بيع المعدودات المتقاربة .
و اما المعدودات المتقاربة إذا بيعت عددا لا جزافا فحكمها حكم المكيلات و الموزونات عند أبي حنيفة حتى لا يجوز بيعها إلا بعد العد و عند أبي يوسف و محمد حكمها حكم المذروعات فيجوز بيعها قبل العد .
وجه قولهما : أن العددي ليس من أموال الربا كالذرع و لهذا لم تكن المساواة فيها شرطا لجواز العقد كما لا تشترط في المذروعات فكان حكمه حكم المذروع و لأبي حنيفة C : أن القدر في المعدود معقود عليه كالقدر في المكيل و الموزون .
ألا ترى أنه لو عده فوجده زائدا لا تطيب الزيادة بلا ثمن بل يردها أو يأخذها بثمنها و لو وجده ناقصا يرجع بقدر النقصان كما في المكيل و الموزون دل أن القدر فيه معقود عليه و احتمال الزيادة و النقصان في عدد المبيع ثابت فلا بد من معرفة قدر المعقود عليه و امتيازه من غيره و لا يعرف قدره إلا بالعد فأشبه المكيل و الموزون و لهذا كان العد فيه بمنزلة المكيل و الموزون في ضمان العدوان إلا أنه لم يجر فيه الربا لأن المساواة بين واحد و واحد في العد ثبتت باصطلاح الناس و إهدارهم التفاوت بينهما في الصغر و الكبر لكن ما ثبت باصطلاح الناس جاز أن يبطل باصطلاحهم و لما تبايعا واحدا باثنين فقد أهدرا اصطلاح الإهدار و اعتبرا الكبر لأنهما قصد البيع الصحيح و لا صحة إلا باعتبار الكبر و سقوط العد فكان أحدهما من أحد الجانبين بمقابلة الكبير من الجانب الآخر فلا يتحقق الربا .
أما ههنا فلا بد من اعتبار العد إذا بيع عددا و إذا اعتبر العد لا يجوز التصرف فيه قبل القبض كما في المكيل و الموزون بخلاف المذروع فإن القدر فيه ليس بمعقود عليه على ما بينا فكانت التخلية فيه قبضا تاما فكان تصرفا في المبيع المنقول بعد القبض و أنه جائز و الله عز و جل أعلم .
و لو كاله البائع أو وزنه بحضرة المشتري كان ذلك كافيا و لا يحتاج إلى إعادة الكيل لأن المقصود يحصل بكيله مرة واحدة بحضرة المشتري و ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان : صاع البائع و صاع المشتري ] محمول على موضع مخصوص و هو ما إذا اشترى مكيلا مكايلة فاكتاله ثم باعه من غيره مكايلة لم يجز لهذا المشتري التصرف فيه حتى يكيله و إن كان هو حاضرا عند اكتيال بائعه فلا يكتفى بذلك .
و كذلك إذا أسلم إلى رجل في حنطة فلما حل الأجل اشترى المسلم إليه قدر المسلم فيه من رجل مكايلة و أمر رب السلم باقتضائه فإنه لا يجوز له التصرف فيه ما لم يكله مرتين : مرة للمسلم إليه و مرة لنفسه بالنص و لو كان مكان السلم قرض بأن استقرض المستقرض كرا من إنسان و أمر المقرض بقبض الكر فإنه يكتفى فيه بكيل واحد للمشتري و المستقرض .
و وجه الفرق : أن الكيل و الوزن فيما عقد بشرط الكيل و الوزن في المكيل و الموزون شرط جواز التصرف فيهما لأنه من تمام القبض على ما بينا و السلم عقد بشرط الكيل و المسلم إليه اشترى بشرط الكيل فلا بد من أن يكيل رب السلم اولا للمسلم إليه ليصير قابضا له فجعل كأن المسلم إليه قبضه بنفسه من البائع ثم يكيل لنفسه من المسلم إليه فأما قبض بدل القرض فليس بشرط لجواز التصرف فيه لأن القبض بالكيل في باب البيع لاندفاع جهالة المعقود عليه بتميز حق المشتري عن حق البائع و القرض يقبل نوع جهالة فلا يشترط له القبض و لأن الإقراض إعارة عندنا فالمقبول من بدل القرض كأنه عين حقه فصار كما لو أعار عينا ثم استردها فيصح قبضه بدون الكيل و إنما يجب كيل واحد للمشتري لا غير و الله عز و جل أعلم