القسم الأول ـ بيان حكم التوكيل .
فصل : و أما بيان حكم التوكيل فنقول و بالله التوفيق : حكم التوكيل صيرورة المضاف إليه وكيلا لأن التوكيل إثبات الوكالة و للوكالة أحكام .
منها : ثبوت ولاية التصرف الذي تناوله التوكيل فيحتاج إلى بيان ما يملكه الوكيل من التصرف بموجب التوكيل بعد صحته و ما لا يملكه فنقول و بالله التوفيق : الوكيل بالخصومة يملك الإقرار على موكله في الجملة عند أصحابنا الثلاثة و قال زفر و الشافعي رحمهما الله : لا يملك و الأب و الوصي و أمين القاضي لا يملك الإقرار على الصغير بالإجماع .
وجه قولهما : أن الوكيل بالخصومة وكيل بالمنازعة و الإقرار مسالمة فلا يتناوله التوكيل بالخصومة فلا يملكه الوكيل .
و لنا : أن التوكيل بالخصومة وكيل بالجواب الذي هو حق عند الله D و قد يكون ذلك إنكارا و قد يكون إقرارا فإذا أقر على موكله دل أن الحق هو الإقرار فينفذ على الموكل كما إذا أقر على موكله و صدقه الموكل ثم اختلف أصحابنا الثلاثة فيمل بينهم قال أبو حنيفة و محمد يصح إقراره في مجلس القاضي لا في غيره و قال أبو يوسف يصح فيه و في غيره .
وجه قوله : أن التوكيل تفويض ما يملكه الموكل إلى غيره و إقرار الموكل لا تقف صحته على مجلس القاضي فكذا اقرار الوكيل .
و لهما : أنه فوض الأمر إليه لكن في مجلس القاضي لأن التوكيل بالخصومة أو بجواب الخصومة و كل ذلك يختص بمجلس القاضي ألا يرى أن الجواب لا يلزم في غير مجلس القاضي و كذا الخصومة لا تندفع باليمين في غير مجلس القاضي فتتقيد بمجلس القاضي إلا أنه إذا أقر في غير مجلس القاضي يخرج عن الوكالة و ينعزل لأنه لو بقي وكيلا بالإقرار عينا لأن الإنكار لا يسمع منه للتناقض و الإقرار عينا غير موكل به و الوكيل بالخصومة في مال إذا قضى القاضي به يملك قبضه عند أصحابنا الثلاثة و عند زفر لا يملك .
وجه قوله : أن المطلوب من الوكيل بالخصومة الاهتداء و من الوكيل بالخصومة الاهتداء و من الوكيل بالقبض الأمانة و ليس كل من يهتدي إلى شيء يؤتمن عليه فلا يكون التوكيل بالخصومة توكيلا بالقبض .
و لنا : أنه لما وكله بالخصومة في مال فقد ائتمنه على قبضه لأن الخصومة لا تنتهي إلا بالقبض فكان التوكيل بها توكيلا بالقبض و الوكيل بتقاضي الدين يملك القبض في ظاهر الرواية لأن حق التقاضي لا ينقطع إلا بالقبض فكان التوكيل به توكيلا بالقبض و لأن التقاضي و الاقتضاء و الاستيفاء واحد إلا أن المتأخرين من أصحابنا قالوا : إنه لا يملك في عرف ديارنا لأن الناس في زماننا لا يرضون بقبض المتقاضي كالوكلاء على أبواب القضاة لتهمة الخيانة في أموال الناس و الوكيل بقبض الدين يملك الخصومة في إثبات الدين إذا أنكر الغريم عند أبي حنيفة و عندهما : لا يملك و هو رواية الحسن عن أبي حنيفة أيضا فيملك إقامة البينة .
و كذا لو أقام المدعي عليه البينة أن صاحب الدين استوفى منه أو أبرأه عنه قبلت بينته عنده و عندهما لا تقبل و لا يملك و أجمعوا في الوكيل بقبض العين إذا أنكر من في يده أنه لا يملك الخصومة حتى لا يملك إقامة البينة .
و لو أقام المدعى عليه البينة أنه اشتراها من الذي وكله بالقبض لا تسمع منه بينته في إثبات الشراء و لكنها تسمع لدفع خصومة الوكيل في الحال إلى أن يحضر الموكل و قالوا في الوكيل بطلب الشفعة و بالرد بالعيب و بالقسمة أنه يملك الخصومة .
