القسم الثاني من : شروط النذر .
أما الحديث فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنا ابن الذبيحين ] أراد أول آبائه من العرب و هو سيدنا إسماعيل عليه الصلاة و السلام و آخر آبائه حقيقة و هو عبد الله بن عبد المطلب سماهما عليه الصلاة و السلام ذبيحين و معلوم أنهما ما كانا ذبيحين حقيقة فكانا ذبيحين تقديرا بطريق الخلافة لقيام الخلف مقام الأصل .
و أما المعقول : فلأن المسلم إنما يقصد بنذره التقرب إلى الله تعالى إلا أنه عجز عن القرب بذبح الولد تحقيقا فلم يكن ذلك مرادا من النذر و هو قادر على ذبحه تقديرا بذبح الخلف و هو ذبح الشاة فكان هذا نذرا بذبح الولد تقديرا ما هو خلف عنه حقيقة كالشيخ الفاني إذا نذر بالصوم و إنما لا يصح بلفظ القتل لأن التعيين بالنذر وقع للواجب على سيدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام و الواجب هناك بالإيجاب المضاف إلى ذبح الولد بقوله تعالى عز شأنه : { إني أرى في المنام أني أذبحك } على أن هذا حكم ثبت استحسانا بالشرع و الشرع إنما ورد بلفظ الذبح لا يلفظ القتل و لا يستقيم القياس لأن لفظ القتل لا يستعمل في تفويت الحياة على سبيل القربة و الذبح يستعمل في ذلك .
ألا ترى أنه لو نذر بقتل شاة لا يلزمه و لو نذر بذبحها لزمه و لو نذر بنحر نفسه لم يذكر في ظاهر الروايات .
و ذكر في نوادر هشام أنه على الاختلاف الذي ذكرنا و لو نذر بنحر ولد ولده ذكر في شرح الآثار أنه على الاختلاف و لو نذر بنحر والديه أو جده يصح نذره عند أبي حنيفة C و عند الباقين لا يصح .
و لو نذر بذبح عبده عند محمد يصح و عند الباقين لا يصح و إنما اختلف أبو حنيفة و محمد فيما بينهما مع اتفاقهما في الولد لاختلافهما في المعنى في الولد فالمعنى في الولد عند أبي حنيفة C هو أنه نذر بالتقرب إلى الله تعالى بذبح ما هو أعز الأشياء عنده و هذا المعنى يوجد في الوالدين و لا يوجد في العبد و عند محمد C المعنى في الولد أن النذر بذبحه تقرب إلى الله تعالى بما هو من مكاسبه و الولد في معنى المملوك له شرعا .
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ] و إن ولده من كسبه فعدي الحكم إلى المملوك حقيقة و هو العبد و إلى النفس و ولد ولده لكونهما في معنى المملوك له و لم يعد إلى الوالدين لانعدام هذا المعنى .
و على هذا القياس ينبغي أن يصح نذر الجد بذبح الحافد و عند محمد لا يصح و إذا أوجب على نفسه الهدي فهو بالخيار بين الأشياء الثلاثة إن شاء أهدى شاة و إن شاء بقرة و إن شاء إبلا و أفضلها أعظمها لأن اسم الهدي يقع على كل واحد منهم .
و لو أوجب على نفسه بدنة فهو بالخيار بين شيئين : الإبل و البقر و الإبل أفضل لأن اسم البدانة يقع على كل واحد منهما و لو أوجب جزورا فعليه الإبل خاصة لأن اسم الجزور يقع عليه خاصة و لا يجوز فيهما إلا ما يجوز في الأضاحي و هو الثني من الإبل و البقر و الجذع من الضأن إذا كان ضخما .
و لا يجوز ذبح الهدي الذي أوجب إلا في الحرم لقوله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } و لم يرد به نفس البيت بل البقعة التي هو فيها و هي الحرم لأن الدم لا يراق في البيت و المراد قوله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } نفس البيت لأنه هناك ذكر الطواف بالبيت و ههنا أضافه إلى البيت لذلك افترقا و لأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان الهدايا و مكان الهدايا هو الحرم و لا يحل له الانتفاع بها و لا بشيء منها إلا في حال الضرورة فإن اضطر إلى ركوبها ركبها و يضمن ما نقص ركوبه عليها و هذه من مسائل المناسك .
