فصل : في بيان مقدار ما يصير به المحل نجسا .
و أما بيان المقدار الذي يصير به المحل نجسا شرعا فالنجس لا يخلو إما أن يقع في المائعات كالماء و الخل و نحوهما و إما أن يصيب الثوب و البدن و مكان الصلاة فإن وقع في الماء فإن كان جاريا فإن كان النجس غير مرئي كالبول و الخمر و نحوهما لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه و يتوضأ منه من أي موضع كان من الجانب الذي وقع فيه النجس أو من جانب آخر كذا ذكره محمد في كتاب الأشربة : لو أن رجل صب خابية من الخمر في الفرات و رجل آخر أسفل منه يتوضأ به إن تغير لونه أو طعمه أو ربحه .
لا يجوز لأن لم يتغير يجوز و عن أبي حنيفة في الجاهل بال في الماء الجاري و رجل أسفل منه يتوضأ به ؟ قال : لا بأس به .
و هذا لأن الماء الجاري مما لا يخلص بعضه إلى بعض فالماء الذي يتوضأ به يحتمل أنه نجس و يحتمل أنه طاهر .
و الماء طاهر في الأصل فلا نحكم بنجاسته بالشك .
و إن كانت النجاسة مرئية كالجيفة و نحوها فإن كان جميع الماء يجري على الجيفة لا يجوز التوضؤ من أسفل الجيفة لأنه نجس بيقين و النجس لا يطهر بالجريان و إن كان أكثره يجري على الجيفة فكذلك لأن العبرة للغالب و إن كان أقله يجري على الجيفة و الأكثر يجري على الطاهر يجوز التوضأ به من أسفل الجيفة لأن المغلوب ملحق بالعدم في أحكام الشرع وإن كان يجري عليها النصف أو دون النصف فالقياس أن يجوز التوضؤ به لأن الماء كان طاهرا بيقين فلا يحكم بكونه نجسا بالشك و في الاستحسان : لا يجوز احتياطا .
و على هذا إذا كان النجس عند الميزاب و الماء يجري عليه فهو على التفصيل الذي ذكرنا و إن كانت الأنجاس متفرقة على السطح ولم تكن عند الميزاب ذكر عيسى بن أبان أنه لا يصير نجسا ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه و حكمه حكم الماء الجاري .
و قال محمد : إن كانت النجاسة في جانب من السطح أو جانبين منه لا ينجس الماء و يجوز التوضؤ به و إن كانت في ثلاثة جوانب ينجس اعتبارا للغالب و عن محمد في ماء المطر إذا مر بعذرات ثم استنقع في موضع فخاض فيه إنسان ثم دخل المسجد فصلى لا بأس به و هو محمول على ما إذا مر أكثره على الطاهر .
و اختلف المشايخ في حد الجريان .
قال بعضهم : هو أن يجري بالتبن و الورق و قال بعضهم إن كان بحيث لو وضع رجل يده في الماء عرضا لم ينقطع جريانه فهو جار و إلا فلا .
و روي عن أبي يوسف إن كان بحال لو اغترف إنسان الماء بكفيه لم ينحسر وجه الأرض بالاغتراف فهو جار و إلا فلا و قيل : ما يعده الناس جاريا فهو جار و ما لا فلا و هو أصح الأقاويل .
و إن كان راكدا فقد اختلف فيه .
قال أصحاب الظواهر : إن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه أصلا سواء كان جاريا أو راكدا و سواء كان قليلا أو كثيرا تغير لونه أو طعمه أو ريحه أو لم يتغير .
و قال عامة العلماء : إن كان قليلا ينجس و إن كان كثيرا لا ينجس لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بين القليل و الكثير .
قال مالك : إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل و إن لم يتغير فهو كثير .
و قال الشافعي : إذا بلغ الماء قلتين فهو كثير و القلتان عنده خمس قرب كل قربة خمسون منا فيكون جملته مائتين وخمسين منا .
و قال أصحابنا : إن كان بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل و إن كان لا يخلص فهو كثير .
فأما أصحاب الظواهر فاحتجوا بظاهر قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الماء طهور لا ينجسه شيء ] .
و احتج مالك بقوله صلى الله عليه و سلم : [ خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ] و هو تمام الحديث أو بنى العام على الخاص عملا بالدليلين .
و احتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثا ] أي يدفع الخبث عن نفسه .
