ما يرجع إلى محل الذكاة .
و أما الذي يرجع إلى محل الذكاة فمنها تعيين المحل بالتسمية في الذكاة الاختيارية و لا يشترط ذلك في الذكاة الاضطرارية و هي الرمي و الإرسال إلى الصيد لأن الشرط في الذكاة الاختيارية ذكر اسم الله تبارك و تعالى على الذبيح لما تلونا من الآيات و لا يتحقق ذلك إلا بتعيين الذبيح بالتسمية و لأن ذكر الله تبارك و تعالى لما كان واجبا فلا بد و أن يكون مقدورا و التعيين في الصيد ليس بمقدور لأن الصائد قد يرمي و يرسل على قطيع من الصيد و قد يرمي و يرسل على حس الصيد فلا يكون التعيين واجبا و المستأنس مقدور فيكون واجبا : و على هذا يخرج ما إذا ذبح شاة أخرى و سمى ثم ذبح شاة أخرى يظن أن التسمية الأولى تجزي عنهما لم تؤكل و لا بد من أن يجدد لكل ذبيحة تسمية على حدة و لو رمى سهما فقتل به من الصيد اثنين لا بأس بذلك .
و كذلك لو أرسل كلبا أو بازيا و سمى فقتل من الصيد اثنين فلا بأس بذلك لأن التسمية تجب عند الفعل و هو الذبح فإن تجدد الفعل تجدد التسمية فأما الرمي و الإرسال فهو فعل واحد و إن كان يتعدى إلى مفعولين فتجزي فيه تسمية واحدة و وازن الصيد من المستأنس ما لو أضجع شاتين و أمر السكين عليهما معا أنه تجزئ في ذلك تسمية واحدة كما في الصيد .
فإن قيل : هلا جعل ظنه أن التسمية على الشاة الأولى تجزئ عن الثانية عذرا كنسيان التسمية فالجواب أن هذا ليس من باب النسيان بل من الجهل بحكم الشرع و الجهل بحكم الشرع ليس بعذر و النسيان عذر .
ألا ترى أن من ظن أن الأكل لا يفطر الصائم فأكل بطل صومه و لو أكل ناسيا لا يبطل فإن نظر إلى جماعة من الصيد فرمى بسهم و سمى و تعمدها و لم يتعمد واحدا بعينه فأصاب منها صيدا فقتله لا بأس بأكله و كذلك الكلب و البازي .
و لو أن رجلا نظر إلى غنمه فقال : بسم الله ثم أخذ واحدة فأضجعها و ذبحها و ترك التسمية عامدا و ظن أن تلك التسمية تجزيه لا تؤكل لأنه لم يسم عند الذبح و الشرط هو التسمية على الذبيحة و ذلك بالتسمية عند الذبح نفسه لا عند النظر و تعيين الذبيحة مقدور فيمكن أن يجعل شرطا و تعيين الصيد بالرمي و الإرسال متعذر لما بينا فلم يمكن أن يجعل شرطا .
و لو رمى صيدا بعينه أو أرسل الكلب أو البازي على صيد بعينه فأخطأ فأصاب غيره يؤكل و كذا لو رمى ظبيا فأصاب طيرا أو أرسل على ظبي فأخذ طيرا لأن التعيين في الصيد ليس بشرط .
و منها : قيام أصل الحياة في المستأمن وقت الذبح قلت أو كثرت في قول أبي حنيفة C و عند أبي يوسف و محمد رحمهما الله : لا يكتفي بقيام أصل الحياة بل تعتبر حياة مقدورة كالشاة المريضة و الوقيذة و النطيحة و جريحة السبع إذا لم يبق فيها إلا حياة قليلة عرف ذلك بالصياح أو يتحريك الذنب أو طرف العين أو التنفس .
و أما خروج الدم فلا يدل على الحياة إلا إذا كان يخرج كما يخرج من الحي المطلق فإذا ذبحها و فيها قليل حياة على الوجه الذي ذكرنا تؤكل عند أبي حنيفة Bه و عن أبي يوسف روايتان : في ظاهر الرواية عنه أنه إن كان يعلم أنها لا تعيش مع ذلك فذبحها لا تؤكل و إن كان يعلم أنها تعيش مع ذلك فذبحها تؤكل و في رواية قال إن كان لها من الحياة مقدار ما تعيش به أكثر من نصف يوم فذبحها تؤكل و إلا فلا .
و قال محمد C : إن كان لم يبق من حياتها إلا قدر حياة المذبوح بعد الذبح أو أقل فذبحها لا تؤكل و إن كان أكثر من ذلك تؤكل و ذكر الطحاوي قول محمد مفسرا فقال : إن على قول محمد إن لم يبق معها إلا الاضطراب للموت فذبحها فإنها لا تحل و إن كانت تعيش مدة كاليوم أو كنصفه حلت .
