حكم الإرسال و الرمي على الصيد .
و على هذا يخرج بقية المسائل : و منها الإرسال و هو أن يكون أخذ الكلب أو البازي الصيد في حال فور الإرسال لا في حال انقطاعه حتى لو أرسل الكلب أو البازي على صيد و سمى فأخذ صيدا و قتله ثم أخذ آخر على فوره ذلك و قتله ثم و ثم يؤكل ذلك كله لأن الإرسال لم ينقطع فكان الثاني كالأول مع ما بينا أن التعيين ليس بشرط في الصيد لأنه لا يمكن فكان أخذ الكلب أو البازي الصيد في فور الإرسال كوقوع السهم بصيدين فإن أخذ صيدا و جثم عليه طويلا ثم مر به آخر فأخذه و قتله لم يؤكل إلا بإرسال مستقبل أو بزجره و تسمية على وجه ينزجر فيما يحتمل الزجر لبطلان الفور .
و كذلك إن أرسل كلبه أو بازه على صيد فعدل على الصيد يمنة أو يسرة و تشاغل بغير طلب الصيد و فتر عن سننه ذلك ثم تبع صيدا آخر فأخذه و قتله لا يؤكل إلا بإرسال مستأنف أو أن يزجره صاحبه و يسمي فينزجر فيما يحتمل الزجر لأنه لما تشاغل بغير طلب الصيد فقد انقطع حكم الإرسال فإذا صاد صيدا بعد ذلك فقد ترسل بنفسه فلا يحل صيده إلا أن يزجره صاحبه فيما يحتمل الزجر لما بينا .
و إن كان الذي أرسل فهدا و الفهد إذا أرسل كمن و لا يتبع حتى يستمكن فيمكث ساعة ثم يأخذ الصيد فيقتله فإنه يؤكل .
و كذلك الكلب إذا أرسل فصنع كما يصنع الفهد فلا بأس بأكل ما صاد لأن حكم الإرسال لم ينقطع بالكمون لأنه إنما يكمن ليتمكن من الصيد فكان ذلك من أسباب الاصطياد و وسيلة إليه فلا ينقطع به حكم الإرسال كالوثوب و العدو و كذلك البازي إذا أرسل فسقط على شيء ثم طار فأخذ الصيد فإنه يؤكل لأنه إنما يسقط على شيء ليتمكن من الصيد فكان سقوطه بمنزلة كمون الفهد .
و كذلك الرامي إذا رمى صيدا بسهم فما أصابه في سننه ذلك و وجهه أكل لأنه إذا مضى في سننه فلم ينقطع حكم الرمي فكان ذهابه بقوة الرامي فكان قتله مضافا إليه فيحل فإن أصاب واحدا ثم نفذ إلى آخر و آخر أكل الكل لما قلنا مع ما أن تعيين الصيد ليس بشرط فإن أمالت الريح السهم إلى ناحية أخرى يمينا أو شمالا فأصاب صيدا آخر لم يؤكل لأن السهم إذا تحول عن سننه فقد انقطع حكم الرمي فصارت الأصابة بغير فعل الرامي فلا يحل كما لو كان على جبل سيف فألقته الريح على صيد فألقته الريح على صيد فقتله أنه لا يؤكل كذا هذا .
فإن لم ترده الريح عن وجهه ذلك أكل الصيد لأنه إذا مضى في وجهه كان مضيه بقوة الرامي و إنما الريح أعانته و معونة الريح السهم مما لا يمكن الاحتراز عنه فكان ملحقا بالعدم فإن أصابت الريح السهم و هي ريح شديدة فدفعته لكنه لم يتغير عن وجهه فأصاب السهم الصيد فإنه يؤكل لأنه مضى في وجهه و معونة الريح إذا لم تعدل السهم عن وجهه لا يمكن التحرز عنه فلا يعتبر و لو أصاب السهم حائطا أو صخرة فرجع فأصاب صيدا فإنه لا يؤكل لأن فعل الرامي انقطع و صارت الإصابة في غير جهة الرمي فإن مر السهم بين الشجر فجعل يصيب الشجر في ذلك الوجه لكن السهم على سننه فأصاب صيدا فقتله فإنه يؤكل فإن رده شيء من الشجر يمنة أو يسرة لا يؤكل لما بينا فإن مر السهم فحجشه حائط و هو على سننه ذلك فأصاب صيدا فقتله أكل لأن فعل الرامي لم ينقطع و إنما أصاب السهم الصيد و الحائط و ذلك لا يمنع الحل .