قال الشافعي : قال ابن جريج : أراد بالقلتين قلال هجر كل قربه يسع فيها قربتان و شيء .
قال الشافعي : و هو شيء مجهول فقدرته بالنصف احتياطا و لنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده ] و لو كان .
الماء لا ينجس بالغمس لم يكن للنهي و الاحتياط لوهم النجاسة معنى و كذا الأخبار مستفيضة بالأمر يغسل الإناء من ولوغ الكلب مع أنه لا يغير لونه و لا طعمه و لا ريحه .
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ لا يبولن أحدكم في الماء الدائم و لا يغتسلن فيه من جنابة ] من غير .
فصل بين دائم و غير دائم و هذا نهي عن تنجيس الماء لأن البول و الاغتسال فيما لا يتنجس لكثرته ليس بمنهى فدل على كون الماء الدائم مطلقا محتملا للنجاسة إذ النهي عن تنجيس ما لا يحتمل النجاسة ضرب من السفه و كذا الماء الذي يمكن الاغتسال فيه يكون أكثر من قلتين و البول و الاغتسال فيه لا يغير لونه و لا طعمه و لا ريحه .
و عن ابن عباس و عن ابن الزبير : أنهما أمرا في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح ماء البئر كله ولم يظهر أثره في الماء و كان الماء أكثر من قلتين و ذلك بمحضر من الصحابة Bهم ولم ينكر عليهما أحد فانعقد الإجماع من الصحابة على ما قلنا و عرف بهذا الإجماع أن المراد بما رواه مالك هو الماء الكثير الجاري و به تبين أن ما رواه الشافعي غير ثابت لكونه مخالفا لإجماع الصحابة Bهم و خبر الواحد إذا ورد مخالفا للأجماع يرد يدل عليه أن علي بن المديني قال : لا يثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم و ذكر أبو داود السجستاني و قال : لا يكاد يصح لواحد من الفريقين حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم في تقدير الماء .
و لهذا رجع أصحابنا في التقدير إلى الدلائل الحسية دون الدلائل السمعية ثم اختلفوا في تفسير الخلوص فاتفقت الروايات عن أنه بنا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك و هو إنه إن كان بحال لو حرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص و إن كان لا يتحرك فهو مما لا يخلص و إنما اختلفوا فى جهة التحريك فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف .
و روى محمد عنه أنه يعتبر التحريك بالوضوء و في رواية باليد من غير اغتسال و لا وضوء .
و اختلف المشايخ : و الشيخ أبو حفص الكبير البخاري اعتبر الخلوص بالصبغ و أبو نصر محمد بن أحمد بن سلام اعتبره بالتكدير و أبو سليمان الجوزجاني اعتبره بالمساحة فقال : إن كان عشرا في عشر فهو مما لا يخلص و إن كان دونه فهو مما يخلص و عبد الله بن المبارك : اعتبره بالعشرة أولا ثم بخمسة عشر و إليه ذهب أبو مطيع البلخي فقال : إن كان خمسة عشر في خمسة عشر أرجو أن يجوز و إن كان عشرين في عشرين لا أجد في قلبي شيئا .
و روي عن محمد أنه قدره بمسجده فكان مسجده ثمانيا في ثمان و به أخذ محمد بن سلمة .
و قيل : كان مسجده عشرا في عشر و قيل : مسح مسجده فوجد داخله ثمانيا في ثمان و خارجه عشرا في عشر .
و ذكر الكرخي و قال : لا عبرة للتقدير في الباب و إنما المعتبر هو التحري فإن كان أكبر رأيه أن النجاسة خلصت إلى هذا الموضع الذي يتوضأ منه لا يجوز و إن كان أكبر رأيه أنها لم تصل إليه يجوز لأن العمل بغالب الرأي و أكبر الظن في الأحكام واجب .
ألا يرى أن خبر الواحد العدل يقبل في نجاسة الماء و طهارته و إن كان لا يفيد برد اليقين وكذلك قال أصحابنا في الغدير العظيم الذي لو حرك طرف منه لا يتحرك الطرف الآخر إذا وقعت فيه النجاسة أنه إن كان في غالب الرأي أنها وصلت إلى الموضع الذي يتوضأ منه لا يجوز و إن كان فيه أنها لم تصل يجوز .
و ذكر في كتاب الصلاة : في الميزاب إذا سأل على إنسان إنه إن كان غالب ظنه أنه نجس يجب غسله و إلا فلا و إن لم يستقر قلبه على شي لا يجب غسله في الحكم و لكن المستحب أن يغسل .
