ما يحصل به التطهير .
فصل : و أما بيان ما يقع به التطهير فالكلام في هذا الفصل يقع في ثلاثة مواضع : .
أحدها : في بيان ما يقع به التطهير .
و الثاني : في بيان طربق التطهير بالغسل .
و الثالث ؟ في بيان شرائط التطهير .
أما الأول فما يحصل به التطهير أنواع : منها الماء المطلق و لا خلاف في أنه يحصل به الطهارة الحقيقية و الحكمية جميعا لأن الله تعالى سمى الماء طهورا بقوله : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } و كذا النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ] .
و الطهور : هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره و كذا جعل الله تعالى الوضوء و الاغتسال بالماء طهورا بقوله في آخر آية الوضوء : { و لكن يريد ليطهركم } و قوله : { و إن كنتم جنبا فاطهروا } و يستوي العذب و الملح لإطلاق النصوص .
و أما ما سوى الماء من المائعات الطاهرة فلا خلاف في أنه لا تحصل بها الطهارة الحكمية و هي زوال الحدث و هل تحصل بها الطهارة الحقيقة و هي زوال النجاسة الحقيقية عن الثوب و البدن .
اختلف فيه : فقال أبو حنيفة و أبو يوسف تحصل .
و قال محمد و زفر و الشافعي لا تحصل .
و روي عن أبي يوسف أنه فرق بين الثوب و البدن فقال في الثوب تحصل و في البدن لا تحصل إلا بالماء .
وجه قولهم : إن طهورية الماء عرفت شرعا بخلاف القياس لأنه بأول ملاقاته النجس صار نجسا و التطهير بالنجس لا يتحقق كما إذا غسل بماء نجس أو بالخمر إلا أن الشرع أسقط اعتبار نجاسة الماء حالة الاستعمال و بقاؤه طهورا على خلاف القياس فلا يلحق به غيره و لهذا لم يلحق به في إزالة الحدث .
و لهما : أن الواجب هو التطهير و هذه المائعات تشارك الماء في التطهير لأن الماء إنما كان مطهرا لكونه مائعا رقيقا يداخل أثناء الثوب فيجاور أجزاء النجاسة فيرققها إن كانت كثيفة فيستخرجها بواسطة العصر و هذه المائعات في المداخلة و المجاورة و الترقيق مثل الماء فكانت مثله في إفادة الطهارة بل أولى فإن الخل يعمل في إزالة بعض ألوان لا تزول بالماء فكان في معنى التطهير أبلغ .
و أما قولهم : إن الماء بأول ملاقاة النجس صار نجسا ممنوع و الماء قط لا يصير نجسا و إنما يجاور النجس فكان طاهرا في ذاته فصلح مطهرا و لو تصور تنجس الماء فذلك بعد مزايلته المحل النجس لأن الشرع أمرنا بالتطهير و لو تنجس بأول الملاقاة لما تصور التطهير فيقع التكليف بالتطهير عبثا تعالى الله عن ذلك .
فهكذا نقول في الحدث إلا أن الشرع ورد بالتطهير بالماء هناك تعبدا غير معقول المعنى فيقتصر على .
مورد التعبد .
وهذا إذا كان مانعا ينعصر بالعصر فإن كان لا ينعصر مثل العسل و السمن و الدهن و نحوها لا تحصل به الطهارة أصلا لانعدام المعاني التي يقف عليها زوال النجاسة على ما بينا .
ومنها : الفرك و الحت بعد الجفاف في بعض الأنجاس في بعض المحال .
و بيان هذه الجملة إذا أصاب المني الثوب و جف و فرك طهر استحسانا و القياس أن لا يطهر إلا بالغسل و إن كان رطبا لا يطهر إلا بالغسل و الأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعائشة Bها [ إذا رأيت المني ني ثوبك إن كان رطبا فاغسليه و إن كان يابسا فافركيه ] .
و لأنه شيء غليظ لزج لا يتشرب في الثوب إلا رطوبته ثم تنجذب تلك الرطوبة بعد الجفاف فلا يبقى إلا عينه و أنها تزول بالفرك بخلاف الرطب لأن العين و إن زالت بالحت فأجزاؤها المتشربة في الثوب .
