البئر التي تكون في المصر .
و أما الآبار التي في المصر فاختلف فيها المشايخ فمن اعتمد معنى الصلابة و الرخاوة لا يفرق لأن ذلك المعنى لا يختلف و من اعتبر الضرورة فرق بينهما لأن آبار الأمصار لها رؤوس حاجزة فيقع الأمن عن الوقوع فيها و لو انفصلت بيضة من دجاجة فوقعت في البئر من ساعتها اختلف المشايخ فيه .
قال نصير بن يحيى : ينتفع بالماء ما لم يعلم أن عليها قذرا .
و قال بعضهم : إن كانت رطبة أفسدت و إن كانت يابسة فوقعت في الماء أو في المرقة لا تفسدهما و هي حلال اشتد قشرها أو لم يشتد .
و عند الشافعي : إن اشتد قشرها تحل و إلا فلا و لو سقطت السخلة من أمها و هي مبتلة فهي نجسة حتى لو حملها الراعي فأصاب بللها الثوب أكثر من قدر الدرهم منع جواز الصلاة و لو وقعت في الماء في ذلك الوقت أفسدت الماء و إذا يبست فقد طهرت .
و ذكر الفقيه أبو جعفر : أن هذا الجواب موافق قولهما فأما في قياس قول أبي حنيفة فالبيضة طاهرة رطبة كانت أو يابسة و كذا السخلة لأنها كانت في مكانها و معدنها كما قال في الأنفحة إذا خرجت بعد الموت أنها طاهرة جامدة كانت أو مانعة و عندهما إن كانت مائعة فنجسة و إن كانت جامدة تطهر بالغسل .
و لو وقع عظم الميتة في البئر فإن كان عظم الخنزير أفسده كيفما كان و أما عظم غيره فإن كان عليه لحم أو دسم يفسد الماء لأن النجاسة تشيع في الماء و إن لم يكن عليه شيء لم يفسد لأن العظم طاهر .
بئر وجب منها نزح عشرين دلوا فنزح الدلو الأول وصب في بئر طاهرة بنزح منها عشرون دلوا و الأصل في هذا أن البئر الثانية تطهر بما تطهر به الأولى حين كان الدلو المصبوب فيها و لو صب الدلو الثاني ينزح تسعة عشر دلوا و لو صب الدلو العاشر في رواية أبي سليمان ينزح عشرة دلاء و في رواية .
أبي حفص أحد عشر دلوا و هو الأصح و التوفيق بين الروايتين أن المراد من الأولى سوى المصبوب و من الثانية مع المصبوب و لو صب الدلو الأخير ينزح دلوا واحدا لأن طهارة الأولى به و لو أخرجت الفأرة و ألقيت في بئر طاهرة و صب فيها أيضا عشرون دلوا من ماء الأولى تطرح الفأرة و ينزح عشرون دلوا لأن طهارة الأولى به فكذا الثانية .
بئران وجب من كل واحدة منهما نزح عشرين فنزح عشرون من أحدهما و صب في الأخرى ينزح عشرون و لو وجب من إحداهما نزح عشرين و من الأخرى نزح أربععين فنزح ما وجب من إحداهما وصب في الأخرى ينزح أربعون و الأصل فيه أن ينظر إلى ما وجب من النزح منها و إلى ما صب فيها فإن كانا سواء تداخلا و إن كان أحدهما أكثر دخل القليل في الكثير .
و على هذا ثلاثة آبار وجب من كل واحدة نزح عشرين فنزح الواجب من البئرين و صب في الثالثة ينزح أربعون فلو وجب من إحداهما نزح عشرين و من الأخرى نزح أربعين فصب الواجبان في بئر طاهرة ينزح أربعون لما قلنا من الأصل و لو نزح دلو من الأربعين و صب في العشرين ينزح أربعون لأنه لو صب في بئر طاهرة نزح كذلك فكذا هذا و هذا كله قول محمد .
و عن أبي يوسف روايتان في رواية ينزح جميع الماء .
و في رواية : ينزح الواجب و المصبوب جميعا فقيل له : إن محمدا روى عنك الأكثر فأنكر .
فأرة وقعت في حب ماء و ماتت فيها يهراق كله و لو صب ماؤه في بئر طاهرة فعند أبي يوسف ينزح المصبوب و عشرون دلوا .
