فصل : في شرائط التطهير بالماء .
فصل : و أما شرائط التطهير بالماء فمنها العدد في نجاسة غير مرئية عندنا و الجملة في ذلك أن النجاسة نوعان : حقيقية و حكمية و لا خلاف في أن النجاسة الحكمية و هي الحدث و الجنابة تزول بالغسل مرة واحدة و لا يشترط فيها العدد .
و أما النجاسة الحقيقية : فإن كانت غير مرئية كالبول و نحوه ذكر في ظاهر الرواية أنه لا تطهر إلا بالغسل ثلاثا .
و عند الشافعي : تطهر بالغسل مرة واحدة اعتبارا بالحدث إلا في ولوغ الكلب في الإناء فإنه لا يطهر إلا بالغسل سبعا إحداهن بالتراب بالحديث و هو قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب ] .
و لنا : ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا ] فقد أمر بالغسل ثلاثا .
و إن كان ذلك غير مرئي و ما رواه الشافعي فذلك عندما كان في ابتداء الإسلام لقلع عادة الناس في الإلف بالكلاب كما أمر بكسر الدنان و نهى عن الشرب في ظروف الخمر حين حرمت الخمر فلما تركوا العادة أزال ذلك كما في الخمر دل عليه ما روي في بعض الروايات : فليغسله سبعا أولاهن بالتراب أو أخراهن بالتراب و في بعضها : [ و عفروا الثامنة بالتراب ] و ذلك غير واجب بالإجماع .
و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده ] أمر بالغسل ثلاثا عند توهم النجاسة فعند تحققها أولى و لأن الظاهر أن النجاسة لا تزول بالمرة الواحدة ألا ترى أن النجاسة المرئية قط لا تزول بالمرة الواحدة فكذا غير المرئية و لا فرق سوى أن ذلك يرى بالحس و هذا يعلم بالعقل و الاعتبار بالحدث غير سديد لأن ثمة لا نجاسة رأسا و إنما عرفنا وجوب الغسل نصا غير معقول المعنى و النص ورد بالاكتفاء بمرة واحدة لأن النبي صلى الله عليه و سلم توضأ مرة مرة و قال : [ هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ] ثم التقدير بالثلاث عندنا ليس بلازم بل هو مفوض إلى غالب رأيه و أكبر ظنه و إنما ورد النص بالتقدير بالثلاث بناء على غالب العادات فإن الغالب أنها تزول بالثلاث و لأن الثلاث هو الحد الفاصل لإبلاء العذر كما في قصة العبد الصالح مع موسى حيث قال له موسى في المرة الثالثة : { قد بلغت من لدني عذرا } .
و إن كانت النجاسة مرئية كالدم و نحوه فطهارتها زوال عينها و لا عبرة فيه بالعدد لأن النجاسة في العين فإن زالت العين زالت النجاسة و إن بقيت بقيت و لو زالت العين و بقي الأثر فإن كان مما يزول أثره لا يحكم بطهارته ما لم يزل الأثر لأن الأثر لون عينه لا لون الثوب فبقاؤه يدل على بقاء عينه و إن كانت النجاسة مما لا يزول أثره لا يضر بقاء أثر عندنا .
و عند الشافعي : لا يحكم بطهارته ما دام الأثر باقيا و ينبغي أن يقطع بالمقراض لأن بقاء الأثر دليل بقاء العين .
و لنا : ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال للمستحاضة : [ حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء و لا يضرك .
أثره ] و هذا نص .
و لأن الله تعالى لما لم يكلفنا غسل النجاسة إلا بالماء مع علمه أنه ليس في طبع الماء قلع الآثار دل على أن بقاء الأثر فيما لا يزول أثره ليس بمانع زوال النجاسة .
و قوله بقاء الأثر دليل بقاء العين مسلم لكن الشرع أسقط اعتبار ذلك بقوله عليه الصلاة و السلام [ لا يضرك بقاء أثره ] و لما ذكرنا أنه لم يأمرنا إلا بالغسل بالماء ولم يكلفنا تعلم الحيل في قلع الآثار و لأن ذلك في حد القلة و القليل من النجاسة عفو عندنا و لأن إصابة النجاسة التي لها أثر باق كالدم الأسود العبيط مما يكثر في الثياب خصوصا في حق النسوان فلو أمرنا بقطع الثياب لوقع الناس في الحرج له أنه .
مدفوع و كذا يؤدي إلى إتلاف الأموال و الشرع نهانا عن ذلك فكيف يأمرنا به .
