتدأ مقرر بين البائع و بين الشفيع على ما بينا تقريره و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و إن كان المبيع في يد المشتري أخذه منه و دفع الثمن إلى المشتري و البيع الأول صحيح لأن التملك وقع على المشتري فيجعل كأنه اشترى منه ثم إذا أخذ الدار من يد البائع يدفع الثمن إلى البائع و كانت العهدة عليه و يسترد المشتري الثمن من البائع إن كان قد نقد و إن أخذها من يد المشتري دفع الثمن إلى المشتري و كانت العهدة عليه لأن العهدة هي حق الرجوع بالثمن عند الاستحقاق فيكون على من قبض الثمن .
و روي عن أبي يوسف C : أن المشتري إذا كان نقد الثمن و لم يقبض الدار حتى قضي للشفيع بمحضر منهما أن الشفيع يأخذ الدار من البائع و ينقد الثمن للمشتري و العهدة على المشتري و إن كان لم ينقد دفع الشفيع الثمن إلى البائع و العهدة على البائع لأنه إذا كان نقد الثمن للبائع فالملك لا يقع على البائع أصلا لأنه لا ملك له و لا بد أيضا لبطلان حق الحبس بنقد الثمن بل يقع على المشتري فيكون الثمن له و العهدة عليه و إذا كان لم ينقد فللبائع حق الحبس فلا يتمكن الشفيع من قبض الدار إلا بدفع الثمن إلى البائع فكانت العهدة على البائع و أما شرط جواز القضاء بالشفعة فحضرة المقضي عليه لأن القضاء على الغائب لا يجوز .
و جملة الكلام فيه : أن المبيع إما أن يكون في يد البائع و إما أن يكون في يد المشتري فإن كان في يد البائع فلا بد من حضرة البائع و المشتري جميعا لأن كل واحد منهما خصم أما البائع فباليد و أما المشتري فبالملك فكان كل واحد منهما مقضيا عليه فيشترط حضرتهما لئلا يكون قضاء على الغائب من غير ان يكون عنه خصم حاضر .
و أما إن كان في يد المشتري فحضرة البائع ليست بشرط و يكتفى بحضرة المشتري لأن البائع خرج من أن يكون خصما لزوال ملكه و يده عن المبيع فصار كالأجنبي و كذا حضرة الشفيع أو وكيله شرط جواز القضاء له بالشفعة لأن القضاء على الغائب كما لا يجوز فالقضاء للغائب لا يجوز أيضا ثم القاضي إذا قضى بالشفعة يثبت الملك للشفيع و لا يقف ثبوت الملك له على التسليم لأن الملك للشفيع يثبت بمنزلة الشراء و الشراء الصحيح يوجب الملك بنفسه .
و أما وقت القضاء بالشفعة : فوقته وقت المنازعة و المطالبة بها فإذا طالبه بها الشفيع يقضي القاضي له بالشفعة سواء حضر الثمن أو لا في ظاهر الرؤية و للمشتري أن يحبس الدار حتى يستوفي الثمن من الشفيع و كذا الورثة لأن التملك بالشفعة بمنزلة الشراء من المشتري و للبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن فإن أبى أن ينقد حبسه القاضي لأنه ظهر ظلمه بالامتناع من إيفاء حق واجب عليه فيحبسه و لا ينقض الشفعة كالمشتري إذا امتنع من إيفاء الثمن أنه يحبس و لا ينقض البيع و إن طلب آجلا لنقض الثمن أجله يوما أو يومين أو ثلاثة أيام لأنه لا يمكنه النقد للحال فيحتاج إلى مدة يتمكن فيها من النقد فيمهله و لا يحبسه لأن الحبس جزاء الظلم بالمطل و لم يظهر مطله فإن مضى الأجل و لم ينقد حبسه .
و قال محمد C : ليس ينبغي للقاضي أن يقضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع المال فإن طلب أجلا أجله يوما أو يومين أو ثلاثة أيام و لم يقض له بالشفعة فإن قضى بالشفعة ثم أبى الشفيع أن ينقد حبسه و هذا عندي ليس باختلاف على الحقيقة و للقاضي أن يقضي بالشفعة قبل إحضار الثمن بلا خلاف لأن لفظ محمد C : ليس ينبغي للقاضي أن يقضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع المال لا يدل على أنه ليس له أن يقضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع المال لا يدل على أنه ليس له أن يقضي بل هو إشارة إلى نوع احتياط و اختيار الأول لا تستعمل لفظة لا ينبغي إلا في مثله و لهذا إذا قضى جاز و نفذ قضاؤه نص عليه محمد و ليس ذلك لكونه محل الاجتهاد لأن القضاء بمذهب المخالف في المجتهدات إنما ينفذ بشريطة اعتقاد إصابته فيه و إفضاء اجتهاده إليه و قد أطلق القضية في النفاذ من غير هذا الشرط فدل أنه لا خلاف في المسألة على التحقيق ثم إن ثبت الخلاف .
فوجه قول محمد : أن حق الشفعة إنما يثبت لدفع ضرر الدخيل عن الشفيع و القضاء قبل إحضار الثمن يتضمن الضرر بالمشتري لاحتمال إفلاس الشفيع و دفع الضرر عن الإنسان بإضرار غيره متناقض فلا يقضي قبل الإحضار و لكن يؤجله يومين أو ثلاثة إن طلب التأجيل تمكينا له من نقد الثمن .
وجه ظاهر الرواية : أن الشفيع يصير متملكا المشفوع فيه بمقتضى القضاء بالشفعة كأن اشتراه منه و التملك بالشراء لا يقف عن إحضار الثمن كما في الشراء المبتدأ .
و قال محمد C : لو ضرب له القاضي أجلا فقال له : إن لم يأت بالثمن إلى وقت كذا فلا شفعة لك فلم يأت به بطلت شفعته .
و كذا إذا قال الشفيع : إن لم أعطك الثمن إلى وقت كذا فأنا بريء من الشفعة لأن هذا تعليق إسقاط حق الشفعة بالشرط و الإسقاطات مما يحتمل التعليق بالشرط كالطلاق و العتاق و نحو ذلك