و لو أوجب على نفسه أن يهدي مالا بعينه فإن كان مما لا يحتمل الذبح يلزمه أن يتصدق به أو بقيمته على فقراء مكة و إن كان مما يذبح ذبحه في الحرم و تصدق بلحمه على فقراء مكة و لو تصدق به على فقراء الكوفة جاز كذا ذكر في الأصل .
و لو أوجب بدنة فذبحها في الحرم و تصدق على الفقراء جاز بالإجماع و لو ذبح في غير الحرم و تصدق باللحم على الفقراء جاز عن نذره في قول أبي حنيفة و محمد رحمهما الله و عند أبي يوسف C لا يجوز .
و لو أوجب جزورا فله أن ينحره في الحل و الحرم و يتصدق بلحمه و هذه من مسائل الحج و لو قال ما أملك هدي أو قال ما أملك صدقة يمسك بعض ماله و يمضي الباقي لأنه أضاف الهدي و الصدقة إلى جميع ما يملكه فيتناول كل جنس من جنس أمواله و يتناول القليل و الكثير إلا أنه يمسك بعضه لأنه لو تصدق بالكل لاحتاج إلى أن يتصدق عليه فيتضرر بذلك .
و قد قال عليه الصلاة و السلام : [ ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] فكان له أن يمسك مقدار ما يعلم أنه يكفيه إلى أن يكتسب فإذا اكتسب مالا تصدق بمثله لأنه انتفع به مع كونه واجب الإخراج عن ملكه لجهة الصدقة فكان عليه عوض كمن أنفق ماله بعد وجوب الزكاة عليه .
و لو قال : مالي صدقة فهذا على الأموال التي فيها الزكاة من الذهب وا لفضة و عروض التجارة و السوائم و لا يدخل فيه ما لا زكاة فيه فلا يلزم أن يتصدق بدور السكنى و ثياب البدن و الأثاث و العروض التي لا يقصد بها التجارة و العوامل و أرض الخراج لأنه لا زكاة فيها و لا فرق بين مقدار النصاب و ما دونه لأنه مال الزكاة .
ألا ترى أنه إذا انضم إليه غيره تجب فيه الزكاة و يعتبر فيه الجنس لا القدر و لهذا قالوا إذا نذر أن يتصدق بماله و عليه دين محيط أنه يلزمه أن يتصدق به لأنه جنس مال تجب فيه الزكاة و إن لم تكن واجبة فإن قضى بماله و عليه دين محيط أن يلزمه أن يتصدق به لأنه جنس مال تجب فيه الزكاة و إن لم تكن واجبة فإن قضى دينه به لزمه التصدق بمثله لما ذكرنا فيما تقدم و هذا الذي ذكرنا استحسان و القياس أن يدخل فيه جميع الأموال كما في فصل الملك لأن المال اسم لما يتمول كما أن الملك اسم لما يملك فيتناول جميع الأموال كالملك .
وجه الاستحسان : أن النذر يعتبر بالأمر لأن الوجوب في الكل بإيجاب الله جل شأنه و إنما وجد من العبد مباشرة السبب الدال على إيجاب الله تعالى ثم الإيجاب المضاف إلى المال من الله تعالى في الأمر و هو الزكاة في قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } و قوله عز شأنه : { في أموالهم حق معلوم } و نحو ذلك تعلق بنوع دون نوع فكذا في النذر .
و قد قال أبو يوسف C : قياس قول أبي حنيفة إذا حلف لا يملك مالا و لا نية له و ليس له مال تجب فيه الزكاة يحنث لأن إطلاق اسم المال لا يتناول ذلك .
و قال أبو يوسف : و لا أحفظ عن أبي حنيفة إذا نوى بهذا النذر جميع ما يملك داره تدخل في نذره لأن اللفظ يحتمله و فيه تشديد على نفسه و قال أبو يوسف و يجب عليه أن يتصدق بما دون النصاب و لا أحفظه عن أبي حنيفة C و الوجه ما ذكرنا و إذا كانت له ثمرة عشرية أو غلة عشرية تصدق بها في قولهم لأن هذا مما يتعلق به حق الله تعالى و هو العشر .
و قال أبو حنيفة C تعالى : لا تدخل الأرض في النذر و قال أبو يوسف يتصدق بها لأبي يوسف أنها من جملة الأموال النامية التي يتعلق حق الله تعالى بها فتدخل في النذر و لأبي حنيفة Bه أن حق الله تعالى لا يتعلق بها و إنما يتعلق بالخارج منها فلا تدخل .