و منها : العصر فيما يحتمل العصر و ما يقوم مقامه فيما لا يحتمله و الجملة فيه إن المحل الذي تنجس إما إن كان شيئا لا يتشرب فيه أجزاء النجس أصلا أو كان شيئا يتشرب فيه شيء يسير أو كان شيئا يتشرب فيه شيء كثير فإن كان مما لا يتشرب فيه شيء أصلا كالأواني المتخذة من الحجر و الصفر و النحاس و الخزف العتيق و نحو ذلك فطهارته بزوال عين النجاسة أو العدد على ما مر و إن كان مما يتشرب فيه شيء قليل كالبدن و الخف و النعل فكذلك لأن الماء يستخرج ذلك القليل فيحكم بطهارته و إن كان مما يتشرب فيه كثير فإن كان مما يمكن عصره كالثياب فإن كانت النجاسة مرئية فطهارته بالغسل و العصر إلى أن تزول العين و إن كانت غير مرئية فطهارته بالغسل ثلاثا و العصر في كل مرة لأن الماء لا يستخرج الكثير إلا بواسطة العصر ولا يتم الغسل بدونه .
و روي عن محمد أنه يكتفي بالعصر في المرة الأخيرة و يستوي الجواب عندنا بين بول الصبي و الصبية .
و قال الشافعي : بول الصبي يطهر بالنضح من غير عصر و احتج بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : .
[ ينضح بول الصبي و يغسل بول الجارية ] و لنا ما روينا من حديث عمار من غير فصل بين بول و بول .
و ما رواه غريب فلا يقبل خصوصا إذا خالف المشهور .
و إن كان مما لا يمكن عصره كالحصير المتخذ من البوري و نحوه أي ما لا ينعصر بالعصر إن علم أنه لم يتشرب فيه بل أصاب ظاهره يطهر بإزالة العين أو بالغسل ثلاث مرات من غير عصر .
فأما إذا علم أنه تشرب فيه فقد قال أبو يوسف : ينقع في الماء ثلاث مرات و يجفف في كل مرة فيحكم بطهارته .
و قال محمد : لا يطهر أبدا و على هذا الخلاف الخزف الجديد إذا تشرب فيه النجس و الجلد إذا دبغ بالذهن النجس و الحنطة إذا تشرب فيها النجس و انتفخت أنها لا تطهر أبدا عند محمد و عند أبي يوسف تنقع في الماء ثلاث مرات و تجفف في كل مرة و كذا السكين إذا موه بماء نجس و اللحم إذا طبخ بماء نجس فعند أبي يوسف يموه السكين و يطبخ اللحم بالطاهر ثلاث مرات و يجفف في كل مرة و عند محمد لا يطهر أبدا .
وجه قول محمد : أن النجاسة إذا دخلت في الباطن يتعذر استخراجها إلا بالعصر و العصر متعذر .
و أبو يوسف يقول : إن تعذر العصر فإن التجفيف ممكن فيقام التجفيف مقام العصر دفعا للحرج و ما قاله محمد أقيس و ما قاله أبو يوسف أوسع و لو أن الأرض أصابتها نجاسة رطبة فإن كانت الأرض رخوة يصب عليها الماء حتى يتسفل فيها فإذا لم يبق على وجها شيء من النجاسة و تسفلت المياه يحكم بطهارتها و لا يعتبر فيها العدد و إنما هو على اجتهاده و ما في غالب ظنه إنها طهرت .
و يقوم التسفل في الأرض مقام العصر فيما يحتمل العصر و على قياس ظاهر الرواية يصب الماء عليها ثلاث مرات و يتسفل في كل مرة و إن كانت الأرض صلبة فإن كانت صعودا يحفر في أسفلها حفيرة و يصب الماء عليها ثلاث مرات و يزال عنها إلى الحفيرة ئم تكبر الحفيرة و إن كانت مستوية بحيث لا يزول الماء عنها لا تغسل لعدم الفائدة في الغسل .
و قال الشافعي : إذا كوثرت بالماء طهرت و هذا فاسد لأن الماء النجس باق حقيقة و لكن ينبغي أن تقلب فيجعل أعلاها أسفلها و أسفلها أعلاها ليصير التراب الظاهر وجه الأرض هكذا روي أن أعرابيا بال في المسجد فأمر رسول الله [ أن يحفر موضع بوله ] فدل أن الطريق ما قلنا و الله أعلم