صفة البيع الذي يحصل به التفريق .
فصل : و اما صفة البيع الذي يحصل به التفريق أنه جائز أم لا فقد اختلف العلماء فيه فقال أبو حنيفة و محمد رحمهما الله : البيع جائز مفيد للحكم بنفسه لكنه مكروه و البائع بالتفريق آثم .
و قال أبو يوسف C : البيع فاسد في الولدين و المولدين و في سائر ذوي الأرحام جائز .
و قال الشافعي : البيع باطل في الكل .
و احتج بما روينا من الأحاديث الواردة للنهي عن التفريق و ما يجري مجرى النهي و البيع تفريق فكان منهي و النهي لا يصلح سببا لثبوت الملك كسائر البياعات التي ورد النهي عنها على أصله فأبو يوسف إنما خص البيع في الوالدين و المولودين بالفساد لورود الشرع بتغليظ الوعيد بالتفريق فيهم و هو ما روينا و لهما أن قوله تعالى : { و أحل الله البيع } و نحوه من نصوص البيع يقتضي شرعية البيع على العموم و الإطلاق فمن ادعى التخصيص أو التقييد فعليه الدليل .
و أما الأحاديث فهي محمولة على النهي عن غير البيع و هو الإضرار فلا يخرج البيع عن ان يكون مشروعا كالنهي عن البيع وقت النداء و إنما حملناه على غير البيع إما حملا لخبر الواحد على موافقة الكتاب الكريم و إما لأن النهي لا يرد عما عرف حسنه عقلا على ما عرف .
و منها : البيع وقت النداء ـ و هو أذان الجمعة ـ لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع } أمر بترك البيع عند النداء نهيا عن البيع لكن لغيره و هو ترك السعي فكان البيع في ذاته مشروعا جائزا لكنه يكره لأنه اتصل به غير مشروع و هو ترك السعي .
و منها بيع الحاضر للباد و هو أن يكون لرجل طعام و علف لا يبيعهما إلا لأهل البادية بثمن غال لما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ] و لو باع جاز البيع لأن النهي لمعنى في غير البيع و هو الإضرار بأهل المصر فلا يوجب فساد البيع كالبيع وقت النداء .
و هذا إذا كان ذلك يضر بأهل البلد بأن كان أهله في قحط من الطعام و العلف فإن كانوا في خصب و سعة فلا بأس به لانعدام الضرر .
و منها : بيع متلقي السلع و اختلف في تفسيره .
قال بعضهم : هو أن يسمع خبر قدوم قافلة بميرة عظمة فيتلقاهم الرجل و يشتري جميع ما معهم من الميرة و يدخل المصر فيبيع على ما يشاء من الثمن و هذا الشراء مكروه لما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تتلقوا السلع حتى تبسط الأسواق ] و هذا إذا كان يضر بأهل البلد بأن كان أهله في جدب و قحط فإن كان لا يضرهم لا بأس .
و قال بعضهم تفسيره : هو ان يتلقاهم فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد و هم لا يعلمون سعر البلد و هذا أيضا مكروه سواء تضرر به أهل البلد أم لا لأنه غرهم و الشراء جائز في الصورتين جميعا لأن البيع مشروع في ذاته و النهي في غيره و هو الإضرار بالعامة على التفسير الأول و تغرير أصحاب السلع على التفسير الثاني .
و منها : بيع المستام على سوام أخيه و هو أن يساوم الرجلان فطلب البائع بسلعته ثمنا و رضي المشتري بذلك الثمن فجاء مشتر آخر و دخل على سوام الأول فاشتراه بزيادة أو بذلك الثمن لما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يستام الرجل على سوم أخيه و لا يخطب على خطبة أخيه ] و روي لا يسوم الرجل على سوم أخيه و النهي لمعنى في غير البيع و هو الإيذاء فكان نفس البيع مشروعا فيجوز شراؤه و لكنه يكره و هذا إذا جنح البائع للبيع بالثمن الذي طلبه المشتري الأول فإن كان لم يجنح له فلا بأس للثاني أن يشتريه لأن هذا ليس استياما على سوم أخيه فلا يدخل تحت النهي و لانعدم معنى الإيذاء أيضا بل هو بيع من يزيد و إنه ليس بمكروه لما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم باع قدحا و حلسا له ببيع من يزيد و ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليبيع بيعا مكروها و كذا في النكاح إذا خطب رجل امرأة و ركن قلبها إليه يكره لغيره أن يخطبها لما روينا و إن لم يركن فلا بأس به .
و منها بيع السلاح من أهل الفتنة و في عساكرهم لأن بيعه منهم من باب الإعانة على الإثم و العدوان و إنه منهي و لا يكره بيع ما يتخذ منه السلاح منهم كالحديد و غيره لأنه ليس معدا للقتال فلا يتحقق معنى الإعانة .
و نظيره بيع الخشب الذي يصلح لاتخاذ المزمار فإنه لا يكره و إن كره بيع المزامير .
و اما ما يكره مما يتصل بالبيوع فمنها الإحتكار و قد ذكرنا جملة الكلام فيه في باب الكراهية و إلحاقه بهذا الموضع أولى .
و منها : النجش : و هو أن يمدح السلعة و يطلبها بثمن ثم لا يشتريه بنفسه و لكن ليسمع غيره فيزيد في ثمنه و إنه مكروه لما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنه نهى عن النجش ] و لأنه احتيال للإضرار بأخيه المسلم و هذا إذا كان المشتري يطلب السلعة من صاحبها بمثل ثمنها فأما إذا كان يطلبها بأقل من ثمنها فنجش رجل سلعة حتى تبلغ إلى ثمنها فهذا ليس بمكروه و إن كان الناجش لا يريد شراءها و الله عز و جل أعلم