قال بشر عن أبي يوسف إذا جعل الرجل على نفسه أن يطعم عشرة مساكين و لم يسم فعليه ذلك فإن أطعم خمسة لم يجزه لأن النذر يعتبر بأصل الإيجاب و معلوم أن ما أوجبه ينبغي أن يكون لعدد من المساكين لا يجوز دفعه إلى بعضهم إلا على التفريق في الأيام فكذا النذر .
و لو قال لله علي أن أتصدق ببعض الدراهم على المساكين فتصدق بها على واحد أجزأه لأنه يجوز دفع الزكاة إلى مسكين واحد و إن كان المذكور فيها جميع المساكين لقول الله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } كذلك النذر .
و لو قال : لله علي أن أطعم هذا المسكين هذا الطعام بعينه فأعطى ذلك الطعام غيره أجزأه لأن الصدقة المتعلقة بمال متعين لا يتعين فيها المسكين لأنه لما عين المال صار هو المقصود فلا يعتبر تعيين الفقير و الأفضل أن يعطي الذي عينه .
و لو قال : لله علي إطعام عشرة مساكين و هو لا ينوي أن يطعم عشرة مساكين و إنما نوى أن يطعم واحدا ما يكفي عشرة أجزأه لأن الطعام اسم للمقدار فكأنه أوجب مقدار ما يطعم عشرة فيجوز أن يطعم بعضهم .
و لو قال : لله علي أن أتصدق بهذه الدراهم يوم يقدم فلان ثم قال إن كلمت فلانا فعلي أن أتصدق بهذه الدراهم فكلم فلانا و قدم فلان أجزأه أن يتصدق بتلك الدراهم عنهما جميعا و لا يلزمه غير ذلك و كذلك الصيام إذا سمى يوما بعينه لأنه علق وجوب شيء واحد بشرطين لكل واحد منهما بحياله فإن وجد الشرطان معا وجبت بالإيجابين جميعا لأن اجتماع سببين على حكم واحد جائز فإن وجدا على التعاقب وجب بالأول و لا يتعلق بالثاني حكم نظيره إذا قال لعبده إن دخل زيد هذه الدار فأنت حر ثم قال إن دخلها عمرو فأنت حر فإن دخلا معا عتق العبد بالإيجابين و إن دخلا على التعاقب عتق بالأول و لا يتعلق بالثاني حكم كذا هذا .
و لو قال : إن كلمت فلانا فعلي أن أتصدق بهذه الدراهم فكلم فلانا وجب عليه أن يتصدق بها لأنه أوجب على نفسه التصدق بها فيجب عليه ذلك فإن أعطى ذلك من كفارة يمينه أو من زكاة ماله فعليه لنذره مثل ما أعطى لأنه لما أعطى تعين الإخراج بجهة النذر و لم يتعين للإخراج بجهة الزكاة فإذا أخرجه بحق لم يتعين فيه صار مستهلكا له فيضمن مثله كما لو أنفقه بخلاف الفصل الأول لأن مثال الواجب تعين لكل واحد عن النذرين فجاز عنهما .
و لو قال : إن قدم فلان فلله علي أن أصوم يوم الخميس ثم صام يوم الخميس عن قضاء رمضان أو كفارة يمين أو تطوعا فقدم فلان يومئذ بعد ارتفاع النهار فعليه يوم مكانه لقدوم فلان لأنه وجب عليه صوم ذلك اليوم عن جهة النذر لوجود شرط وجوبه و هو قدوم فلان فيه فإذا صام عن غيره فقد منع وقوعه عن النذر فصار كأنه قدم بعدما أكل فيلزمه صوم يوم آخر مكانه لقدوم فلان و لو كان أراد بهذا القول اليمين لم يحنث في يمينه لوجود شرط البر و هو صوم اليوم الذي حلف على صومه و جهات الصوم لم تتناولها اليمين .
و لو كان قدم فلان بعد الظهر لم يكن عليه قضاؤه لأنه لما قدم بعد الظهر لم يجب الصوم عن النذر كما لو أنشأ النذر بعد الزوال فقال لله علي أن أصوم هذا اليوم فلا يجب قضاؤه و إن قدم فلان قبل الزوال في يوم قد أكل فيه فعليه أن يقضي لأن القدوم حصل في زمان يصح فيه ابتداء النذر فيه و إنما امتنع الصوم لوجود المنافي له و هو الأكل فلا يمنع صحة النذر كما لو أوجب ثم أكل .
