بيان ما يمنع الرد بالعيب و يسقط به الخيار بعد ثبوته و يلزم البيع و ما لا يسقط و لا يلزم .
و أما بيان ما يمنع الرد بالعيب و يسقط به الخيار بعد ثبوته و يلزم البيع و ما لا يسقط و لا يلزم فنقول و بالله تعالى التوفيق : الرد يمتنع بأسباب : منها الرضا بالعيب بعد العلم به لأن حق الرد لفوات السلامة المشروطة في العقد دلالة و لما رضي بالعيب بعد العلم به دل أنه ما شرط السلامة و لأنه ثبت نظرا للمشتري دفعا للضرر عنه فإذا رضي بالعيب فلم ينظر لنفسه و رضي بالضرر ثم الرضا نوعان : صريح وما هو في معنى الصريح و دلالة .
أما الأول فنحو قوله رضيت بالعيب أو أجزت هذا البيع أو أوجبته و ما يجري هذا المجرى .
و أما الثاني فهو أن يوجد من المشتري بعد العلم بالعيب تصرف في المبيع يدل على الرضا بالعيب .
نحوما إذا كان ثوبا فصبغه أو قطعه أو سويقا فلته بسمن أو أرضا فبنى عليها أو حنطة فطحنها أو لحما فشواه و نحو ذلك أو تصرف تصرفا أخرجه عن ملكه و هو عالم بالعيب أو ليس بعالم أو باعه المشتري أو وهبه و سلمه أو اعتقه أو كاتبه أو دبره أو استولده لأن الأقدام على هذه التصرفات مع العلم بالعيب دليل الرضا بالعيب و يكون العلم بالعيب و كل ذلك يبطل حق الرد .
و لو باعه المشتري ثم رد عليه بعيب فإن كان قبل القبض له أن يرده على بائعه سواء كان الرد بقضاء القاضي أو بالتراضي بالإجماع و إن كان بعد القبض فإن كان بقضاء القاضي له ان يرده على بائعه بلا خلاف و إن كان قبله البائع بغير قضاء ليس له أن يرده عندنا و عند الشافعي C له أن يرده .
وجه قوله : أن المانع من الرد خروج السلعة عن ملكه فإذا عادت إليه فقد زال المانع و صار كأنه لم يخرج و لهذا إذا رد عليه بقضاء له أن يرده على بائعه و كذا إذا رد عليه بخيار شرط أو بخيار رؤية على أصلكم .
و لنا : أن القبول بغير قضاء فسخ في حق العاقدين بيع جديد في حق غيرهما فصار كما لو عاد إليه بشراء و لو اشتراه لم يملك الرد على بائعه كذا هذا .
و الدليل على أن القبول بغير قضاء بيع جديد في حق غير العاقدين أن معنى البيع موجود فكان شبهة الشراء قائمة فكان الرد عند التراضي بيعا لوجود معنى البيع فيه إلا أنه أعطى له حكم الفسخ في حق العاقدين فبقي بيعا جديدا في حق غيرهما بمنزلة بمنزلة الشراء المبتدأ و لهذا يثبت للشفيع حق الشفعة و حق الشفعة إنما يثبت بالبيع بخلاف الرد بقضاء القاضي لأنه لم يوجد فيه معنى البيع أصلا لانعدام التراضي فكان فسخا و الفسخ رفع العقد من الأصل و جعله كأن لم يكن و لهذا لم يثبت للشفيع حق الشفعة و بخلاف ما قبل القبض لأن الصفقة لا تمام لها قبل القبض .
ألا ترى أن حدوث العيب قبل القبض كوجوده قبل البيع فكان الرد قبل القبض في معنى الامتناع عن القبول كأن المشتري رد إيجاب البائع و لم يقبله و لهذا لم يفتقر الرد قبل القبض إلى القاضي و بخلاف ما إذا رد عليه بخيار شرط أو رؤية أنه يرده على بائعه لأن معنى البيع لم يوجد في هذا الرد .
ألا ترى أنه يرد على بائعه من غير رضاه فكان فسخا و رفعا للعقد من الأصل كأنه لم يكن و كذا لو وطىء الجارية المشتراة أو لمسها لشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة مع العلم بالعيب لما قلنا و كذا بدون العلم بالعيب .
و قال الشافعي C : إن كانت الجارية بكرا فوطئها المشتري فكذلك و أما إذا كانت ثيبا فوطئها بدون العلم بالعيب لا تمنع الرد بالعيب و ستأتي المسألة إن شاء الله تعالى .
و لو قبلت الجارية المشتري لشهوة فقد مر تفصيل الكلام فيه في شرط الخيار و لو استخدم المشتري بعدما علم بالعيب فالقياس أن يسقط خياره و في الاستحسان في خيار الشرط و لو كان المشترى دابة فركبها بعد العلم بالعيب فإن ركبها لحاجة نفسه يسقط خياره .
و إن ركبها ليسقيها أو ليردها على البائع أو ليشتري لها علفا ففيه قياس و استحسان كما في الاستخدام و قد ذكرنا ذلك في خيار الشرط و لو ركبها لينظر إلى سيرها بعد العلم بالعيب يكون رضا يسقط خياره و في شرط الخيار لا يسقط و الفرق بينهما قد تقدم في خيار الشرط و كذا لو اشترى ثوبا فلبسه بعد العلم لينظر إلى طوله و عرضه بطل خياره الشرط لا يبطل .
و وجه الفرق بينهما قد ذكرناه في شرط الخيار و إن كان المشترى دارا فسكنها بعدما علم بالعيب أو رم منها شيئا أو هدم يسقط خياره و ذكر في بعض شروح مختصر الطحاوي في السكنى روايتان .
