كتاب الذبائح و الصيود .
نحتاج في هذا الكتاب إلى بيان المأكول و غير المأكول من الحيوانات و إلى بيان المكروه منها و إلى بيان شرائط حل الأكل في المأكول و إلى بيان ما يحرم أكله من أجزاء الحيوان المأكول .
أما الأول : فالحيوان في الأصل نوعان : نوع يعيش في البحر و نوع يعيش في البر أما الذي يعيش في البحر فجميع ما في البحر من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة فإنه يحل أكله إلا ما طفا منه و هذا قول أصحابنا Bهم و قال بعض الفقهاء و ابن أبي ليلى رحمهم الله : إنه يحل أكل ما سوى السمك من الضفدع و السرطان و حية الماء و كلبه و خنزيره و نحو ذلك لكن بالذكاة و هو قول الليث بن سعد C إلا في إنسان الماء و خنزيره أنه لا يحل .
و قال الشافعي C : يحل جميع ذلك من غير ذكاة و أخذه ذكاته و يحل أكل السمك الطافي .
أما الكلام في المسألة الأولى فهم احتجوا بظاهر قوله تبارك و تعالى : { أحل لكم صيد البحر } و اسم الصيد يقع على ما سوى السمك من حيوان البحر فيقتضي أن يكون الكل حلالا و بقول النبي عليه الصلاة و السلام : حين سئل عن البحر فقال : [ هو الطهور ماؤه و الحل ميتته ] و وصف ميتة البحر بالحل من غير فصل بين السمك و غيره .
و لنا قوله تبارك و تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } من غير فصل بين البري و البحري و قوله عز شأنه : { ويحرم عليهم الخبائث } و الضفدع و السرطان و الحية و نحوها من الخبائث .
و [ روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن ضفدع يجعل شحمه في الدواء فنهى عليه الصلاة و السلام عن قتل الضفادع و ذلك نهى عن أكله و روي أنه لما سئل عنه فقال عليه الصلاة و السلام : خبيثة من الخبائث ] و لا حجة لهم في الآية لأن المراد من الصيد المذكور هو فعل الصيد و هو الاصطياد لأنه هو الصيد حقيقة لا المصيد لأنه مفعول فعل الصيد و إطلاق اسم الفعل يكون مجازا و لا يجوز العدول عن حقيقة اللفظ من غير دليل لأن الصيد اسم لما يتوحش و يمتنع و لا يمكن أخذه إلا بحيلة إما لطيرانه أو لعدوه و هذا إنما يكون حالة الاصطياد لا بعد الأخذ لأنه صار لحما بعده ولم يبق صيدا حقيقة لانعدام معنى الصيد و هو التوحش و الامتناع .
و الدليل عليه أنه عطف عليه قوله عز شأنه : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } و المراد منه الاصطياد من المحرم لا أكل الصيد لأن ذلك مباح للمحرم إذا لم يصطده بنفسه و لا غيره بأمره فثبت أنه لا دليل في الآية على إباحة الأكل بل خرجت للفصل بين الاصطياد في البحر و بين الاصطياد في البر للمحرم و المراد من قول النبي عليه الصلاة و السلام [ و الحل ميتته ] السمك خاصة بدليل قوله صلى الله عليه و سلم : [ أحلت لنا ميتتان و دمان الميتتان السمك و الجراد و الدمان الكبد و الطحال ] فسر عليه الصلاة و السلام بالسمك و الجراد فدل على أن المراد منها السمك و يحمل الحديث على السمك و تخصيصه بما تلونا من الآية و روينا من الخبر .
و أما المسألة الثانية و هي مسألة الطافي فالشافعي C احتج بقوله تعالى : { وطعامه متاعا لكم } معطوفا على قوله : { أحل لكم صيد البحر } أي أحل لكم طعامه و هذا يتناول ما صيد منه و ما لم يصد و الطافي لم يصد فيتناوله بقوله عليه الصلاة و السلام في صفة البحر [ هو الطهور ماؤه و الحل ميتته ] و أحق ما يتناوله اسم الميتة الطافي لأنه الميت حقيقة و بقوله عليه الصلاة و السلام : [ أحلت لنا ميتتان و دمان الميتتان السمك و الجراد ] فسر النبي عليه الصلاة و السلام الميتة بالسمك من غير فصل بين الطافي و غيره .
و لنا : ما روي [ عن جابر الأنصاري Bه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنه نهى عن أكل الطافي ] .
و عن سيدنا علي Bه أنه قال : لا تبيعوا في أسواقنا الطافي .
و عن ابن عباس Bهما أنه قال : ما دسره البحر فكله و ما وجدته يطفو على الماء فلا تأكله .