و أما حوض الحمام الذي يخلص بعضه إلى بعض إذا وقعت فيه النجاسة أو توضأ إنسان روي عن أبي يوسف أنه إن كان الماء يجري من الميزاب و الناس يغترفون منه لا يصير نجسا .
و هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة لأنه بمنزلة الماء الجاري و لو تنجس الحوض الصغير بوقوع النجاسة فيه ثم بسط ماؤه حتى صار لا يخلص بعضه إلى بعض فهو نجس لأن المبسوط هو الماء النجس و قيل في الحوض الكبير وقعت فيه النجاسة ثم قل ماؤه حتى صار يخلص بعضه إلى بعض أنه طاهر لأن المجتمع هو الماء الطاهر هكذا ذكره أبو بكر الإسكات و اعتبر حالة الوقوع و لو وقع في هذا القليل .
نجاسة ثم عاوده الماء حتى امتلأت الحوض ولم يخرج منه شيء قال أبو القاسم الصفار : لا يجوز التوضؤ به لأنه كلما دخل الماء فيه صار نجسا و لو أن حوضين صغيرين يخرج الماء من أحدهما و يدخل في الآخر فتوضأ منه إنسان في خلال ذلك جاز لأنه ماء جار .
حوض حكم بنجاسته ثم نضب ماؤه و جف أسفله حتى حكم بطهارته ثم دخل فيه الماء ثانيا هل يعود نجسا فيه روايتان عن أبي حنيفة و كذا الأرض إذا أصابتها النجاسة فجفت و ذهب أثرها ثم عاودها الماء .
و كذا المني إذا أصاب الثوب فجف و فرك ثم أصابه بلل و كذا جلد الميتة إذا دبغ دباغة حكمية بالتشميس و التتريب ثم أصابه الماء ففي هذه المسائل كلها روايتان عن أبي حنيفة .
و أما البئر إذا تنجست فغار ماؤها وجف أسفلها ثم عاودها الماء فقال نصير بن يحيى : هو طاهر و قال محمد بن سلمة : هو نجس و كذا روي عن أبي يوسف .
وجه قول نصير : أن تحت الأرض ماء جار فيختلط الغائر به فلا يحكم بكون الغائر نجسا بالشك .
وجه قول محمد بن سلمة : أن ما نبع يحتمل أنه ماء جديد و يحتمل أنه الماء النجس فلا يحكم بطهارته بالشك و هذا القول أحوط و الأول أوسع هذا إذا كان الماء الراكد له طول و عرض فإن كان له طول بلا عرض كالأنهار التي فيها مياه راكدة لم يذكر في ظاهر الرواية .
و عن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام أنه قال : إن كان طول الماء مما لا يخلص بعضه إلى بعض يجوز التوضؤ به وكان يتوضأ في نهر بلخ و يحرك الماء بيده و يقول : لا فرق بين إجرائي إياه و بين جريانه بنفسه فعلى قوله : لو وقعت فيه نجاسة لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه و عن أبي سليمان الجوزجاني أنه قال : لا يجوز التوضؤ فيه .
و على قوله لو وقعت فيه نجاسة أو بال فيه إنسان أو توضأ إن كان في أحد الطرفين ينجس مقدار عشرة أذرع و إن كان في وسطه ينجس من كل جانب مقدار عشرة أذرع فما ذهب إليه أبو نصر أقرب إلى الحكم لأن اعتبار العرض يوجب التنجيس و اعتبار الطول لا يوجب فلا ينجس بالشك و ما قاله أبو سليمان أقرب إلى الاحتياط لأن اعتبار الطول إن كان لا يوجب التنجيس فاعتبار العرض يوجب فيحكم بالنجاسة احتياطا .
و أما العمق فهل يشترط مع الطول و العرض ؟ .
عن أبي سليمان الجوزجاني : أنه قال : إن أصحابنا اعتبروا البسط دون العمق .
و عن الفقيه أبي جعفر الهندواني : إن كان بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه انحسر أسفله ثم اتصل لا يتوضأ به و إن كان بحال لا ينحسر ما تحته لا بأس بالوضوء منه .
و قيل : مقدار العمق أن يكون زيادة على عرض الدرهم الكبير المثقال و قيل : أن يكون قدر شبر و قيل : قدر ذراع