و الحاصل : أن كل تصرف يوجد من المشترى بعد العلم بالعيب يدل على الرضا بالعيب يسقط الخيار و يلزم البيع و الله عز و جل أعلم .
و منها : إسقاط الخيار صريحا أو ما هو في معنى الصريح نحو أن يقول المشتري أسقطت الخيار أو أبطلته أو ألزمت البيع أو أوجبته و ما يجري هذا المجرى لأن خيار العيب حقه و الإنسان بسبيل من التصرف في حقه استيفاء و إسقاطا .
و منها : إبراء المشتري عن العيب لأن الإبراء إسقاط و له ولاية الإسقاط لأن الخيار حقه و المحل قابل للسقوط ألا ترى كيف احتمل السقوط بالإسقاط صريحا فإذا أسقطه يسقط .
و منها : هلاك المبيع لفوات محل الرد و منها نقصانه و جملة الكلام فيه أن نقصان المبيع لا يخلو إما أن يكون قبل القبض و إما أن يكون بعده و كل ذلك لا يخلو إما أن يكون بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو بفعل البائع أو بفعل المبيع أو بفعل أجنبي فإن كان قبل القبض بآفة سماوية أو بفعل المبيع فهذا و ما إذا لم يكن به عيب سواء و قد ذكرنا حكمه في بيع البات فيما تقدم إن المشتري بالخيار .
ثم إن كان النقصان قدر فإن شاء أخذ الباقي بحصته من الثمن و إن شاء ترك و إن كان نقصان وصف فإن شاء أخذه بجميع الثمن و إن شاء ترك لما ذكرنا هنالك .
و إن كان بفعل البائع فكذلك الجواب فيه و فيما إذا لم يكن به عيب سواء و هو أن المشتري بالخيار إن شاء أخذه و طرح عنه قدر النقصان الذي حصل بفعل البائع من الثمن و إن شاء ترك كما إذا لم يجد به عيبا و إن كان بفعل المشتري لا خيار له و يصير قابضا بالجناية و يتقرر عليه جميع الثمن إن لم يجد به عيبا كان عند البائع على ما ذكرنا فيما تقدم وإن وجد عيبا كان عند البائع فإن شاء رجع بنقصان العيب و إن شاء رضي به .
و إن قال البائع : أنا آخذه مع النقصان ليس للمشتري أن يحبسه و يرجع عليه بالنقصان بل يرده عليه و يسقط جميع الثمن و سنذكر الأصل في جنس هذه المسائل في بيان ما يمنع الرجوع بنقصان العيب و ما لا يمنع .
هذا إذا لم يوجد من البائع منع المبيع لاستيفاء الثمن بعدما صار المشتري قابضا بالجناية فأما إذا وجد منه منع بعد ذلك ثم وجد المشتري به عيبا له أن يرده على البائع و يسقط عن المشتري جميع الثمن لأنه بالمنع صار مستردا للمبيع ناقضا ذلك القبض فانتقض و جعل كأن لم يكن له فكان حق الرد على البائع و يسقط عنه جميع الثمن إلا قدر ما نقص بفعله .
و إن كان بفعل أجنبي فالمشتري بالخيار إن شاء رضي به بجميع الثمن و اتبع الجاني بالأرش كما إذا لم يجد المشتري بها عيبا .
هذا إذا حدث النقصان قبل القبض ثم وجد به عيبا فأما إذا حدث بعد القبض ثم وجد به عيبا فإن حدث بآفة سماوية أو بفعل المبيع أو بفعل المشتري لم يكن له أن يرده بالعيب عند عامة العلماء و قال مالك C : له أن يرده و يرد معه أرش العيب الحادث .
وجه قوله : أن حق الرد بالعيب ثبت نظرا للمشتري فلو امتنع إنما يمتنع نظرا للبائع و المشتري باستحقاق النظر أولى من البائع لأنه لم يدلس العيب و البائع قد دلس .
و لنا : ان شرط الرد أن يكون المردود عند الرد على الصفة التي كان عليها عند القبض و لم يوجد لأنه خرج عن ملك البائع معيبا بعيب واحد و يعود على ملكه معيبا بعيبين فانعدم شرط الرد فلا يرد و لو كان المبيع جارية فوطئها المشتري ثم اطلع على عيب بها فإن كانت بكرا لم يردها بالإجماع و إن كانت ثيبا فكذلك عندنا و قال الشافعي C ترد .
وجه قوله : أنه وجد سبب ثبوت حق الرد مع شرطه و ما بعد السبب و شرطه إلا الحكم أما السبب فهو العيب و قد وجد .
و أما الشرط فهو : أن يكون المردود وقت الرد كما كان وقت القبض و قد وجد لأن الوطء لا يوجب نقصان العين إذ هو استيفاء منافع البضع فأشبه الاستخدام بخلاف وطء البكر لأن العذرة عضو منها و قد أزالها بالوطء .
و لنا : أن منافع البضع لها حكم الأجزاء و الأعيان بدليل أنها مضمونة بالعين و غير العين لا يضمن بالعين هو الأصل و إذ قام الدليل على أن المنافع لا تضمن بالإتلاف عندنا أصلا فكان استيفاؤها في حكم إتلاف الأجزاء و الأعيان فانعدم شرط الرد فيمتنع الرد كما إذا قطع طرفا منها و كما وطء البكر بخلاف الاستخدام لأنه استيفاء منفعة محضة ما لها حكم الجزء و العين و لأنه لو ورد الجارية و فسخ العقد رفع من الأصل من كل وجه أو من وجه فتبين أن الوطء صادف ملك البائع من كل وجه أو من وجه و انه حرام فكان المنع من الرد طريق الصيانة عن الحرام و أنه واجب