حكم الزيوف أو النبهرجة .
هذا إذا وجده مستحقا فأما إذا وجده زيوفا أو نبهرجة فإن تجوز المسلم إليه فالسلم ماض على الصحة سواء وجده قبل الافتراق أو بعده لأن الزيوف من جنس حقه لأنها دراهم لكنها معيبة بالزيافة و فوات صفة الجودة فإذا تجوز به فقد أبرأه عن العيب و رضي بقبض حقه مع النقصان بخلاف الستوق فإنه لا يجوز به و إن تجوز به لأنه ليس من جنس الدراهم على ما نذكره و إن لم يتجوز به و رده فإن كان قبل الافتراق و استبدله في المجلس فالعقد ماض و جعل كأنه أخر القبض إلى آخر المجلس و إن كان بعد الافتراق بطل السلم عند أبي حنيفة و زفر سواء استبدل في مجلس الرد أو لا و عن أبي يوسف و محمد إن لم يستبدل في مجلس الرد فكذلك و إن استبدل لا يبطل السلم .
وجه قولهما : أن قبض الزيوف وقع صحيحا لأنه قبض جنس الحق ألا يرى أنه لو تجوز بها جاز و لو لم يكن من جنس حقه لما جاز كالستوق إلا أنه فاتته صفة الجودة بالزيافة فكانت من جنس حقه أصلا لا وصفا فكانت الزيافة فيها عيبا و المعيب لا يمنع صحة القبض كما في بيع العين إذا كان المبيع معيبا و بالرد ينتقض القبض لكن مقصورا على حالة الرد و لا يستند الانتقاض إلى وقت القبض فيبقى القبض صحيحا كان ينبغي أن لا يشترط قبض بدله في مجلس الرد لأن المستحق بعقد السلم القبض مرة واحدة إلا أنه شرط لأن للرد شبها بالعقد حيث لا يجب القبض في مجلس الرد كما لا يجب القبض في مجلس العقد إلا بالعقد فألحق مجلس الرد بمجلس العقد .
وجه قول أبي حنيفة و زفر رحمهما الله : أن الزيوف من جنس حق المسلم إليه لكن أصلا لا وصفا و لهذا ثبت له حق الرد بفوات حقه عن الوصف فكان حقه في الأصل و الوصف جميعا فصار بقبض الزيوف قابضا حقه من حيث الأصل لا من حيث الوصف إلا أنه إذا رضي به فقد أسقط حقه عن الوصف و تبين أن المستحق هو قبض الأصل دون الوصف لإبرائه إياه عن الوصف فإذا قبضه فقد قبض حقه فيبطل المستحق و إن لم يرض به تبين أنه لم يقبض حقه لأن حقه في الأصل و الوصف جميعا فتبين أن الافتراق حصل لا عن قبض رأس مال السلم .
هذا إذا وجه زيوفا أو نبهرجة فأما إذا وجده ستوقا أو رصاصا فإن وجده بعد الافتراق بطل السلم لأن الستوق ليس من جنس الدراهم ألا يرى أنها لا تروج في معاملات الناس فلم تكن من جنس حقه أصلا ووصفا فكان الافتراق عن المجلس لا عن قبض رأس المال فيبطل السلم و سواء تجوز به أو لا لأنه لم يكن من جنس حقه كان التجوز به استبدالا برأس مال السلم قبل القبض و أنه لا يجوز بخلاف الزيوف فإنها من جنس حقه على ما بينا و إن وجده في المجلس فاستبدل فالسلم ماض لأن قبضه و إن لم يصح فقد بقي الواجب في ذمة رب السلم دراهم هي حق المسلم إليه فإذا قبضها فقد قبض حقه في المجلس و التحق قبض الستوق بالعدم كأنه لم يقبض أصلا و أخر قبض رأس المال إلى آخر المجلس و كذا في الصرف غير أن هناك إذا ظهر أن الدراهم ستوقة أو رصاص بعد الافتراق عن المجلس حتى بطل الصرف فقابض الدينار يسترد دراهمه الستوقة و قابض الدراهم يسترد من قابض الدينار عين ديناره إن كان قائما و مثله إن كان هالكا و لا خيار لقابض الدينار كذا ذكر محمد في الأصل لأنه إذا ظهر أن المقبوض ستوقة أو رصاص فقد ظهر أن قبضه لم يصح فتبين أن الافتراق حصل لا عن قبض فيبطل السلم و بقي الدينار في يده من غير سبب شرعي فأشبه يد الغصب و استحقاق المبيع في بيع العين و هناك يسترد عينه إن كان قائما كذا ههنا .