وجه قولهما : أنه إذا لم يكن لها حياة مستقرة على الوجه الذي ذكرنا كانت ميتة معنى فلا تلحقها الذكاة كالميتة حقيقة .
و لأبي حنيفة Bه : قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } إلى قوله تعالى : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } استثنى سبحانه و تعالى المذكى من الجملة المحرمة و الاستثناء من التحريم إباحة و هذه مذكاة لوجود فري الأوداج مع قيام الحياة فدخلت تحت النص .
و أما الصيد إذا جرحه السهم أو الكلب فأدركه صاحبه حيا فإن ذكاه يؤكل بلا خلاف بين أصحابنا كيف ما كان سواء كانت فيه حياة مستقرة أو لم تكن و خرج الجرح من أن يكون ذكاة في حقه و صار ذكاته الذبح في الحياة المستقرة ذكاة مطلقة فيدخل تحت النص و إن لم يكن فيه حياة مستقرة فعلى أصل أبي حنيفة C ذكاته الذبح وقد وجد لوجود أصل الحياة فصار مذكى .
و على أصلهما لا حاجة إلى الذبح لأنه صار مذكى بالجرح فالذبح بعد ذلك لا يضر إن كان لا ينفع و إن لم يذكه و هو قادر على ذبحه فتركه حتى مات فإن كانت فيه حياة مستقرة لا يؤكل لأن ذكاته تحولت من الجرح إلى الذبح فإن لم يذبح كان ميتة و إن كانت حياته غير مستقرة يؤكل عند أبي حنيفة Bه و إن قلت من غير ذكاة بخلاف المستأنس عنده .
و الفرق له أن الرمي و الإرسال إذا اتصل به الجرح كان ذكاة في الصيد فلا تعتبر هذه الحياة بعد وجود الذكاة و لم تتقوم ذكاة في المستأمن فلا بد من اعتبار هذا القدر من الحياة لتحقق الذكاة .
و أما عندهما : فكذلك لكن على اختلاف تفسيرهما للحياة المستقرة و غير المستقرة على ما ذكرنا في المستأمن هكذا ذكر عامة المشايخ رحمهم الله و ذكر الجصاص C و قال يجب أن يكون قول أبي حنيفة C في الصيد مثل قوله في المستأنس على أن قوله يجب الذبح في جميع الأحوال لا يحل بدونه سواء كانت الحياة مستقرة أو غير مستقرة و قد ذكرنا وجه الفرق له على قول عامة المشايخ رحمهم الله .
و إن مات قبل أن يقدر على ذبحه لضيق الوقت أو لهدم آلة الذكاة ذكر القدوري عليه الرحمة أنه لا يؤكل عندنا و عند محمد بن شجاع البلخي و محمد بن مقاتل الرازي رحمهما الله استحسانا أشار إلى أن القول بالحرمة قياس و من مشايخنا رحمهم الله من جعل جواب الاستحسان مذهبنا أيضا و تركوا القياس .
وجه القياس : أنه لما ثبتت يده عليه فقد خرج من أن يكون صيدا لزوال معنى الصيد و هو التوحش و الامتناع فيزول الحكم المختص بالصيد و هو اعتبار الجرح ذكاة و صار كالشاة إذا مرضت و ماتت في وقت لا يتسع لذبحها أنها لا تؤكل كذا هذا .
وجه الاستحسان : أن الذبح هو الأصل في الذكاة و إنما يقام الجرح مقامه خلفا عنه و قد وجد شرط بخلافه و هو العجز عن الأصل فيقام الخلف مقامه كما في سائر الأخلاف مع أصولها .
و قال أصحابنا رحمهم الله : لو جرحه السهم أو الكلب فأدركه لكن لم يأخذه حتى مات فإن كان في وقت لو أخذه يمكنه ذبحه فلم يأخذه حتى مات لم يؤكل لأن الذبح صار مقدورا عليه فخرج الجرح من أن يكون ذكاة و إن كان لا يمكنه ذبحه أكل لأنه إذا لم يأخذه و لا يتمكن من ذبحه لو أخذه بقي ذكائه الجرح السابق و دلت هذه المسألة على أن جواب الاستحسان في المسألة المتقدمة مذهب أصحابنا جميعا لأنه لا فرق بين المسألتين سوى أن هناك أخذ و ههنا لم يأخذ و ما يصنع بالأخذ إذا لم يقدر على ذكاته ؟ ! .
و جواب القياس عن هذا : أن حقيقة القدرة و التمكن لا عبرة بها لأن الناس مختلفون في ذلك فإن منهم من يتمكن من الذبح في زمان قليل لهدايته في ذلك و منهم من لا يتمكن إلا في زمان طويل لقلة هدايته فيه فلا يمكن بناء الحكم على حقيقة القدرة و التمكن فيقام السبب الظاهر و هو ثبوت اليد مقامها كما في السفر مع المشقة و غير ذلك .