قائمة فبقيت النجاسة و إن أصاب البدن فإن كان رطبا لا يطهر إلا بالغسل لما بينا و إن جف فهل يطهر بالحت .
روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يطهر و ذكر الكرخي أنه يطهر وجه رواية الحسن أن القياس أن لا يطهر في الثوب إلا بالغسل و إنما عرفناه بالحديث و أنه ورد في الثوب بالفرك فبقي البدن مع أنه لا يحتمل الفرك على أصل القياس وجه قول الكرخي أن النص الوارد في الثوب يكون واردا في البدن من طريق الأولى لأن البدن أقل تشربا من الثوب و الحت في البدن يعمل عمل الفرك في الثوب في إزالة العين .
و أما سائر النجاسات إذا أصابت الثوب أو البدن و نحوهما فإنها لا تزول إلا بالغسل سواء كانت رطبة أو يابسة و سواء كانت سائلة أو لها جرم و لو أصاب ثوبه خمر فألقي عليها الملح و مضى عليه من المدة مقدار ما يتخلل فيها لم يحكم بطهارته حتى يغسله و لو أصابه عصير فمضى عليه من المدة مقدار ما يتخمر العصير فيها لا يحكم بنجاسته و إن أصاب الخف أو النعل و نحوهما فإن كانت رطبة لا تزول إلا بالغسل كيفما كانت .
و روي عن أبي يوسف : أنه يطهر بالمسح على التراب كيفما كانت مستجسدة أو مائعة و إن كانت .
يابسة فإن لم يكن لها جرم كثيف كالبول و الخمر و الماء النجس لا يطهر إلا بالغسل و إن كان لها جرم كثيف فإن كان منيا فإنه يطهر بالحت بالإجماع و إن كان غيره كالعذرة و الدم الغليظ و الروث يطهر بالحت عند أبي حنيفة و أبي يوسف .
و عند محمد : لا يطهر إلا بالغسل و هو أحد قولي الشافعي و ما قاله استحسان و ما قاله قياس .
وجه القياس : أن غير الماء لا أثر له في الإزالة و كذا القياس في الماء لما بينا فيما تقدم إلا أنه يجعل طهورا للضرورة و الضرورة ترتفع بالماء فلا ضرورة في غيره و لهذا لم يؤثر في إزالة الرطب و اليابس و السائل و في الثوب و هذا هو القياس في المني إلا أنا عرفناه بالنص .
وجه الاستحسان : ما روي [ عن أبي سعيد الخدري Bه أن النبي صلى الله عليه و سلم لما خلع نعليه في .
الصلاة خلع الناس نعالهم فلما فرغ من الصلاة قال : ما بالكم خلعتم نعالكم فقالوا : خلعت نعليك فخلعنا نعالنا فقال : أتاني جبريل و أخبرني أن بهما أذى ثم قال : إذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه فإن كان بهما أذى فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما طهور ] و هذا نص و الفقه من وجهين : .
أحدهما : أن المحل إذا كان فيه صلابة نحو الخف و النعل لا تتخلل أجزاء النجاسة فيه لصلابته و إنما تتشرب منه بعض الرطوبات فاذا أخذ المستجسد في الجفاف جذبت تلك الرطوبات إلى نفسه شيئا فشيئا فكلما ازداد يبسا ازداد جذبا إلى أن يتم الجفاف فعند ذلك لا يبقى منها شيء أو يبقى شيء يسير .
فإذا جف الخف أو مسحه على الأرض تزول العين بالكلية بخلاف حالة الرطوبة لأن العين و إن زالت فالرطوبات باقية لأنه خروجها بالجذب بسبب اليبس ولم يوجد و بخلاف السائل لأنه لم يوجد الجاذب و هو العين المستجسدة فبقيت الرطوبة المتشربة فيه فلا يطهر بدون الغسل .