و لو قال : لله علي أن أصوم الشهر الذي يقدم فيه فلان فقدم في رمضان فصامه في رمضان أجزأ عن رمضان و لا يلزمه صوم آخر بالنذر لأن شهر رمضان في حال الصحة و الإقامة يتعين لصومه لا يحتمل غيره فلم يتعلق بهذا النذر حكم و لا كفارة عليه إن كان أراد به اليمين لتحقق البر و هو الصوم و اليمين انعقدت على الصوم دون غيره و قد صام .
و لو قال : لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان شكرا لله تطوعا لقدومه و نوى به اليمين فصامه عن كفارة يمين ثم قدم فلان ذلك اليوم عند ارتفاع النهار فعليه قضاؤه و الكفارة .
أما القضاء فلأنه نذر أن يصوم ذلك اليوم للقدوم و ذلك اليوم غير معين لصوم الكفارة فإذا صام عن جهة يتعين الوقت لها لزمه القضاء .
و أما الكفارة : فلأنه لم يحلف على مطلق الصوم بل على أن يصوم عن القدوم فإذا صام عن غيره لم يوجد البر فيحنث و لو كان في رمضان فلا قضاء عليه و عليه الكفارة .
و أما وجوب الكفارة فلأن زمان رمضان يتعين لصوم رمضان فلا يصح إيجاب الصوم فيه لغيره .
و أما وجوب الكفارة فيه فلأنه لم يصم لما حلف عليه فلم يوجد البر و إن صامه ينوي الشكر على قدوم فلان و لا ينوي رمضان بر في يمينه و أجزأه عن رمضان .
أما الجواز عن رمضان فلأن صوم رمضان لا يعتبر فيه تعيين النية لكون الزمان متعينا له فوقع عنه .
و أما بره في يمينه فلأنه حلف على الصوم بجهة و قد قصد تلك الجهة إلا أنه وقع عن غيره حكما من غير قصد و لو قال لله علي أن أصوم هذا اليوم شهرا فإنه يصوم ذلك اليوم حتى يستكمل منه ثلاثين يوما فإنه تعذر حمله على ظاهره إذ اليوم الواحد لا يوجد سوى شهرا لأنه إذا مضى لا يعود ثانيا فيحمل على التزام صوم اليوم المسمى بذلك اليوم الذي هو فيه من الاثنين أو الخميس كلما تجدد إلى أن يستكمل شهرا ثلاثين يوما حملا للكلام على وجه الصحة .
و لو قال : لله علي أن أصوم هذا الشهر يوما نظر إلى ذلك الشهر أنه رجب أو شعبان أو غيره و يصير كأنه قال لله علي أن أصوم رجب أو شعبان في وقت من الأوقات إذ الشهر لا يوجد في يوم واحد فلا يمكن حمله على ظاهره و قد قصد تصحيح نذره فيحمل على وجه يصح و هو و هو حمل اليوم على الوقت و قد يذكر اليوم و يراد به مطلق الوقت قال الله تعالى : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } و قال تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره } و يقال في العرف يوما لنا و يوما علينا على إرادة مطلق الوقت .
و لو قال : لله علي أن أصوم هذا اليوم غدا فعليه أن يصوم اليوم الذي قال فيه هذا القول إن قال ذلك قبل الزوال و قبل أن يتناول ما ينقض صومه و يبطل قوله غدا لأنه ركب اسما على اسم لا بحرف النسق فبطل التركيب لأنه يكون إيجاب صوم هذا اليوم غدا و هذا اليوم لا يوجد في غد فلا يكون الغد ظرفا له بطل قوله غدا و بقي قوله لله علي أن أصوم هذا اليوم فينظر في ذلك اليوم فإن كان قابلا للإيجاب صح و إلا بطل بخلاف الفصل الأول لأن اليوم قد يعتد به عن مطلق الوقت .
و أما الغد فلا يصلح عبارة عن مطلق الوقت و لا يعبر به إلا عن عين الغد و لو قال لله علي أن أصوم غدا اليوم فعليه أن يصوم غدا و قوله اليوم حشو من كلامه لأنه أوجب على نفسه صوم الغد و ذلك صحيح و لم يصح قوله اليوم لأنه ركبه على الغد لا بحرف النسق فبطل لأن صوم غد لا يتصور وجوده في اليوم فلغى قوله اليوم و بقي قوله لله علي أن أصوم غدا .