و روي عن أبي يوسف C أن حكم الإرسال لا ينقطع بالتغير عن سننه يمينا و شمالا إلا إذا رجع من ورائه و لو ان رجلا رمى بسهم و سمى ثم رمى رجل آخر بسهم و سمى فأصاب السهم الأول السهم الثاني قبل أن يصيب الصيد فرده عن وجهه ذلك فأصاب صيدا فقتله فإنه لا يؤكل لأنه لما رده السهم الثاني عن سننه انقطع حكم الرمي فلا يتعلق به الحل .
قال القدوري : و هذا محمول على أن الرامي الثاني لم يقصد الاصطياد لأن القتل حصل بفعله و هو لم يقصد الاصطياد فلا يحل فأما إذا كان الثاني رمى للاصطياد فيحل أكل الصيد و هو للثاني لأنه مات بفعله و إن لم يقصده بالرمي و تعيين المرمي إليه ليس بشرط .
و لو ان رجلين رمى كل واحد منهما صيدا بسهم فأصابا الصيد جميعا و وقعت الرميتان بالصيد معا فمات فإنه لهما و يؤكل أما حل الأكل فظاهر و أما كون الصيد لهما فلأنهما اشتركا في سبب الاستحقاق و تساويا فيه فيتساويان في الاستحقاق فإن أصابه سهم الأول فوقذه ثم أصابه سهم الآخر فقتله قال أبو يوسف C : يؤكل و الصيد للأول و قال زفر C : لا يؤكل و هذا فرع اختلافهم في أن المعتبر في الرمي حال الرمي أو حال الإصابة فعند أصحابنا الثلاثة المعتبر حال الرمي و عند زفر حال الإصابة .
و وجه البناء على هذا الأصل : أن المعتبر لما كان حال الرمي عندنا فقد وجد الرمي منهما و الصيد ممتنع فلا يتعلق بالسهم الثاني حظر إلا أن الملك للأول لأن سهمه أخرجه من حيز الامتناع فصار السهم الثاني كأنه وقع بصيد مملوك فلا يستحق به شيء فكان الاعتبار بحال الرمي في حق الحل و الإصابة في حق الملك لأن الحل يتعلق بالفعل و الملك يتعلق بالمحل و لما كان الاعتبار بحال الإصابة عنده فقد أصابه الثاني و الصيد غير ممتنع فصار كمن رمى إلى شاة فقتلها .
وجه قول زفر C : الاعتبار حال الإصابة أن الملك يقف ثبوته على الإصابة فإنه لو لم يصب لا يملك فدل أن المعتبر هو وقت الإصابة .
و لنا : أن حال الرمي هو الذي يفعله و التسمية معتبرة عند فعله فكان الاعتبار بحال الرمي و كذلك إن رمى أحدهما بعد الآخر قبل إصابة الأول فهو كرميهما معا في القولين لأن الرمي الثاني وجد و الصيد ممتنع فصار كما لو رميا معا فإن أصابه سهم الأول و لم يخرجه من الامتناع فأصابه الثاني فقتله فهو للثاني لأن الأول إذا لم يخرجه عن حد الامتناع ففعل الاصطياد وجد من الثاني و للأول تسبب في الصيد فصار كمن أثار صيدا و أخذه غيره أن الصيد يكون للآخذ لا للمثير كذا هذا .
و إن كان سهم الأول وقذه و أخرجه عن الامتناع ثم أصابه سهم الثاني فهذا على وجوه : إن مات من الأول أكل و على الثاني ضمان ما نقصته جراحته لأن السهم الأول وقع به و هو صيد فإذا قتله حل و قد ملكه الأول بالإصابة فالجراحة الثانية نقص في ملك الأول فيضمنها الثاني .