وجه قولهما : أن التوكيل يقبض الدين توكيل باستيفاء عين الحق فلا يتعدى إلى الخصومة كالتوكيل بقبض العين و لأبي حنيفة أن التوكيل بقبض الدين توكيل بالمبادلة و الحقوق في مبادلة المال بالمال تتعلق بالعاقد كما في البيع و الإجارة و دلالة ذلك أن استيفاء عين الدين لا يتصور لأن الدين إما أن يكون عبارة عن الفعل و هو فعل تسليم المال و إما أن يكون عبارة عن مال حكمي في الذمة و كل ذلك لا يتصور استيفاؤه و لكن استيفاء الدين عبارة عن نوع مبادلة و هو مبادلة المأخوذ العين بما في ذمة الغريم و تمليكه بهذا القدر المأخوذ من المال فأشبه البيع و الخصومة في حقوق مبادلة المال بالمال فيملكه الوكيل بخلاف الوكيل بقبض الثمن لأن ذلك توكيل باستيفاء عين الحق لا بالمبادلة لأن عينه مقدور الاستيفاء فلا يملك الخصومة فيها إلا بأمر جديد فهو الفرق بين الفصلين فإذا لم يملك الخصومة لا تسمع بينة المدعى عليه على الشراء من الموكل بالقبض لأنها بينة قامت لا على خصم و لكنها تسمع في دفع قبض الوكيل .
و يجوز أن تكون البينة مسموعة من وجه دون وجه كمن وكل إنسانا بنقل زوجته إلى حيث هو فطالبها الوكيل بالانتقال فأقامت البينة على أن زوجها طلقها ثلاثا تسمع هذه البينة في اندفاع حق الوكيل في النقل و لا تسمع في إثبات الحرمة كذا هذا .
و كذلك الوكيل بأخذ الدار بالشفعة وكيل المبادلة لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء و كذا الرد بالعيب و القسمة فيها معنى المبادلة فكانت الخصومة فيها من حقوقها فيملكها الوكيل كالوكيل بالبيع و الوكيل بالقبض إذا أراد أن يوكل غيره .
هذا على وجهين : إما أن كانت الوكالة عامة بأن قال له وقت التوكيل بالقبض اصنع ما شئت أو ما صنعت من شيء فهو جائز علي أو نحو ذلك و إما أن كانت خاصة بأن لم يقل ذلك عند التوكيل بالقبض فإن كانت عامة يملك أن يوكل غيره بالقبض لأن الأصل فيما يخرج مخرج العموم إجراؤه على عمومه .
و إن كانت خاصة فليس له أن يوكل غيره بالقبض لأن الوكيل يتصرف بتفويض الموكل فيملك قدر ما فوض إليه فإن فعل ذلك و قبض الوكيل الثاني لم يبرأ الغريم من الدين لأن توكيله بالقبض إذا لم يصح فقبضه و قبض الأجنبي سواء فإن وصل إلى يد الوكيل الأول برئ الغريم لأنه وصل إلى يد من هو نائب الموكل في القبض .
و إن هلك في يده قبل أن يصل إلى الوكيل الأول ضمن القابض للغريم لأن قبضه بجهة استيفاء الدين و القبض بجهة استيفاء الدين قبض بجهة المبادلة على ما مر و المقبوض بجهة المبادلة مضمون على القابض كالمقبوض على سوم الشراء و كان له أن يرجع بما ضمن على الوكيل الأول لأنه صار مغرورا من جهته بتوكيله بالقبض فيرجع عليه إذ كل غار ضامن للمغرور بما لحقه من العهدة فيرجع عليه بضمان الكفالة و لا يبرأ الغريم من الدين لما قلنا أن توكيله بالقبض لم يصح فكان للطالب أن يأخذ الغريم بدينه و إذا أخذ منه رجع الغريم على الوكيل الثاني لما قلنا و يرجع الوكيل الثاني على الأول بحكم الغرور لما قلنا أن الوكيل بقبض الدين للموكل على إنسان معين أو في بلد معين لا يملك أن يتعدى إلى غيره لأن المتصرف بحكم الآمر لا يملك التعدي عن موضع الأمر و ليس للوكيل بقبض الدين أن يأخذ عوضا عن الدين و هو أن يأخذ عينا مكانه لأن هذه معاوضة مقصودة و إنها لا تدخل تحت التوكيل بقبض الدين و هذا لما بينا أن قبض الدين حقيقة لا يتصور لما ذكرنا فلا يتصور التوكيل بقبضه حقيقة إلا أن التوكيل بقبض الدين جعل توكيلا بالمعاوضة ضرورة تصحيح التصرف و دفع الحاجة المعلقة بالتوكيل بقبض الدين و حق الضرورة يصير مقضيا بثبوتها ضمنا للعقد فبقيت المعاوضة المقصودة خارجة عن العقد أصلا فلا يملكها الوكيل .
