ما يرجع إلى صفة الإطعام .
أما الذي يرجع إلى صفة الإطعام فقد قال أصحابنا : إنه يجوز فيه التمليك و هو طعام الإباحة و هو مروي عن سيدنا علي كرم الله وجهه و جماعة من التابعين مثل محمد بن كعب و القاسم و سالم و الشعبي و إبراهيم و قتادة و مالك و الثوري و الأوزاعي Bهم و قال الحكم و سعيد بن جبير لا يجوز إلا التمليك و به أخذ الشافعي C فالحاصل أن التمليك ليس بشرط لجواز الإطعام عندنا بل الشرط هو التمكين و إنما يجوز التمليك من حيث هو تمكين لا من حيث هو تمليك و عند الشافعي C التمليك شرط الجواز لا يجوز بدونه .
وجه قوله : أن التكفير مفروض فلا بد و أن يكون معلوم القدر ليتمكن المكلف من الإتيان به لئلا يكون تكليف ما لا يحتمله الوسع و طعام الإباحة ليس له قدر معلوم و كذا يختلف باختلاف حال المسكين من الصغر و الكبر و الجوع و الشبع يحققه أن المفروض هو المقدر إذ الفرض هو التقدير يقال فرض القاضي النفقة أي قدر قال الله سبحانه و تعالى : { فنصف ما فرضتم } أي قدرتم فطعام الإباحة ليس بمقدر و لأن المباح له يأكل على ملك المبيح فيهلك المأكول على ملكه و لا كفارة بما يهلك في ملك المكفر و بهذا شرط التمليك في الزكاة و العشر و صدقة الفطر .
و لنا : أن النص ورد بلفظ الإطعام قال الله عز شأنه : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } و الإطعام في متعارف اللغة اسم للتمكين من المطعم لا التمليك قال الله عز شأنه : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } و المراد بالإطعام الإباحة لا التمليك .
و قال النبي عليه الصلاة و السلام : [ أفشوا السلام و أطعموا الطعام ] و المراد منه الإطعام على وجه الإباحة و هو الأمر المتعارف بين الناس يقال : فلان يطعم الطعام أي يدعو الناس إلى طعامه .
و الدليل عليه قوله سبحانه و تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } و إنما يطعمون على سبيل الإباحة دون التمليك بل يخطر ببال أحد في ذلك التمليك فدل أن الإطعام هو التمكين من التطعم إلا أنه إذا ملك جاز لأن تحت التمليك تمكينا لأنه إذا ملكه فقد مكنه من التطعم و الأكل فيجوز من حيث هو تمكين و كذا إشارة النص دليل على ما قلنا لأنه قال إطعام عشرة مساكين و المسكنة هي الحاجة و اختصاص المسكين للحاجة إلى أكل الطعام دون تملكه تعم المسكين و غيره فكان في إضافة الإطعام إلى المساكين إشارة إلى أن الإطعام هو الفعل الذي يصير المسكين به متمكنا من التطعم لا التملك بخلاف الزكاة و صدقة الفطر و العشر أنه لا يجوز فيه طعام الإباحة لأن الشرع هناك لم يرد بلفظ الإطعام و إنما ورد بلفظ الإيتاء و الأداء قال الله تعالى في الزكاة : { وآتوا الزكاة } و قال تعالى في العشر : { وآتوا حقه يوم حصاده } .
و قال النبي صلى الله عليه و سلم في صدقة الفطر : [ أدوا عن كل حر و عبد ] الحديث و الإيتاء و الأداء يشعران بالتمليك على أن المراد من الإطعام المذكور في النص إن كان هو التمليك كان النص معلولا بدفع حاجة المسكين و هذا يقتضي جواز التمكين على طريق الإباحة بل أولى من وجهين .
أحدهما : أنه أقرب إلى دفع الجوع و سد المسكنة من التمليك لأنه لا يحصل معنى الدفع و السد بتمليك الحنطة إلا بعد طول المدة و إلا بعد تحمل مؤن فكان الإطعام على طريق الإباحة أقرب إلى حصول المقصود من التمليك فكان أحق بالجواز .
و الثاني : أن الكفارة جعلت مكفرة للسيئة بما أعطى نفسه من الشهوة التي لم يؤذن له فيها حيث لم يف بالعهد الذي عهد مع الله تعالى عز شأنه فخرج فعله مخرج ناقض العهد و مخلف الوعد فجعلت كفارته بما تنفر عنه الطباع و تتألم و يثقل عليها ليذوق ألم إخراج ماله المحبوب عن ملكه فيكفر ما أعطى نفسه من الشهوة لأنه من وجه أذن له فيها و معنى تألم الطبع فيما قلنا أكثر لأن دعاء المساكين و جمعهم على الطعام و خدمتهم و القيام بين أيديهم أشد على الطبع من التصدق عليهم ما جبل طبع الغنياء على النفرة من الفقراء و من الاختلاط معهم و التواضع لهم فكان هذا أقرب إلى تحقيق معنى التكفير فكان تجويز التمليك تكفيرا تجويزا لطعام الإباحة تكفيرا من طريق الأولى .