و لو قال : لله علي صوم أمس غدا لم يلزمه شيء لأن أمس لا يمكن أن يصام فيه لأنه لا يعود ثانيا فبطل الالتزام فيه فلا يلزمه بقوله غدا لأنه لم يوجب صوم غد و إنما جعل الغد ظرفا للأمس و أنه لا يصح ظرفا له لم يلزمه شيء لأن أمس لا يمكن أن يصام فيه لأنه لا يعود ثانيا فبطل الالتزام فيه فلا يلزمه بقوله غدا لأنه لم يوجب صوم غد و إنما جعل الغد ظرفا للأمس و أنه لا يصح ظرفا له فلغت تسمية الغد أيضا و الأصل في هذا النوع أن اللفظ الثاني يبطل في الأحوال كلها لما ذكرنا و إذا بطل هذا ينظر إلى اللفظ الأول فإن صلح صح النذر به و إلا بطل .
و لو قال : لله علي صوم كذا كذا يوما و لا نية له فعليه صوم أحد عشر يوما لأنه جمع بين عددين مفردين مجملين لا بحرف النسق فانصرف إلى أقل عددين مفردين يجمع بينهما لا بحرف النسق و ذلك أحد عشر لأن الأقل متيقن به و الزيادة مشكوك فيها و إن نوى شيئا فهو على ما نوى يوما كان أو أكثر لأن حمل هذا اللفظ على التكرار جائز في اللغة يقال صوم يوم يوم و يراد به تكرار يوم و إذا جاز هذا فقد نوى ما يحتمله كلامه فعلمت نيته .
و لو قال : لله علي صوم كذا و كذا يوما فعليه صوم أحد و عشرين يوما إن لم يكن له نية لأنه جمع بين عددين مفردين على الإكمال بحرف النسق فحمل على أقل ذلك و أقله أحد و عشرون يوما و إن كانت له نية فهو على ما نوى واحدا أو أكثر لأن هذا مما يحتمل التكرار يقال صوم يوم يوم و يراد به تكرار يوم واحد .
و لو قال : لله علي صوم بضعة عشر يوما و لا نية له كان عليه صوم ثلاثة عشر يوما لأن البضع عند العرب عبارة عن ثلاثة فما فوقها إلى تمام العقد و هو عشرة و عشرون و ثلاثون و أربعون و نحو ذلك فإذا لم يكن له نية صرف إلى أقله و ذلك ثلاثة عشر إذ الأقل متيقن .
و لو قال : لله علي صوم سنين فهو على ثلاث سنين لأن الثلاث مستحقة هذا الاسم بيقين و لو قال السنين فهو على عشر سنين في قول أبي حنيفة Bه و عندهما إلى الأبد .
و لو قال : علي صوم الشهور فهو على عشرة أشهر عند أبي حنيفة C إذا لم يكن له نية و عندهما على اثني عشر شهرا و لو قال صوم شهر فهو على ثلاثة أشهر بلا خلاف و كذا هذا في الأيام و أياما منكرا و معرفا و عندهما المعرف يقع على الأيام السبعة و قد ذكرناه في كتاب الإيمان .
و لو قال : لله علي صوم جمع هذا الشهر فعليه صوم كل يوم جمعة في ذلك الشهر إذا لم يكن له نية لأن هذا اللفظ يراد به في ظاهر العادة عين يوم الجمعة و لو قال لله علي صوم أيام الجمعة فعليه صوم سبعة لأيام لأن أيام الجمعة سبعة في تعارف الناس .
و لو قال : لله علي صوم جمعة فإذا كانت له نية فهو على ما نوى إن نوى عين يوم جمعة أو نوى أيامها لأن ظاهر لفظه يحتمل كلاهما و إن لم يكن له نية فهو على أيامها لأنه يراد به في أغلب العادات أيامها و الله عز شأنه أعلم .
و لو نذر بقربة مقصودة من صلاة أو صوم فقال رجل آخر علي مثل ذلك يلزمه و كذا إذا قال علي المشي إلى بيت الله عز شأنه و كل مملوك لي حر و كل امرأة لي طالق إذا دخلت الدار فقال رجل آخر علي مثل ذلك إن دخلت الدار ثم دخل الثاني الدار فإنه يلزمه المشي و لا يلزمه العتاق و الطلاق .