و ذكر ابن سماعة في نوادره C عن أبي يوسف : لو أن رجلا قطع شاة نصفين ثم إن رجلا فرى أوداجها و الرأس يتحرك أو شق بطنها فأخرج ما في جوفها و فرى آخر الأوداج فإن هذا لا يؤكل لأن الأول قاتل .
و ذكر القدوري C : أن هذا على وجهين إن كانت الضربة ما يلي العجز لم تؤكل الشاة و إن كانت مما يلي الرأس أكلت لأن العروق المشروطة في الذبح متصلة من القلب إلى الدماغ فإذا كانت الضربة مما يلي الرأس فقد قطعها فحلت و إن كانت مما يلي العجز فلم يقطعها فلم تحل .
و أما خروج الدم بعد الذبح فيما لا يحل إلا بالذبح فهل هو من شرائط الحل فلا رواية فيه و اختلف المشايخ على ما ذكرنا فيما تقدم و كذا التحرك بعد الذبح هل هو شرط ثبوت الحل فلا رواية فيه أيضا عن أصحابنا .
و ذكر في بعض الفتاوى : أنه لا بد من أحد شيئين إما التحرك و إما خروج الدم فإن لم يوجد لا يحل كأنه جعل وجود أحدهما بعد الذبح علامة الحياة وقت الذبح فإذا لم يوجد لم تعلم حياته وقت الذبح فلا يحل و قال بعضهم : إن علم حياته وقت لذبح بغير التحرك يحل و إن لم يتحرك بعد الذبح و لا خرج منه الدم و الله أعلم .
و منها : ما يخص الذكاة الاضطرارية و هو أن لا يكون صيد الحرم فإن كان لا يؤكل و يكون ميتة سواء كان المذكي محرما أو حلالا لأن التعرض لصيد الحرم بالقتل و الدلالة و الإشارة محرم حقا لله تعالى قال الله تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } .
و قال النبي عليه الصلاة و السلام في صفة الحرم : [ و لا ينفر صيده ] و الفعل في المحرم شرعا لا يكون ذكاة و سواء كان مولده الحرم أو دخل من الحل إليه لأنه يضاف إلى الحرم في الحالين فيكون صيد الحرم .
و أما الذي يرجع إلى آلة الذكاة فمنها أن يكون ما يصطاد به من الجوارح من الحيوانات من ذي الناب من السباع و ذي المخلب من الطير معلما لقوله تعالى { وما علمتم من الجوارح } معطوفا على قوله سبحانه و تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } أي أحل لكم الطيبات و أحل لكم ما علمتم من الجوارح أي الاصطياد بما علمتم من الجوارح كأنهم سألوا النبي عليه الصلاة و السلام عما يحل لهم الاصطياد به من الجوارح أيضا مع ما ذكر في بعض القصة أن النبي عليه الصلاة و السلام لما أمر بقتل الكلاب أتاه ناس فقالوا ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فنزل قوله تعالى : { يسألونك } الآية ففي الآية الكريمة اعتبار الشرطين و هما الجرح و التعلم حيث قال عز شأنه : { وما علمتم من الجوارح } لأن الجوارح هي التي تجرح مأخوذ من الجرح .
و قيل : الجوارح الكواسب قال الله عز شأنه : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي كسبتم و الحمل على الأول أولى لأنه حمل على المعنيين لأنها بالجراحة تكسب و قوله تعالى : { مكلبين } قرئ بالخفض و النصب و قيل بالخفض صاحب الكلب يقال : كلاب و مكلب و بالنصب الكلب المعلم و قيل المكلبين بالخفض الكلاب التي يكالبن الصيد أي يأخذنه عن شدة و منه الكلوب للآلة التي يؤخذ بها الحديد .
و قوله جلت عظمته : { تعلمونهن } أي تعلمونهن ليمسكن الصيد لكم و لا يأكلن منه و هذا حد التعليم في الكلب عندنا على ما نذكره إن شاء الله تعالى فدلت الآية الكريمة على كون الكلب معلما شرط لإباحة أكل صيده فلا يباح أكل صيد غير المعلم .
و إذا ثبت هذا الشرط في الكلب بالنص ثبت في كل ما هو في معناه من كل ذي ناب من السباع كالفهد و غيره مما يحتمل التعلم بدلالة النص لأن فعل الكلب إنما يضاف إلى المرسل بالتعلم إذ المعلم هو الذي يعمل لصاحبه فيأخذ لصاحبه و يمسك على صاحبه فكان فعله مضافا إلى صاحبه فأما غير المعلم فإنما يعمل لنفسه لا لصاحبه فكان فعله مضافا إليه لا إلى المرسل لذلك شرط كونه معلما ثم لا بد من معرفة حد التعليم في الجوارح من ذي الناب كالكلب و نحوه و ذي المخلب كالبازي و نحوه