و إن مات من الجراحة الثانية لم يؤكل لأن الثاني رمى إليه و هو غير ممتنع فصار كالرمي إلى الشاة و يضمن الثاني ما نقصته جراحته لأنه نقص دخل في ملك الغير بفعله ثم يضمن قيمته مجروحا بجراحتين لأنه أتلف بفعله إلا أنه غرم نقصان الجرح الثاني فلا يضمنه ثانيا و الجرح الأول نقص حصل بفعل المالك للصيد فلا يضمنه الثاني عبد الله .
و إن مات من الجراحتين لم يؤكل لأن أحد الرميين حاظر و الآخر مبيح فالحكم للحاظر احتياطا و الصيد للأول لانفراده بسبب ملكه و هو الجراحة المخرجة له من الامتناع و على الثاني للأول نصف قيمته مجروحا بالجراحتين و يضمن نصف ما نقصته الجراحة الثانية لأنه مات بفعلهما فسقط نصف الضمان و ثبت نصفه و الجراحة الثانية يضمنها الثاني لأنها حصلت في ملك غيره و لأنه أتلف على شريكه نصيبه حين أخرجه من الإباحة إلى الحظر فيلزمه الضمان و إن لم يعلم بأي الجراحتين مات فهو كما لو علم أنه مات منهما لأن كل واحدة من الجراحتين سبب القتل في الظاهر و الله عز و جل أعلم .
و لو أرسل كلبا على صيد و سمى فأدرك الكلب الصيد فضربه فوقذه ثم ضربه ثانيا فقتله أكل و كذلك لو أرسل كلبين على صيد فضربه أحدهما فوقذه ثم ضربه الكلب الآخر فقتله فإنه يؤكل لأن هذا لا يدخل في تعليم الكلب إذ لا يمكن أن يعلم بترك الجرح بعد الجرح الأول فلا يعتبر فكأنه قتله بجرح واحد .
و لو أرسل رجلان كل واحد منهما كلبه على صيد فضربه كلب أحدهما فوقذه ثم ضربه كلب الآخر فقتله فإنه يؤكل لما ذكرنا أن جرح الكلب بعد الجرح مما لا يمكن التحفظ عنه فلا يوجب الحظر فيؤكل و يكون الصيد لصاحب الأول لأن جراحة كلبه أخرجته عن حد الامتناع فصار ملكا له فجراحة كلب الثاني لا تزيل ملكه عنه .
و منها : أن يكون الإرسال و الرمي على الصيد و إليه حتى لو أرسل على غير صيد أو رمى إلى غير صيد فأصاب صيدا لا يحل لأن الإرسل إلى غير الصيد و الرمي إلى غيره لا يكون اصطيادا فلا يكون قتل الصيد و جرحه مضافا إلى المرسل و الرامي فلا تتعلق به الإباحة .
و على هذا ما إذا سمع حسا فظنه صيدا فأرسل عليه كلبه أو بازه أو رماه بسهم فأصاب صيدا أو بان له أن الحس الذي سمعه لم يكن حس صيد و إنما كان شاة أو بقرة أو آدميا أنه لا يؤكل الصيد الذي أصابه في قولهم جميعا لأنه تبين أنه أرسل على ما ليس بصيد و رمى إلى ما ليس بصيد فلا يتعلق به الحل لما بينا من الفقه و صار كأنه رمى إلى آدمي أو شاة أو بقرة و هو يعلم به فأصاب صيدا أنه لا يؤكل كذا هذا .
و إن كان الحس حس صيد فأصاب صيدا يؤكل سواء كان ذلك الحس حس صيد مأكول أو غير مأكول بعد أن كان المصاب صيدا مأكولا و هذا قول أصحابنا الثلاثة .
