حكم بيع الثمر .
و من مشايخنا من قال : لا يجوز إلا إذا صار بحال ينتفع به بوجه من الوجوه فإن كان بحيث لا ينتفع به أصلا لا ينعقد .
و احتجوا بما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها ] و لأنه إذا لم يبد صلاحها لم تكن منتفعا بها فلا تكون مالا فلا يجوز بيعها و هذا خلاف الرواية فإن محمدا ذكر في كتاب الزكاة في باب العشر أنه لو باع الثمار في أول ما تطلع و تركها بأمر البائع حتى أدركت فالعشر على المشتري و لو لم يجز بيعها حين ما طلعت لما وجب عشرها على المشتري .
و الدليل على جواز بيعه ما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من باع نخلا مؤبرة فثمرته للبائع ] إلا أن يشترطها المبتاع جعل الثمرة للمشتري بالشرط من غير فصل بين ما إذا بدا صلاحها أو لا دل أنها محل البيع كيف ما كان و المعنى فيه و هو أنه باع ثمرة موجودة و هي بعرض أن تصير منتفعا بها في الثاني و إن لم يكن منتفعا بها في الحال فيجوز بيعها كبيع جرو الكلب على أصلنا و بيع المهر و الجحش و الأرض السبخة و النهي محمول على بيع الثمار مدركة قبل إدراكها بأن باعها ثمرا و هي بسر أو باعها عنبا و هي حصرم دليل صحة هذا التأويل .
[ قوله عليه السلام في سياق الحديث : أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال صاحبه ] و لفظة المنع تقتضي أن لا يكون ما وقع عليه البيع موجودا لأن المنع منع الوجود و ما يوجد من الزرع بعضه بعد بعض كالبطيخ و الباذنجان فيجوز بيع ما ظهر منه و لا يجوز بيع ما لم يظهر و هذا قول عامة العلماء Bهم .
و قال مالك C : إذا ظهر فيه الخارج الأول يجوز بيعه لأن فيه ضرورة لأنه لا يظهر الكل دفعة واحدة بل على التعاقب بعضها بعد بعض فلو لم يجز بيع الكل عند ظهور البعض لوقع الناس في الحرج .
و لنا : أن ما لم يظهر منه معدوم فلا يحتمل فلا يحتمل البيع و دعوى الضرورة و الحرج ممنوعة فإنه يمكنه أن يبيع الأصل بما فيه من الثمر و ما يحدث منه بعد ذلك يكون ملك المشتري .
و قد [ روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : نهى عن بيع الحبل و حبل الحبل ] و روي حبل الحبلة و هو بمعنى الأول و إنما زيادة الهاء للتأكيد و المبالغة و روى حبل الحبلة بحفظ الهاء من الكلمة الأخيرة و الحبلة هي الحبلى فكان نهيا عن بيع ولد الحبلى .
و [ روي عنه عليه الصلاة و السلام : أنه : نهى عن بيع اللبن في الضرع و بيع عسب الفحل ] لأن عسب الفحل ضرابه و هو عند العقد معدوم و قد روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن عسب الفحل و لا يمكن حمل النهي على نفس العسب و هو الضراب لأن ذلك جائز بالإعارة فيحمل على البيع و الإجارة إلا أنه حذف ذلك و أضمره فيه كما في قوله تعالى : { واسأل القرية } و غير ذلك و لا يجوز بيع الدقيق في الحنطة و الزيت في الزيتون و الدهن في السمسم و العصير في العنب و السمن في اللبن .