و عند محمد : ينظر إلى ماء الحب فإن كان عشرين دلوا أو أكثر نزح ذلك القدر و إن كان أقل من عشرين نزح عشرون لأن الحاصل في البئر نجاسة الفأرة .
فأرة ماتت في البئر و أخرجت فجاؤوا بدلو عظيم يسع عشرين دلوا بدلوهم فاستقوا منها دلوا واحدا أجزأهم و طهرت البئر لأن الماء النجس قدر ما جاور الفأرة فلا فرق بين أن ينزح ذلك بدلو واحد و بين أن ينزح بعشرين دلوا : و كان الحسن بن زياد : يقول : لا يطهر إلا بنزح عشرين دلوا لأن عند تكرار النزح ينبع الماء من أسفله و يؤخذ من أعلاه فيكون في حكم الماء الجاري و هذا لا يحصل بدلو واحد و إن كان عظيما .
و لو صب الماء المستعمل في البئر ينزح كله عند أبي يوسف لأنه نجس عنده و عند محمد ينزح .
عشرون دلوا كذا ذكره القدوري في شرح مختصر الكرخي و فيه نظر لأن الماء المستعمل طاهر عند محمد و الطاهر إذا اختلط بالطهور لا يغيره عن صفة الطهورية إلا إذا غلب عليه كسائر المائعات الطاهرة و يحتمل أن يقال : إن طهارته غير مقطوع بها لكونه محل الاجتهاد بخلاف المائعات فينزح أدنى ما ورد الشرع به و ذلك عشرون احتياطا و لو نزح ماء البئر و بقي الدلو الأخير فهذا على ثلاثة أوجه : إما إن لم ينفصل عن وجه الماء أو انفصل و نحي عن رأس البئر أو انفصل ولم ينح عن رأس البئر فإن لم ينفصل عن وجه الماء لا يحكم بطهارة البئر حتى لا يجوز التوضؤ منه لأن النجس لم يتميز من الطاهر و إن انفصل عن وجه الماء ونحي عن رأس البئر طهر لأن النجس قد تميز من الطاهر .
و أما إذا انفصل عن وجه الماء ولم ينح عن رأس البئر و الماء يتقاطر فيه لا يطهر عند أبي يوسف .
و عند محمد : يطهر ولم يذكر في ظاهر الرواية قول أبي حنيفة و ذكر الحاكم قوله مع قول .
أبي يوسف .
وجه قول محمد أن النجس انفصل من الطاهر فإن الدلو الأخير تعين للنجاسة شرعا بدليل أنه إذا نحى عن رأس البئر يبقى الماء طاهرا و ما يتقاطر فيها من الدلو سقط اعتبار نجاسته شرعا دفعا للحرج إذ لو أعطى للقطرات حكم النجاسة لم يطهر بئر أبدا و بالناس حاجة إلى الحكم بطهارة الآبار بعد وقوع النجاسات فيها .
وجه قولهما : أنه لا يمكن الحكم بطهارة البئر إلا بعد انفصال النجس عنها وهو ماء الدلو الأخير و لا يتحقق الانفصال إلا بعد تنحية الدلو عن البئر لأن ماءه متصل بماء البئر ولم يوجد فلا يحكم بطهارة البئر و لأنه لو جعل منفصلا لا يمكن القول بطهارة البئر لأن القطرات تقطر في البئر فإذا كان منفصلا كان له حكم النجاسة فتنجس البئر ثانيا لأن ماء البئر قليل و النجاسة و إن قلت متى لاقت ماء قليلا تنجسه فكان .
هذا تطهيرا للبئر أولا ثم تنجيسا له ثانيا و إنه اشتغال بما لا يفيد و سقوط اعتبار نجاسة القطرات لا يجوز إلا لضرورة و الضرورة تندفع بأن يعطى لهذا الدلو حكم الانفصال بعد انعدام التقاطر بالتنحية عن رأس البئر فلا ضرورة إلى تنجيس البئر بعد الحكم بطهارتها .