و لو كان لرجل على رجل دين فجاء إنسان إلى الغريم و قال إن الطالب أمرني أن أقبضه منك فإن صدقه الغريم و أراد أن يدفع إليه لا يمنع منه و إن أبى أن يدفع إليه يجبر على الدفع في الدين و في العين لا يجبر عليه .
و الفرق : أن التصديق في الدين إقرار على نفسه فكان مجبورا على التسليم و في العين إقرار على غيره فلا يصح إلا بتصديق ذلك الغير .
و إن لم يصدقه لم يجبر على الدفع فإن دفعه إليه ثم جاء الطالب فإن صدقه مضى الأمر و إن كذبه و أنكر أن يكون وكله بذلك فهذا على وجوه ثلاثة : إما أن صدقه و دفعه إليه و إما أن كذبه و مع ذلك دفع إليه و إما أن لم يصدقه و لم يكذبه و دفع إليه فإن صدقه في الوكالة و لم يضمنه فجاء الطالب يقال له ادفع الدين إلى الطالب و لا حق لك على الوكيل لأنه لما صدقه في الوكالة فقد أقر بوكالته و إقراره صحيح في حق نفسه فكأنه يقول : إن الوكيل كان محقا في القبض و إن الطالب ظالم فيما يقبض مني و إن ظلم على مبطل فلا أظلم على محق و إن صدقه و ضمنه ما دفع إليه ثم حضر الطالب فأخذ منه يرجع هو على القابض لأن الغريم و إن أقر أن القابض محق في القبض بتصديقه إياه في الوكالة فعنده أن الطالب مبطل فيه ظالم فيما يقبض منه فإذا ضمنه فقد أضاف الضمان إلى ما يقبضه الطالب عنه بغير حق و إضافة الضمان إلى المقبوض المضمون صحيح كما إذا قال : ما غصبك فلان فعلي .
و إن كذبه في الوكالة و مع ذلك دفع إليه له أن يضمن الوكيل لأن عنده أنه مبطل في القبض و إنما دفعه إليه على رجاء أن يجوزه الطالب .
و كذا إذا لم يصدق و لم يكذب لأنه لم يوجد منه الإقرار بكونه محقا في القبض فيملك الرجوع عليه الوكيل بقبض الدين إذا قبضه فوجده معيبا فما كان للموكل رده فله رده و أخذ بدله لأنه قائم مقام الموكل فهو يملك قبض حقه أصلا و وصفا فكذا الوكيل .
و لو وكل رجلا بقبض دين له على رجل و غاب الطالب فادعى الغريم أنه قد أوفاه الطالب لا يحتاج الوكيل إلى إقامة البينة و لا إلى إحضار الطالب ليحلفه لكن يقال للغريم : ادفع الدين إلى الوكيل ثم اتبع الطالب و حلفه إن أردت يمينه فإن حلف و إلا رجعت عليه لأنه مقر بالدين و الدين مقضي على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يحكم بسقوطه بدعوى الإيفاء مع الاحتمال بل يجبر على التسليم إلى الوكيل .
و كذلك الوكيل بطلب الشفعة إذا ادعى المشتري أن الشفيع قد سلم الشفعة يؤمر بتسليم الدار إلى الوكيل ثم يقال له اتبع الشفيع و حلفه إن أردت يمينه لأن المشتري مقر بثبوت حق الشفعة لأن تسليم الشفعة بعد ثبوتها يكون فلا يبطل الحق الثابت بدعوى التسليم مع الاحتمال فيؤمر بتسليم المشتري إلى الوكيل و هذا بخلاف الوكيل بالرد بالعيب إذا ادعى البائع أن المشتري قد رضي بالعيب أنه لا يكون للوكيل حق الرد حتى يحضر الموكل فيحلف بالله تعالى ما رضي بهذا العيب لأن البائع بقوله رضي المشتري بالعيب لم يقر بثبوت حق الرد بالعيب إذ ليس كل عيب موجبا للرد .