و بخلاف الثوب فإن أجزاء النجاسة تتخلل في الثوب كما تتخلل رطوبتها لتخلخل أجزاء الثوب فبالجفاف انجذبت الرطوبات إلى نفسها فتبقى أجزاؤها فيه فلا تزول بإزالة الجرم الظاهر على سبيل الكمال و صار كالمني إذا أصاب الثوب أنه يطهر بالفرك عند الجفاف لأن المني شيء لزج لا يداخل أجزاء الثوب و إنما تتخلل رطوباته فقط ثم يجذبها المستجسد عند الجفاف فيطهر فكذلك هذا .
و الثاني : أن إصابة هذه الأنجاس الخفاف و النعال مما يكثر فيحكم بطهارتها بالمسح دفعا للحرج بخلاف الثوب و الحرج في الأرواث لا غير و إنما سوى في رواية عن أبي يوسف بين الكل لإطلاق ما روينا من الحديث و كذا معنى الحرج لا يفصل بين الرطب و اليابس و لو أصابه الماء بعد الحت و المسح يعود نجسا هو الصحيح من الرواية لأن شيئا من النجاسة قائم لأن المحل إذا تشرب فيه النجس و أنه لا يحتمل العصر لا يطهر عند محمد أبدا .
و عند أبي يوسف : ينقع في الماء ثلاث مرات و يجفف في كل مرة إلا أن معظم النجاسة قد زال فجعل القليل عفوا في حق جواز الصلاة للضرورة لا أن يطهر المحل حقيقة فإذا وصل إليه الماء فهذا ماء قليل جاوره قليل نجاسة فينجسه .
و أطلق الكرخي أنه إذا حت طهر و تأويله في حق جواز الصلاة و لو أصابت النجاسة شيئا صلبا صقيلا .
كالسيف و المرآة و نحوهما يطهر بالحت رطبة كانت أو يابسة لأنه لا يتخلل في أجزائه شيء من النجاسة و ظاهره يطهر بالمسح و الحت .
و قيل : إن كانت رطبة لا تزول إلا بالغسل و لو أصابت النجاسة الأرض فجفت و ذهب أثرها تجوز الصلاة عليها عندنا .
و عند زفر : لا تجوز و به أخذ الشافعي و لو تيمم بهذا التراب لا يجوز في ظاهر الرواية و قد ذكرنا الفرق فيما تقدم .
و لنا طريقان : .
أحدهما : أن الأرض لم تطهر حقيقة لكن زال معظم النجاسة عنها و بقي شيء قليل فيجعل عفوا للضرورة فعلى هذا إذا أصابها الماء تعود نجسة لما بينا .
و الثاني : أن الأرض طهرت حقيقة لأن من طبع الأرض أنها تحيل الأشياء و تغيرها إلى طبعها فصارت ترابا بمرور الزمان ولم يبق نجس أصلا فعلى هذا إن أصابها لا تعود نجسة .
و قيل : إن الطريق الأول لأبي يوسف و الثاني لمحمد بناء على أن النجاسة إذا تغبرت بمضي الزمان و تبدلت أوصافها تصير شيئا آخر عند محمد فيكون طاهرا و عند أبي يوسف لا يصير شيئا آخر فيكون نجسا و على هذا الأصل مسائل بينهما .
منها : الكلب إذا وقع في الملاحة و الجمد و العذرة إذا أحرقت بالنار و صارت رمادا و طين البالوعة إذا جف و ذهب أثره و النجاسة إذا دفنت في الأرض و ذهب أثرها بمرور الزمان .
وجه قول أبي يوسف أن أجزاء النجاسة قائمة فلا تثبت الطهارة مع بقاء العين النجسة و القياس في الخمر إذا تخلل أن لا يطهر لكن عرفناه نصا بخلاف القياس بخلاف جلد الميتة فإن عين الجلد طاهرة و إنما النجس ما عليه من الرطوبات و إنها تزول بالدباغ .
وجه قول محمد : أن النجاسة لما استحالت و تبدلت أوصافها و معانيها خرجت عن كونها نجاسة لأنها اسم لذات مرصوفة فتنعدم بانعدام الوصف و صارت كالخمر إذا تخللت