ولو توضأ من بئر وصلى أياما ثم وجد فيها فأرة فان علم وقت وقوعها أعاد الصلاة من ذلك الوقت لأنه تبين أنه توضأ بماء نجس و إن لم يعلم فالقياس أن لا يعيد شيئا من الصلوات ما لم يستيقن بوقت وقوعها و هو قول أبي يوسف و محمد و في الاستحسان إن كانت منتفخة أو منفسخة أعاد صلاة ثلاثة أيام و لياليها و إن كانت غير منتفخة و لا منفسخة لم يذكر في ظاهر الرواية .
و روى الحسن عن أبي حنيفة : أنه يعيد صلاة يوم و ليلة و لو اطلع على نجاسة في ثوبه أكثر من قدر الدرهم ولم يتيقن وقت إصابتها لا يعيد شيئا من الصلاة كذا ذكر الحاكم الشهيد و هو رواية بشر المريسي عن أبي حنيفة و روي عن أبي حنيفة أنها إن كانت طرية يعيد صلاة يوم و ليلة و إن كانت يابسة يعيد صلاة ثلاثة أيام بلياليها .
و روى ابن رستم في نوادره عن أبي حنيفة أنه إن كان دما لا يعيد و إن كان منيا يعيد من آخر ما .
احتلم لأن دم غيره قد يصيبه و الظاهر أن الإصابة لم تتقدم زمان وجوده فأما مني غيره فلا يصيب ثوبه فالظاهر أنه منيه فيعتبر وجوده من وقت وجود سبب خروجه حتى أن الثوب لو كان مما يلبسه هو و غيره يستوي فيه حكم الدم و المني و مشايخنا قالوا في البول يعتبر من آخر ما بال و في الدم من آخر ما رعف و في المني من آخر ما احتلم أو جامع .
وجه القياس في المسألة : أنه تيقن طهارة الماء فيما مضى و شك في نجاسته لأنه يحتمل أنها وقعت في الماء و هي حية فماتت فيه و يحتمل أنها وقعت ميتة بأن ماتت في مكان آخر ثم ألقاها بعض الطيور في البئر على ما حكي عن أبي يوسف أنه قال كان قولي مثل قول أبي حنيفة إلى أن كنت يوما جالسا في بستاني فرأيت حدأة في منقارها جيفة فطرحتها في بئر فرجعت عن قول أبي حنيفة فوقع الشك في نجاسة الماء فيما مض فلا يحكم بنجاسته بالشك و صار كما إذا رأى في ثوبه نجاسة و لا يعلم وقت إصابتها أنه لا .
يعيد شيئا من الصلوات كذا هذا .
وجه الاستحسان أن وقوع الفأرة في البئر سبب لموتها و الموت متى ظهر عقيب سبب صالح بحال به عليه كموت المجروح فإنه يحال به إلى الجرح و إن كان يتوهم موته بسبب آخر و إذا حيل بالموت إلى الوقوع في الماء فأدنى ما يتفسخ فيه الميت ثلاثة أيام و لهذا يصلي على قبر ميت لم يصل عليه إلى ثلاثة أيام و توهم الوقوع بعد الموت إحالة بالموت إلى سبب لم يظهر و تعطيل للسبب الظاهر و هذا لا يجوز .
فبطل اعتبار الوهم و التحق الموت في الماء بالمتحقق إلا إذا قام دليل المعاينة بالوقوع في الماء ميتا فحينئذ يعرف بالمشاهدة أن الموت غير حاصل بهذا السبب و لا كلام فيه .
و أما إذا لم تكن منتفخة فلأنا إذا أحلنا بالموت إلى الوقوع في الماء و لا شك أن زمان الموت سابق على زمان الوجود خصوصا في الآبار المظلمة العميقة التي لا يعاين ما فيها و لذا يعلم يقينا أن الواقع لا يخرج بأول دلو فقدر ذلك بيوم و ليلة احتياطا لأنه أدنى المقادير المعتبرة .
و الفرق بين البئر و الثوب على رواية الحاكم : أن الثوب شيء ظاهر فلو كان ما أصابه سابقا على زمان الوجود لعلم به في ذلك الزمان فكان عدم العلم قبل ذلك دليل عدم الإصابة بخلاف البئر على ما مر و على هذا الخلاف إذا عجن بذلك الماء أنه يؤكل خبزه عندهما و عند أبي حنيفة لا يؤكل و إذا لم يؤكل ماذا يصنع به قال مشايخنا : يطعم للكلاب لأن ما تنجس باختلاط النجاسة به و النجاسة معلومة لا يباح أكله و يباح الانتفاع به فيما وراء الأكل كالدهن النجس أنه ينتفع به استصباحا إذا كان الطاهر غالبا فكذا هذا .