ألا ترى أنه لو اشتراه و هو عالم بعيبه ليس له حق الرد مع وجود العيب فيتوقف على حضور الموكل و يمينه فإن أراد الغريم أن يحلف الوكيل بالله D ما يعلم أن الطالب قد استوفى الدين لم يكن له أن يحلفه عند أبي حنيفة و أبي يوسف .
و قال زفر : يحلفه على علمه فإن أبى أن يحلف خرج عن الوكالة و لم يبرأ الغريم و كان الطالب على حجته .
وجه قول زفر : أن هذا أمر لو أقر به الوكيل للزمه و سقط حقه من القبض فإذا أنكر يستحلف لجواز أنه ينكل عن اليمين فيسقط حقه .
و لنا : قول النبي عليه الصلاة السلام : [ و اليمين على المدعى عليه ] و الغريم ما ادعى على الوكيل سيئا و إنما ادعى على الموكل فكانت اليمين عليه و اليمين مما لا تجري فيه النيابة فلا يثبت للغريم ولاية استخلاف الوكيل و هذا بخلاف ما إذا مات الطالب فادعى الغريم أنه قد كان استوفاه حال حياته و أنكر الوارث أن له أن يستخلف الوارث على علمه بالله تعالى ما يعلم أن الطالب استوفى الدين لأن هناك الوارث مدعى عليه لأن الغريم يدعي عليه بطلان حقه في الاستيفاء الذي هو حقه فلم يكن استحلافه بطريق النيابة عن المورث إلا أنه يستخلف على علمه لأنه يستخلف على فعل غيره و كل من يستخلف على فعل باشره غيره يستخلف على العلم لا البت لأنه لا علم له به أنه فعل ذلك أو لم يفعل .
فإن أقام الغريم البينة على الإيفاء سمعت بينته عند أبي حنيفة و عندهما لا تسمع و هو رواية الحسن عن أبي حنيفة بناء على أن الوكيل بقبض الدين هل يكون وكيلا بالخصومة فيه عنده يكون و عندهما لا يكون لما تقدم .
و كذلك على هذا الاختلاف إذا أقام الغريم البينة أنه أعطى الطالب بالدراهم الدنانير أو باعه بها عرضا فبينته مسموعة عنده و عندهما غير مسموعة لأن إيفاء الدين بطريقي المبادلة و المقاصة و يستوي فيهما الجنس و خلاف الجنس فكان الخلاف في الكل ثابتا .
و أما الوكيل بالبيع فالتوكيل بالبيع لا يخلو إما أن يكون مطلقا و إما أن يكون مقيدا فإن كان مقيدا يراعى فيه القيد بالإجماع حتى أنه إذا خالف قيده لا ينفذ على الموكل و لكن يتوقف على إجازته إلا أن يكون خلافه إلى خير لما مر أن الوكيل يتصرف بولاية مستفادة من قبل الموكل فيلي من التصرف قدر ما ولاه .
و إن كان الخلاف إلى خير فإنما نفذ لأنه إن كان خلافا صورة فهو وفاق معنى لأنه آمر به دلالة فكان متصرفا بتولية الموكل فنفذ بيان هذه الجملة إذا قال بع عبدي هذا بألف درهم فباعه بأقل من الألف لا ينفذ .
و كذا إذا باعه بغير الدراهم لا ينفذ و إن كانت قيمته أكثر من ألف درهم لأنه خلاف إلى شر لأن أغراض الناس تختلف باختلاف الأجناس فكان في معنى الخلاف إلى شر و إن باعه بأكثر من ألف درهم نفذ لأنه خلاف إلى خير فلم يكن خلافا أصلا .
و كذلك على هذا لو وكله بالبيع بألف درهم حالة فباعه بألف نسيئة لم ينفذ بل يتوقف لما قلنا و إن وكله بأن يبيعه بألف درهم نسيئة فباعه بألف حالة نفذ لما قلنا و إن وكله بأن يبيع و يشترط الخيار للآمر فباعه و لم يشترط الخيار لم يجز بل يتوقف .
و لو باع و شرط الخيار للآمر ليس له أن يجيز لأنه لو ملك الإجازة بنفسه لم يكن للتقييد فائدة .