ثم قال : ألا ترى أنه لو قال على طلاق امرأتي فإن الطلاق لا يقع عليها و هذا يدل على أن من قال الطلاق علي واجب أنه لا يقع طلاقه قال القدوري C و كان أصحابنا بالعراق يقولون فيمن قال الطلاق لي لازم يقع الطلاق لعرف الناس أنهم يريدون به الطلاق و كان محمد بن سلمة يقول : إن الطلاق يقع بكل حال .
و حكى الفقيه أبو جعفر الهنداوي عن علي بن أحمد بن نصير بن يحيى عن محمد بن مقاتل رحمهم الله أنه قال : المسألة على الخلاف .
قال أبو حنيفة عليه الرحمة : إذا قال : الطلاق لي لازم أو علي واجب لم يقع و قال محمد يقع في قوله لازم و لا يقع في قوله واجب .
و حكى ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف في رجل قال ألزمت نفسي طلاق امرأتي هذه أو ألزمت نفسي عتق عبدي هذا قال إن نوى الطلاق و العتاق فهو واقع و إلا لم يلزمه و كذلك لو قال ألزمت نفسي طلاق امرأتي هذه إن دخلت الدار أو عتق عبدي هذا فدخل الدار وقع الطلاق و العتاق إن نوى ذلك و إن لم ينو فليس بشيء جعله بمنزلة كنايات الطلاق .
وجه قول محمد عليه الرحمة : إن الوقوع للعادة و العادة في اللزوم لأنهم يذكرونه على إرادة الإيقاع و لا عادة في الإيجاب فلا يقع شيء و لأبي يوسف C أن الظاهر الإلزام و الإيجاب للنذر و يحتمل أن يراد به التزام حكم الطلاق الواقع فيقف على النية كسائر كنايات الطلاق و لأبي حنيفة C أن الطلاق لا يحتمل الإيجاب و الإلزام لأنه ليس بقربة فبطل .
و روى ابن سماعة عن أبي يوسف : إذا قال رجل امرأة زيد طالق ثلاثا و رقيقه أحرارا و عليه المشي إلى بيت الله جل شأنه إن دخل هذه الدار فقال زيد : نعم كان كأنه قد حلف بذلك كله لأن نعم جواب لا يستقل بنفسه فيتضمن إضمار ما خرج جوابا له كما في قوله عز شأنه : { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم } تقديره نعم وجدنا ما وعدنا حقا و كالشهود إذا قرأوا على المشهود عليه كتاب الوثيقة فقالوا : نشهد عليك بما فيه فقال : نعم إن لهم أن يشهدوا لأن تقديره نعم اشهدوا علي بما في الكتاب و لو لم يكن قال : نعم و لكنه قال أجزت ذلك فهذا لم يخلف على شيء لأن قوله أجزت ليس بإيجاب و التزام فلا يلزمه شيء .
فإن قال : قد أجزت ذلك على إن دخلت الدار أو قال قد ألزمت نفسي ذلك إن دخلت الدار كان لازما له لأنه التزم ما قاله فلزمه و لو أن رجلا قال امرأة زيد طالق فقال زيد قد أجزت لزمه الطلاق .
و كذلك لو قال : قد رضيت ما قال أو ألزمته نفسي لأن هذا ليس بيمين بل هو إيقاع فيقف على الإجازة فأما اليمين فيحتاج إلى الالتزام ليجوز على الحالف و ينفذ عليه فلا بد من لفظ الالتزام .
و لو أن رجلا قال : إن بعت هذا المملوك من زيد فهو حر فقال زيد قد أجزت ذلك أو رضيت ذلك ثم اشتراه لم يعتق لأن الحالف أعتق عبده بشرط فوجد الشرط في غير ملكه فلم يحنث و لا يتعلق بالإجازة حكم لأن البائع لم يوقت اليمين و إنما حلف في ملك نفسه .
و لو كان البائع قال : إن اشترى زيد هذا العبد فهو حر فقال نعم ثم اشتراه عتق عليه لأن البائع لم يعقد اليمين في ملك نفسه و إنما أضافها إلى ملك المشتري فصار عاقد اليمين موقوفة و قد أجازها من وقفت عليه فتعلق الحكم بها .