و طعن عيسى بن أبان و قال : ينبغي أن يكون قابض الدينار بالخيار إن شاء رد مثله و لا يستحق عليه رد عين الدينار و إن كان قائما لأنه لم يكن متعينا في العقد فلا يكون متعينا في الفسخ .
و الاعتبار باستحقاق المبيع غير سديد لأن هناك ظهر بطلان العقد من الأصل لأنه إذا لم يجز المستحق تبين أن العقد وقع باطلا من حين وجوده و هناك العقد وقع صحيحا و إنما بطل في المستقبل لعارض طرأ عليه بعد الصحة فلا يظهر بطلانه من الأصل .
و بعض مشايخنا أخذوا بقول عيسى و نصروه و حملوا جواب الكتاب على ما إذا اختار قابض الدينار رد عين الدينار و الله سبحانه و تعالى أعلم .
هذا الذي ذكرنا إذا وجد المسلم إليه كل رأس المال مستحقا أو معيبا أو زيوفا أو ستوقا فأما إذا وجد بعضه دون بعض ففي الاستحقاق إذا لم يجز المستحق ينقص العقد بقدر المستحق سواء كان رأس المال عينا أو دينا بلا خلاف لأن القبض انتقص فيه يقدره و كذا في الستوق و الرصاص فيبطل العقد بقدره قليلا كان أو كثيرا بالإجماع لما قلنا و كذا هذا في الصرف غير أن هناك قابض الستوقة يصير شريكا لقابض الدينار في الدينار الذي دفعه بدلا عن الدراهم فيرجع عليه بعينه و على قول عيسى قابض الدينار على ما ذكرنا .
و أما في الزيوفو النبهرجة : فقياس قول أبي حنيفة C أن ينقص العقد بقدره إذا لم يتجوز ورده استبدل في مجلس الرد أو لا و هو قول زفر لأنه تبين أن قبض المردود لم يصح فتبين أن الافتراق حصل لا عن قبض رأس المال في قدر المردود فيبطل السلم بقدره إلا أنه استحسن في القليل و قال إن كان قليلا فرده و استبدل في ذلك المجلس فالعقد ماض في الكل و إن كان كثيرا يبطل العقد بقدر المردود لأن الزياقة في القليل مما لا يمكن التحرز عنه لأن الدراهم لا تخلو عن ذلك فكانت ملحقة بالعدم بخلاف الكثير .
و اختلفت الرواية عن أبي حنيفة في الحد الفاصل بين القليل و الكثير مع اتفاق الروايات على أن الثلث قليل .
و في رواية عنه : أن ما زاد على الثلث يكون كثيرا .
و في رواية : النصف و في رواية عنه الزائد على النصف و كذا هذا في الصرف غير أن هناك إذا كثرت الزيوف فرد حتى بطل العقد في قدر المردود عند أبي حنيفة يصير شريكا لقابض الدينار فيسترد منه عينه و على قول عيسى قابض الدينار بالخيار على ما بينا و لو كان تصرف فيه أو أخرجه عن ملكه لا يفسخ عليه تصرفه و عليه مثله كما في البيع الفاسد على ما مر .
و كل جواب عرفته في السلم و الصرف فهو الجواب في عقد تتعلق صحته بالقبض قبل الافتراق مما سوى الصرف و السلم كمن كان له على آخر دنانير فصالح منها على دراهم أو كان له على آخر مكيل أو موزون موصوف في الذمة أو غيرهما مما يثبت مثله في الذمة دينا فصالح منهاعلى دراهم أو نحو ذلك من العقود مما يكون قبض الدراهم فيه قبل الافتراق عن المجلس شرطا لصحة العقد فقبض الدراهم ثم وجدها مستحقة أو زيوفا أو نبهرجة أو ستوقة أو رصاصا كلها أو بعضها قبل الافتراق أو بعده و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و على هذا تخرج مقاصة رأس مال السلم بدين آخر على المسلم إليه بأن وجب على المسلم إليه دين مثل رأس المال أنه هل يصير رأس المال قصاصا بذلك الدين أم لا فهذا لا يخلو إما إن وجب دين آخر بالعقد و إما إن وجب بعقد متقدم على عقد السلم و أما إن وجب بعقد متأخر عنه فإن وجب بعقد متقدم على السلم بأن كان رب السلم باع المسلم إليه ثوبا بعشرة دراهم و لم يقبض العشرة حتى أسلم إليه عشرة دراهم في كر حنطة فإن جعلا الدينين قصاصا أو تراضيا بالمقاصة يصير قصاصا و إن أبى أحدهما لا يصير قصاصا و هذا استحسان و القياس أن لايصير قصاصا كيف ما كان و هو قول زفر .