و يجوز بيع الحنطة و سائر الحبوب في سنابلها لأن بيع الدقيق في الحنطة و الزيت في الزيتون و نحو ذلك بيع المعدوم لأنه لا دقيق في الحنطة و لا زيت في الزيتون لأن الحنطة اسم للمركب و الدقيق اسم للمتفرق فلا دقيق في حال كونه حنطة و لا زيت حال كونه زيتونا فكان هذا البيع المعدوم فلا ينعقد بخلاف بيع الحنطة في سنابلها لأن ما في السنبل حنطة إذ هي اسم للمركب و هي في سنابلها على تركيبها فكان بيع الموجود حتى لو باع تبن الحنطة في سنابلها دون الحنطة لا ينعقد لأنه لا يصر تبنا إلا بالعلاج و هو الدق فلم يكن تبنا قبله فكان بيع المعدوم فلا ينعقد و بخلاف بيع الجذع في السقف و الآجر في الحائط و ذراع من كرباس أو ديباج أنه ينعقد حتى لو نزع و قطع و سلم إلى المشتري يجبر على الأخذ و ههنا لا ينعقد أصلا حتى لو طحن أو عصر و سلم لا يبجر المشتري على القبول لأن عدم النفاذ هناك ليس لخلل في الركن و لا في العاقد و المعقود عليه بل لمضرة تلحق العاقد بالنزع و القطع فإذا نزع و قطع فقد زال المانع فنفذ أما ههنا فالمعقود عليه معدوم حالة العقد و لا يتصور انعقاد العقد بدونه فلم ينعقد أصلا فلا يحتمل النفاذ فهو الفرق .
و كذا بيع البزر في البطيخ غير صحيح لأنه بمنزلة الزيت في الزيتون و بيع النوى في التمر و كذلك بيع اللحم في الشاة الحية لأنها تصير لحما بالذبح و السلخ فكان بيع المعدوم فلا ينعقد .
و كذا بيع الشحم الذي فيها و إليتها و أكارعها و رأسها لما قلنا و كذا بيع البحير في السمسم لأنه إنما يصير بحيرا بعد العصر .
و على هذا يخرج ما إذا قال بعتك هذا الياقوت بكذا فإذا هو زجاج أو قال بعتك هذا الفص على أنه ياقوت بكذا فإذا هو زجاج أو قال بعتك بعتك هذا الثوب الهروي بكذا فإذا هو مروي أو قال بعتك هذا الثوب على أنه مروي فإذا هو هروي لا ينعقد البيع في هذه المواضع لأن المبيع معدوم .
و الأصل في هذا أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا في باب البيع فيما يصلح محل البيع ينظر إن كان المشار إليه من خلاف الجنس المسمى فالعبرة للتسمية و يتعلق العقد بالمسمى و إن كان من جنسه لكن يخالفه في الصفة فإن تفاحش التفاوت بينهما فالعبرة للتسمية أيضا عندنا و يلحقان بمختلفي بمختلفي الجنس و إن قل التفاوت فالعبرة للمشار إليه و يتعلق العقد به .
و إذا عرف هذا فنقول الياقوت مع الزجاج جنسان مختلفان و كذا الهروي مع المروي نوعان مختلفان فيتعلق العقد فيه بالمسمى و هو معدوم فيبطل و لا ينعقد و لو قال : بعتك هذا العبد فإذا هو جارية لا ينعقد عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله و عند زفر C يجوز .
وجه قوله : أن المسمى ههنا من جنس المشار إليه أعني العبد و الجارية و إنما يختلفان في صفة الذكورة و الأنوثة و هذا لا يمنع تعلق العقد بالمشار إليه كما إذا قال بعتك هذه الشاة على أنها نعجة فإذا هي كبش .
و لنا : أنهما جنسان مختلفان في المعنى لاختلاف جنس المنفعة المطلوبة اختلافا فاحشا فالتحقا بمختلفي الجنس حقيقة بخلاف النعجة مع الكبش لأنهما اتفقا جنسا ذاتا و معنى أما ذاتا فظاهر لأن اسم الشاة يتناولهما .
و أما معنى فلأن المطلوب من كل واحد منهما منفعة الأكل فتجانسا ذاتا و منفعة فتعلق العقد بالمشار إليه و هو موجود محل للبيع و لكن المشتري بالخيار لأنه فاتته صفة مرغوبة فأوجب ذلك خللا في الرضا فيثبت له الخيار و كذا لو باع دارا على أن بناءها آجر فإذا هو لبن لا ينعقد لأنهما يتفاوتان في المنفعة تفاوتا فاحشا فكانا كالجنسين المختلفين