و قال ابن سماعة عن أبي يوسف : لو أن رجلا طلق امرأته فقال آخر علي مثل ذلك فإن هذا لا يلزم الثاني و كذلك لو قال علي مثل هذا الطلاق لأن قوله علي مثل ذلك إيجاب الطلاق على نفسه و الطلاق لا يحتمل الإيجاب .
و لو حلف رجل بطلاق امرأته لا يدخل هذا الدار فقال آخر علي مثل ذلك إن دخلتها فإن دخلها الثاني لم يلزمه طلاق امرأته لأنه أوجب على نفسه الطلاق إن دخل الدار و الطلاق لا يحتمل الإيجاب و الإلزام لأنه ليس بقربة فإن أراد بهذا الإيجاب اليمين فليست بطلاق حتى تطلق فإن لم يفعل حتى مات أحدهما حنث لأن النذر إذا أريد به اليمين صار كأنه قال لا طلقتها و لو قال ذلك لا يحنث حتى يموت أحدهما كذا هذا .
و لو قال : عبدي هذا حر إن دخلت هذه الدار فقال آخر علي مثل ذلك إن دخلت هذه الدار فدخل الثاني لم يعتق عبده لأنه أوجب على نفسه بدخول الدار عتقا غير معين فكان له أن يخرج منه بشراء عبد يعتقه فلا يتعلق العتق بعبيده الموجودين لا محالة و إذا لم يتعلق بهم لا يلزمه عتق في ذمته لأنه لو لزمه لم يكن ذلك مثل ما فعله الحالف .
و لو أن رجلا قال : لله علي نسمة إن دخلت هذه الدار فقال آخر علي مثل ذلك إن دخلت فهذا لازم للأول و لازم للثاني أيهما دخل لزمه نسمة لأن الأول أوجب عتقا في ذمته و ذلك مما يجب بالنذر و إذا أوجب آخر مثله وجب عليه بخلاف الفصل الأول لأن ثمة ما أوجب العتق بل علق فلا يكون على الثاني إيجاب لأنه ليس بمثل .
و لو قال : كل مالي هدي و قال آخر و علي مثل ذلك فعليه أن يهدي جميع ماله سواء كان أقل من مال الأول أو أكثر إلا أن يعني مثل قدره فيلزمه مثل ذلك إن كان مال الثاني أكثر و إن كان مال الثاني أقل يلزمه في ذمته تمام مال الأول لأن مطلق الإيجاب يضاف إلى هدي جميع ماله كما أوجب الأول فإذا أراد القدر فقد نوى ما يحتمله الكلام فيحمل عليه .
فإن قال رجل كل مال أملك إلى سنة فهو هدي فقال آخر علي مثل ذلك لم يلزمه شيء لأن الثاني لم يضف الهدي إلى الملك فلا تثبت الإضافة بالإضمار و الله عز شأنه أعلم .
و منها أن يكون المنذور به إذا كان مالا مملوك الناذر وقت النذر أو كان النذر مضافا إلى الملك أو إلى سبب الملك حتى لو نذر بهدي ما لا يملكه أو بصدقة ما لا يملكه للحال لا يصح لقوله عليه الصلاة و السلام : [ لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم ] إلا إذا أضاف إلى الملك أو إلى سبب الملك بأن قال كل مال أملكه فيما استقبل هدي أو قال فهو صدقة أو قال كلما اشتريته أو أرثه فيصح عند أصحابنا خلافا للشافعي C .
و الصحيح قولنا لقوله عز و جل : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } إلى قوله تعالى : { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } دلت الآية الشريفة على صحة النذر المضاف لأن الناذر بنذره عاهد الله تعالى الوفاء بنذره و قد لزمه الوفاء بما عهد و المؤاخذة على ترك الوفاء به و لا يكون ذلك إلا في النذر الصحيح .
و منها أن لا يكون مفروضا و لا واجبا فلا يصح النذر بشيء من الفرائض سواء كان فرض عين كالصلوات الخمس و صوم رمضان أو فرض كفاية كالجهاد و صلاة الجنازة و لا بشيء من الواجبات سواء كان عينا كالوتر و صدقة الفطر و العمرة و الأضحية أو على سبيل الكفاية كتجهيز الموتى و غسلهم و رد السلام و نحو ذلك لأن إيجاب الواجب لا يتصور و أما الذي يرجع إلى نفس الركن فخلوه عن الاستثناء فإن دخله أبطله