وجه قوله : أن قبض رأس شرط و الحاصل بالمقاصة ليس بقبض حقيقة فكان الافتراق حاصلا لا عن قبض رأس المال فبطل السلم .
و لنا : أن العقد ينعقد موجبا للقبض حقيقة لولا المقاصة فإذا تقاصا تبين أن العقد انعقد موجبا قبضا بطريق المقاصة و قد وجد و نظيره ما قلنا في الزيادة في الثمن و المثمن أنها جائزة استحسانا و تلتحق بأصل العقد لأن الزيادة تبين أن العقد وقع على المزيد و على الزيادة جميعا كذا هذا .
و إن وجب بعقد متأخر عن السلم لا يصير قصاصا و إن جعلاه قصاصا إلا رواية عن أبي يوسف شاذة لأن بالمقاصة لا تبين أن العقد وقع موجبا قبضا بطريق المقاصة من حين وجوده لأن المقاصة تستدعي قيام دينين و لم يكن عند عقد السلم إلا دين واحد فانعقد موجبا حقيقة و أنه لا يحصل بالمقاصة .
هذا إذا وجب الدين بالعقد فأما إذا وجب بالقبض كالغصب و القرض فإنه يصير قصاصا أولا بعد أن كان وجوب الدين الآخر متأخرا عن العقد لأن العقد إن انعقد موجبا قبضا حقيقة فقد وجد ههنا لكن قبض الغصب و القرض حقيقة فيجعل عن قبض رأس المال لأنه واجب و قبض الغصب محظور و قبض القرض ليس بواجب فكان إيقاعه عن الواجب أولى بخلاف ما تقدم لأن هناك لم يوجد القبض حقيقة و القبض بطريق المقاصة يمكن في أحد الفصلين دون الآخر على ما بينا و الله عز و جل أعلم .
هذا إذا تساوى الدينان فاما إذا تفاضلا بأن كان أحدهما أفضل و الآخر أدون فرضي أحدهما بالقصاص و أبى الآخر فإنه ينظر إن أبى صاحب الأفضل لا يصير قصاصا لأن حقه في الجودة معصوم محترم فلا يجوز إبطاله عليه من غير رضاه و إن أبى صاحب الأدون يصير قصاصا لأنه لما رضي به صاحب الأفضل فقد أسقط حقه عن الفضل كأنه قضى دينه فأعطاه أجود مما عليه و هناك يجبر على الأخذ كذا هذا و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و كذلك المقاصة في ثمن الصرف تخرج على هذه التفاصيل التي ذكرناها في رأس مال السلم و الله المو فق للصواب .
ثم ما ذكرنا من اعتبار هذا الشرط و هو قبض رأس المال حال بقاء العقد فأما بعد ارتفاعه بطريق الإقالة أو بطريق آخر فقبضه ليس بشرط في مجلس الإقالة بخلاف القبض في مجلس العقد و قبض بدل الصرف في مجلس الإقالة أنه شرط لصحة الإقالة كقبضهما في مجلس العقد و وجه الفرق : أن القبض في مجلس العقد في البابين ما هو شرط لعينه و إنما هو شرط للتعين و هو أن يصير البدل معينا بالقبض صيانة عن الافتراق عن دين بدين على ما بينا و لا حاجة إلى التعيين في مجلس الإقالة في السلم لأنه لا يجوز استبداله فيعود إليه عينه فلا تقع الحاجة إلى التعين بالقبض فكان الواجب نفس القبض فلا يراعى له المجلس بخلاف الصرف لأن التعين لا يحصل إلا بالقبض لأن استبداله جائز فلا بد من شرط القبض في المجلس ليتعين و الله أعلم