و أما الآية فلا حجة له فيها لأن المراد من قوله تعالى : { وطعامه } ما قذفه البحر إلى الشط فمات كذا قال أهل التأويل و ذلك حلال عندنا لأنه ليس بطاف إنما الطافي اسم لما مات في الماء من غير آفة و سبب حادث و هذا مات بسبب حادث و هو قذف البحر فلا يكون طافيا و المراد من الحديثين غير الطافي لما ذكرنا ثم السمك الطافي الذي لا يحل أكله عندنا هو الذي يموت في الماء حتف أنفه من غير سبب حادث .
و قال بعض مشايخنا : هو الذي يموت في الماء بسبب حادث و يعلو على وجه الماء فإن لم يعلو يحل .
و الصحيح : هو الحد الأول و تسميته طافيا لعلوه على وجه الماء عادة .
و روى هشام عن محمد رحمهما الله في السمك إذا كان بعضها في الماء و بعضها على الأرض إذا كان رأسها على الأرض أكلت و إن كان رأسها أو أكثره في الماء لم تؤكل لأن رأسها موضع نفسها فإن كان خارجا من الماء فالظاهر أنه مات بسبب الحادث و إذا كان في الماء أو أكثره فالظاهر أنه مات في الماء بغير سبب و قالوا : في سمكة ابتلعت سمكة أخرى أنها تؤكل لأنها ماتت بسبب حادث و لو مات من الحر و البرد و كدر الماء ففيه روايتان : في رواية لا يؤكل لأن الحر و البرد كدر الماء ليس من أسباب الموت ظاهرا فلم يوجد الموت بسبب حادث يوجب الموت ظاهرا و غالبا فلا يؤكل و يستوي في حل الأكل جميع أنواع السمك من الجريث و المار ما هي و غيرهما لأن ما ذكرنا من الدلائل في إباحة السمك لا يفصل بين سمك و سمك إلا ما خص بدليل .
و قد روي عن سيدنا علي و ابن عباس Bهما إباحة الجريث و السمك الذكر و لم ينقل عن غيرهما خلاف ذلك فيكون إجماعا .
و أما الذي يعيش في البر فأنواع ثلاثة ما ليس له دم أصلا و ما ليس له دم سائل و ما له دم سائل مثل الجراد و الزنبور و الذباب و العنكبوت و العضابة و الخنفساء و البغاثة و العقرب و نحوها لا يحل أكله إلا الجراد خاصة لأنها من الخبائث لاستبعاد الطباع السليمة إياها و قد قال تبارك و تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } إلا أن الجراد خص من هذه الجملة بقوله عليه الصلاة و السلام : [ أحلت لنا ميتتان ] فبقي على ظاهر العموم .
و كذلك ما ليس له دم سائل مثل الحية و الوزغ و سام أبرص و جميع الحشرات و هوام الأرض من الفأر و القراد و القنافذ و الضب و اليربوع و ابن عرس و نحوها و خلاف في حرمة هذه الأشياء إلا في الضب فإنه حلال عند الشافعي .
و احتج بما روي [ عن ابن عباس Bهما أنه قال : أكلت على مائدة رسول الله صلى الله عليه و سلم لحم ضب ] .
و [ عن ابن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إنه لم يكن بأرض قومي فأجد نفسي تعافه فلا آكله و لا أحرمه ] و هذا نص على عدم الحرمة الشرعية و إشارة إلى الكراهية الطبيعية .
و لنا : قوله تبارك و تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } و روي [ عن سيدتنا عائشة Bها أن النبي عليه الصلاة و السلام أهدي إليه لحم ضب فامتنع أن يأكله فجاءت سائلة فأرادت سيدتنا عائشة Bها أن تطعمها إياه فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتطعمين ما لا تأكلين ] و لا يحتمل أن يكون امتناعه لما أن نفسه الشريفة عافته لأنه لو كان كذلك لما منع من التصدق به كشاة الأنصار أنه لما امتنع عن أكلها أمر بالتصدق بها لأن الضب من جملة المسوخ و المسوخ محرمة كالدب و القرد و الفيل فيما قيل .
و الدليل عليه ما [ روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الضب فقال عليه الصلاة و السلام : إن أمة مسخت في الأرض و إني أخاف أن يكون هذا منها ] و هكذا [ روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال كنا في بعض المغازي فأصايتنا مجاعة فنزلنا في أرض كثيرة الضباب فنصبنا القدور و كانت القدور تغلي إذ جاء النبي عليه الصلاة و السلام فقال ما هذا قلنا الضب يا رسول الله فقال عليه الصلاة و السلام : إن أمة مسخت فأخاف أن يكون هذا منها فأمر بإلقاء القدور ] .
و ما روي عن ابن عباس Bهما و ما روينا فهو خاطر و العمل بالخاطر أولى و ما له دم سائل نوعان : مستأنس و مستوحش