بيان ما يخرج الكفيل بالنفس عن الكفالة .
و أما الكفيل بالنفس فيخرج عن الكفالة بثلاثة أشياء : .
أحداها : تسليم النفس إلى الطالب و هو التخلية بينه و بين المكفول بنفسه في موضع يقدر على إحضاره مجلس القاضي لأن التسليم في مثل هذا الموضع محصل للمقصود من العقد و هو إمكان استيفاء الحق بالمرافعة إلى القاضي فإذا حصل المقصود ينتهي حكمه فيخرج عن الكفالة .
و لو سلمه في صحراء أو برية لا يخرج لأنه لم يحصل المقصود و لو سلم في السوق أو في المصر يخرج سواء أطلق الكفالة أو قيدها بالتسليم في مجلس القاضي أما إذا أطلق فظاهر لأنه يتقيد بمكان يقدر على إحضاره مجلس القاضي بدلالة الغرض و كذا إذا قيد لأن التسليم في هذه الأمكنة تسليم في مجلس القاضي بواسطة و لو شرط أن يسلمه في مصر معين فسلمه في مصر آخر يخرج عن الكفالة عند أبي حنيفة و عندهما لا يخرج عنها إلا أن يسلمه في المصر المشروط .
وجه قولهما : أن التقييد بالمصر مفيد لجواز أن يكون للطالب بينة يقدر على إقامتها فيه دون غيره فكان التعيين مفيدا فيتقييد به .
وجه قول أبي حنيفة C ما ذكرنا : أن المقصود من تسليم النفس هو الوصول إلى الحق بالمرافعة إلى القاضي و هذا الغرض ممكن الاستيفاء من كل قاض فلا يصح التعيين و لو سلمه في السواد و لا القاضي فيه لا يخرج عن الكفالة لأن التسليم في مثل هذا المكان لا يصلح وسيلة إلى المقصود فكان وجوده و عدمه بمنزلة واحدة و لو شرط أن يدفعه إليه عند الأمير فدفعه إليه عند القاضي يخرج عن الكفالة .
و كذا إذا عزل الأمير و ولي غيره فدفعه إليه عند الثاني لأن التسليم عند كل من ولي ذلك محصل للمقصود فلم يكن التقييد مفيدا فلا يتقيده و لو كفل جماعة بنفس رجل كفالة واحدة فأحضره أحدهم برؤوا جميعا و إن كانت الكفالة متفرقة لم يبرأ الباقون .
و وجه الفرق : ان الداخل تحت الكفالة الواحدة فعل واحد و هو الإحضار و قد حصل ذلك بواحد و الداخل تحت الكفالات المتفرقة أفعال متفرقة فلا يحصل بإحضار واحد الإبراء به فيبرأ هو دون الباقين و ليس هذا كما إذا كفل جماعة بمال واحد كفالة واحدة أو متفرقة فأدى أحدهم برىء الباقون لأن الدين يسقط عن الأصيل بأداء المال فلا يبقى على الكفيل لما مر و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و او كفل بنفس رجل فإن لم يوف به غدا فعليه ما عليه و هو كذا فلقي الرجل الطالب فخاصمه الطالب و لا زمه فالمال على الكفيل و إن لا زمه إلى آخر اليوم لأنه لم يوجد من الكفيل الموافاة به .
و لو قال الرجل للطالب : قد دفعت نفسي إليك عن كفالة فلان يبرأ الكفيل من المال سواء كانت الكفالة بالنفس بأمره أو قال لأنه أقام نفسه مقام الكفيل في التسليم عنه فيصح التسليم كمن تبرع بقضاء دين غير أن هناك لا يجبر على القبول و هنا يجبر عليه .
و الفرق : أن انعدام الجبر على القبول في باب المال للتحرز عن لحوق المنة المطلوبة من جهة المتبرع لأن نفسه ربما لا تطاوعه بتحمل المنة فيتضرر به و هذا المعنى هنا معدوم لأن تسليم نفسه واجب عليه و لا منة في أداء الواجب سواء كانت الكفالة بالنفس بأمره أو بغير أمره لأن نفسه مضمون التسليم في الحالين .
و الثاني : الإبراء إذا أبرأ الطالب الكفيل من الكفالة بالنفس خرج عن الكفالة لأن حكم الكفالة بالنفس حق المطالبة بتسليم النفس و قد أسقط المطالبة عنه بالإبراء فينتهي الحق ضرورة و لا يكون هذا الإبراء للأصيل لأنه أسقط المطالبة عنه دون الأصيل و لو أبرأ الأصيل برأ جميعا لأن الكفالة بمضمون على الأصيل و قد بطل الضمان بالإبراء فينتهي حكم الكفالة .
و الثالث : موت المكفول بنفسه لأن الكفالة بمضمون على الأصيل و قد سقط الضمان عنه فيسقط عن الكفيل و الله عز و جل أعلم .
و أما الكفيل بالأعيان المضمونة بنفسها و الأفعال المضمونة تخرج عن الكفالة باحد أمرين : .
أحدهما : تسليم العين المضمونة بنفسها إن كانت قائمة و تسليم مثلها أو قيمتها إن كانت هالكة و يحصل الفعل المضمون و هو التسليم و الحمل .
و الثاني : الإبراء فلا يخرج بموت الغاصب و البائع و المكاري لأن نفس هؤلاء غير مكفول بها حتى يسقط بموتهم و الله تعالى أعلم .
فصل : و أما رجوع الكفيل فجملة الكلام في الرجوع في موضعين : .
أحدهما : في شرائط ولاية الرجوع .
و الثاني : في بيان ما يرجع به أما الشرط فأنواع : منها أن تكون الكفالة بأمر المكفول عنه لأن معنى الاستقراض لا يتحقق بدونه و لو كفل بغير أمره لا يرجع عليه عند عامة العلماء و قال مالك C يرجع و الصحيح قزل العامة لأن الكفالة بغير أمره تبرع بقضاء دين الغير فلا يحتمل الرجوع .
و منها : أن يكون بإذن صحيح و هو إذن من يجوز إقراره على نفسه بالدين حتى إنه لو كفل عن الصبي المحجور بإذنه فأدى لا يرجع لأن إذنه بالكفالة لم يصح لأنه من المكفول عنه استقراض و استقراض الصبي لا يتعلق به الضمان .
و أما العبد المحجور فإذنه بالكفالة صحيح في حق نفسه حتى يرجع عليه بعد العتاق لكن لا يصح في حق المولى فلا يؤخذ به في الحال و الله عز و جل أعلم .
و منها : إضافة الضمان إليه بأن يقول : اضمن عني و لو قال : اضمن كذا و لم يضف إلى نفسه لا يرجع لأنه إذا لم يضف إليه فالكفالة لم تقع إقراضا إياه فلا يرجع عليه .
و منها : اداء المال إلى الطالب أو ما هو في معنى الأداء إليه فلا يملك الرجوع قبل الأداء لأن معنى الإقراض و التمليك لا يتحقق إلا بأداء المال فلا يملك الرجوع قبله .
تم بحمد الله و حسن توفيقه .
المجلد الرابع و يتلوه المجلد الخامس و أوله تتمة كتاب الكفالة .
و آخره دعوانا الحمد لله رب العالمين .
* * *