و أما قوله : إن الكفارة مفروضة فلا بد و أن تكون معلومة القدر فنقول : هي مقدرة بالكفارة لأن الله عز شأنه فرض هذا الإطعام و عرف المفروض بإطعام الأهل بقوله عز شأنه : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } فلا بد و أن يكون الأهل معلوما و المعلوم من طعام الأهل هو طعام الإباحة دون التمليك فدل على أن طعام الإباحة معلوم القدر و قدره الكفارة بطعام الأهل فجاز أن يكون مفروضا كطعام الأهل فيمكنه الخروج عن عهدة الفرض .
و أما قوله : إن الطعام يهلك على ملك المكفر فلا يقع عن التكفير فممنوع بل كما صار مأكولا فقد زال ملكه عنه إلا أنه يزول لا إلى أحد و هذا يكفي لصيرورته كفارة كالإعتاق .
و أما الذي يرجع إلى مقدار ما يطعم فالمقدار في التمليك هو نصف صاع من حنطة أو صاع من شعير أو صاع من تمر كذا روي عن سيدنا عمر و سيدتنا عائشة رضي الله تعالى عنهم .
و ذكر في الأصل بلغنا عن سيدنا عمر بن الخطاب Bه أنه قال ليرفأ مولاه : إني أحلف على قوم لا أعطيهم ثم يبدو لي فأعطيهم فإذ أنا فعلت ذلك فأطعم عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاعا من تمر و بلغنا عن سيدنا علي Bه أنه قال في كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين نصف صاع من حنطة و به قال جماعة من التابعين سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و إبراهيم و مجاهد و الحسن و هو قول أصحابنا Bهم .
و روي عن ابن عباس Bهما و ابن سيدنا عمر و زيد بن ثابت Bهم و من التابعين عطاء و غيره لكل مسكين مد من حنطة و به أخذ مالك و الشافعي رحمهما الله و الترجيح لقول سيدنا عمر و سيدنا علي و سيدتنا عائشة رضوان الله عليهم لقوله عز اسمه : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } و المد ليس من الأوسط بل أوسط طعام الأهل يزيد على المد في الغالب و لأن هذه صدقة مقدرة بقوت مسكين ليوم فلا تنقص عن نصف صاع كصدقة الفطر و الأذى فإن أعطى عشر مساكين كل مسكين مدا من حنطة فعليه أن يعيد عليهم مدا مدا فإن لم يقدر عليهم استقبل الطعام لأن المقدار أن لكل مسكين في التمليك مدا فلا يجوز أقل من ذلك و يجوز في التمليك الدقيق و السويق و يعتبر فيه تمام الكيل و لا يعتبر فيه القيمة كالحنطة لأنه حنطة إلا أنه فرقت أجزاؤها بالطحن و هذا التفريق تقريب إلى المقصود منها فلا تعتبر فيه القيمة و يعتبر في تمليك المنصوص عليه تمام الكيل و لا يقوم البعض مقام بعض باعتبار القيمة إذا كان أقل من كيله حتى لو أعطى نصف صاع من تمر تبلغ قيمته قيمة نصف صاع من حنطة لا يجوز لأنه منصوص عليه فيقع عن نفسه لا عن غيره فأما الأرز و الذرة و الجاورس فلا يقوم مقام الحنطة و الشعير في الكيل لأنه غير منصوص عليه و إنما جوازه باعتبار القيمة فتعبر قيمته كالدراهم و الدنانير و هذا عند أصحابنا رحمهم الله .
و عند الشافعي C : لا يجوز إلا إذا عين المنصوص عليه و لا يجوز دفع القيم و الأبدال كما في الزكاة و عندنا : يجوز .
وجه قوله : أن الله تعالى أمر بالإطعام بقوله جل شأنه : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } فالقول بجواز أداء القيمة يكون تغييرا لحكم النص و هذا لا يجوز .
و لنا : ما ذكرنا أن إطعام المسكين اسم لفعل يتمكن المسكين به من التطعم في متعارف اللغة لما ذكرنا فيما تقدم و هذا تحصيل بتمليك القيمة فكان تمليك القيمة من الفقير إطعاما له فيتناول النص و جواز التمليك من حيث هو تمكين لا من حيث هو تمليك على ما مر أن الإطعام إن كان اسما للتمليك فجوازه معلول بدفع الحاجة و هو المسألة عرفنا ذلك بإشارة النص و ضرب من الاستنباط على ما بينا و القيمة في دفع الحاجة مثل الطعام فورود الشرع بجواز الطعام يكون ورودا بجواز القيمة بل أولى لأن تمليك الثمن أقرب إلى قضاء حاجة المسكين من تمليك عين الطعام لأن به يتوصل إلى ما يختاره من الغذاء الذي اعتاد الاغتذاء به فكان أقرب إلى قضاء حاجته فكان أولى بالجواز و لما ذكرنا أن التكفير بالإطعام يحمل مكروه الطبع بإزاء ما نال من الشهوة و ذلك المعنى يحصل بدفع القيمة و لأن الكفارة جعلت حقا للمسكين فمتى أخرج من عليه الطعام إلى المستحق بدله و قبله المستحق عن طوع فقد استبدل حقه به فيجب القول بجواز هذا الاستبدال بمنزلة التناول في سائر الحقوق