و قال زفر : إن كان ذلك الحس حس صيد لا يؤكل لحمه كالسبع و نحوها لا يؤكل و روي عن أبي يوسف C أنه إن كان حس ضبع يؤكل الصيد و إن كان حس خنزير لا يؤكل الصيد وجه قول زفر أن السبع غير مأكول فالرمي إليه لا يثبت به حل الصيد المأكول كما لو كان حس آدمي فرمى إليه فأصاب صيدا .
و لنا : أن الإرسال إلى الصيد اصطياد مباح مأكولا كان الصيد أو غير مأكول فتتعلق به إباحة الصيد المأكول لأن حل الصيد المأكول يتعلق بالإرسال فإذا كان الإرسال حلالا يثبت حله إلا أنه لا يثبت بحل الإرسال حل حكم المرسل إليه لأن حرمته ثبتت لمعنى يرجع إلى المحل فلا تتبدل بالفعل و لأن المعتبر في الإرسال هو قصد الصيد .
فأما التعيين فليس بشرط لما بينا فيما تقدم و قد قصد الصيد حلالا كان أو حراما بخلاف ما إذا كان الحس حس آدمي لأن الإرسال على الآدمي ليس باصطياد فضلا عن أن يكون حلالا إذ لا يتعلق حل الصيد بما ليس باصطياد و على الوجه الثاني لم يوجد منه قصد الصيد فلا يتعلق به الحل .
وجه رواية أبي يوسف C في فصله بين سائر السباع و بين الخنزير أن الخنزير محرم العين حتى لا يجوز الانتفاع به بوجه فسقط اعتبار الإرسال عليه و التحق بالعدم فأما سائر السباع فجائز بها في غير جهة الأكل فكان الإرسال إليها معتبرا و إن سمع حسا و لكنه لا يعلم أنه حس صيد أو غيره فأرسل فأصاب صيدا لم يؤكل لأنه إذا لم يعلم استوى الحظر و الإباحة فكان الحكم للحظر احتياطا .
و ذكر في الأصل فيمن رمى خنزيرا أهليا فأصاب صيدا قال : لا يؤكل لأن الخنزير الأهلي ليس بصيد لعدم التوحش و الامتناع فكان الرمي إليه كالرمي إلى الشاة فلا يتعلق به حل الصيد و إن أصاب صيدا مأكولا و قد قالوا فيمن سمع حسا فظنه آدميا فرماه فأصاب الحس نفسه فإذا هو صيد أكل لأنه رمى إلى المحسوس المعين و هو الصيد فصح .
و نظيره ما إذا قال لامرأته و أشار إليها هذه الكلبة طالق أنها تطلق و بطل الاسم و قالوا : لو رمى طائرا فأصاب صيدا و ذهب الرمي إليه ولم يعلم أوحشي أو مستأنس أكل الصيد لأن الأصل في الطير التوحش فيجب التمسك بالأصل حتى يعلم الاستئناس .
و لو علم أن الرمي إليه داجن تأوي البيوت لا يؤكل الصيد لأن الداجن يأويه البيت و تثبت اليد عليه فكان الرمي إليه كالرمي إلى الشاة و ذلك لا يتعلق به الحل كذا هذا .
و قالوا لو رمى بعيرا فأصاب صيدا و ذهب البعير فلم يعلم أناد أو غير ناد لم يؤكل الصيد حتى يعلم أن البعير كان نادا لأن الأصل في الإبل الاستئناس فيتمسك بالأصل حتى يظهر الأمر بخلافه .
واختلفت الرواية عن أبي يوسف C فيمن رمى سمكة أو جرادة فأصاب صيدا فقال في رواية لا يؤكل لأن السمك و الجراد لا ذكاة لهما و روي عنه أنه يؤكل لأن الرمي إليه من جملة الصيد و إن كان لا ذكاة له و قالوا لو أرسل كلبه على ظبي موثق فأصاب صيدا لم يؤكل لأن الموثق ليس بصيد لعدم معنى الصيد فيه و هو الامتناع فأشبه شاة و لو أرسل بازه على ظبي و هو لا يصيد الظبي فأصاب صيدا لم يؤكل لأن هذا إرسال لم يقصد به الاصطياد فصار كمن أرسل كلبا على قتل رجل فأصاب صيدا