و بئر الماء إذا كانت بقرب من البالوعة لا يفسد الماء ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه و قدر أبو حفص المسافة بينهما بسبعة أذرع و أبو سليمان : بخمسة و ذا ليس بتقدير لازم لتفاوت الأراضي في الصلابة و الرخاوة و لكنه خرج على الأغلب و لهذا قال محمد بعد هذا التقدير : لو كان بينهما سبعة أذرع و لكن يوجد طعمه أو ريحه لا يجوز التوضأ به فدل على أن العبرة بالخلوص و عدم الخلوص و ذلك يعرف بظهور ما ذكر من الآثار و عدمه .
ثم الحيوان إذا مات في المائع القليل فلا يخلو إما إن كان له دم سائل أو أن يكن و لا يخلو إما أن يكون بريا أو مائيا و لا يخلو إما إن مات في الماء أو في غير الماء فإن لم يكن له دم سائل كالذباب و الزنبور و العقرب و السمك و الجراد و نحوها لا ينجس بالموت و لا ينجس ما يموت فيه من المائع سواء كان ماء أو غيره من المائعات كالخل و اللبن و العصير و أشباه ذلك و سواء كان بريا أو مائيا كالعقرب .
المائي و نحوه و سواء كان السمك طافيا أو غير طاف .
و قال الشافعي : إن كان شيئا يتولد من المائع كدود الخل أو ما يباح أكله بعد الموت كالسمك و الجراد لا ينجس قولا واحدا .
و له في الذباب و الزنبور قولان و يحتج بظاهر قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } ثم خص منه السمك و الجراد بالحديث و الذباب و الزنبور بالضرورة و لنا ما ذكرنا أن نجاسة الميتة ليست لعين الموت فإن الموت موجود في السمك و الجراد و لا يوجب التنجيس و لكن لما فيها من الدم المسفوح ولا دم في هذه الأشياء .
و إن كان له دم سائل فإن كان بريا ينجس بالموت و ينجس المائع الذي يموت فيه سواء كان ماء أو غيره و سواء مات في المائع أو في غيره ثم وقع فيه كسائر الحيوانات الدموية لأن الدم السائل نجس فينجس ما يجاوره إلا الآدمي إذا كان مغسولا لأنه طاهر ألا يرى أنه تجوز الصلاة عليه و إن كان مائيا كالضفدع المائي و السرطان و نحو ذلك فان مات في الماء لا ينجسه في ظاهر الرواية .
و روي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول أنه قال : لو أن حية من حيات الماء ماتت في الماء إن كانت بحال لو جرحت لم يسل منها الدم لا توجب التنجيس و إن كانت لو جرحت لسال منها الدم توجب التنجيس .
وجه ظاهر الرواية : ما علل به محمد في كتاب الصلاة فقال : لأن هذا مما يعيش في الماء ثم إن بعض المشايخ و هم مشايخ بلخ فهموا من تعليل محمد أنه لا يمكن صيانة المياه عن موت هذه الحيوانات فيها لأن معدنها الماء فلو أوجب موتها فيها التنجيس لوقع الناس في الحرج و بعضهم و هم مشايخ العراق فهموا من تعليله أنها إذا كانت تعيش في الماء لا يكون لها دم إذ الدموي لا يعيش في الماء لمخالفة بين طبيعة الماء و بين طبيعة الدم فلم تتنجس في نفسها لعدم الدم المسفوح فلا توجب تنجيس ما جاورها ضرورة و ما يرى في بعضها من صورة الدم فليس بدم حقيقة ألا ترى أن السمك يحل بغبر ذكاة مع أن الذكاة شرعت لإراقة الدم المسفوح و لذا إذا شمس دمه يبيض و من طبع الدم أنه إذا شمس اسود .
و إن مات في غير الماء فعلى قياس العلة الأولى يوجب التنجيس لأنه يمكن صيانة سائر المائعات عن موتها فيها و على قياس العلة الثانية لا يوجب التنجيس لانعدام الدم المسفوح فيها