هذا إذا كان التوكيل بالبيع مقيدا فأما إذا كان مطلقا فيراعى فيه الإطلاق عند أبي حنيفة فيملك البيع بالقليل و الكثير .
و عندهما : لا يملك البيع إلا بما يتغابن الناس في مثله و روى الحسن عن أبي حنيفة مثل قولهما .
وجه قولهما : أن مطلق البيع ينصرف إلى البيع المتعارف و البيع بغبن فاحش ليس بمتعارف فلا ينصرف إليه كالتوكيل بالشراء .
و لأبي حنيفة : أن الأصل في اللفظ المطلق أن يجري على إطلاقه و لا يجوز تقييده إلا بدليل و العرف متعارض فإن البيع بغبن فاحش لغرض التوصل بثمنه إلى شراء ما هو أربح منه متعارف أيضا فلا يجوز تقييد المطلق مع التعارض مع أن البيع بغبن فاحش إن لم يكن متعارفا فعلا فهو متعارف ذكرا و تسمية لأن كل واحد منهما يسمي بيعا أو هو مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب لغة و قد وجد و مطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف ذكرا و تسمية من غير اعتبار الفعل .
ألا ترى أن من حلف لا يأكل لحما فأكل لحم الآدمي أو لحم الخنزير يحنث و إن لم يكن أكله متعارفا لكونه متعارفا إطلاقا و تسمية كذا هذا .
و أما التوكيل بالشراء فالجواب عنه من وجهين : .
أحدهما : أن جوازه ثبت على خلاف القياس لكونه أمرا بالتصرف في مال غيره و ذكر الثمن فيه تبع .
ألا ترى أنه يصح بدون ذكر الثمن إلا أنه جوز باعتبار الحاجة إذ كل أحد لا يتهيأ له أن يشتري بنفسه فيحتاج إلى من يوكل به غيره و الحاجة إلى التوكيل بالشراء بثمن جرى التعارف بشراء مثله بمثله فينصرف الأمر بمطلق الشراء إليه ألبتة الثاني المشتري منهم بهذا الاحتمال أنه يشتري لنفسه فلما تبين فيه الغبن أظهر الشراء للموكل و مثل هذه التهمة في البيع منعدمة فهو الفرق .
و كذلك يملك البيع بغير الأثمان المطلقة عنده .
و عندهما : لا يملك و هو قول الشافعي C و يملك البيع بالنقد و النسيئة عنده و عندهما : لا يملك إلا بالنقد و الحجج من الطرفين على نحو ما ذكرنا في البيع بغبن فاحش .
و لو باع الوكيل بعض ما وكل بيعه فهو على وجهين : إما أن كان ذلك مما لا ضرر في تبعيضه كالمكيل و الموزون بأن كان وكيلا ببيع عبدين فباع أحدهما جاز بالإجماع .
و إن كان في تبعيضه ضرر بأن وكله ببيع عبد فباع نصفه جاز عند أبي حنيفة C و عندهما : لا يجوز إلا بإجازة الموكل أو ببيع النصف الباقي و لو كان وكيلا بالشراء فاشترى نصفه لم يلزم الآمر إجماعا إلا أنه يشتري الباقي و يجيزه الموكل .
وجه قولهما : الجمع بين الشراء و البيع بجامع و هو العرف و العادة و وجوب دفع الضرر الحاصل بالشركة في الأعيان و لأبي حنيفة الفرق بين البيع و الشراء على ما مر ألا يرى أن عنده لو باع الكل بهذا القدر من الثمن يجوز فلأن يجوز بيع البعض به أولى لأنه نفع موكله حيث أمسك البعض على ملكه و بهذا فارق الشراء لأن الوكيل بالشراء إذا اشترى النصف بثمن الكل لا يجوز و الوكيل بالبيع يملك إبراء المشتري عن الثمن و له أن أن يؤخره عنه و له أن يأخذ به عوضا و له أن يصالح على شيء و يحتال به على إنسان و هذا قول أبي حنيفة و قال أبي يوسف و محمد : لا يملك شيئا من ذلك .
وجه قولهما : أن الوكيل بالإبراء و إخواته تصرف في ملك الموكل من غير إذنه فلا ينفذ عليه كما لو فعلها أجنبي .
وجه قوله : أنه تصرف في حق نفسه بالإبراء لأن قبض الثمن حقه فكان الإبراء عن الثمن إبراء عن قبضه تصحيحا لتصرفه بقدر الإمكان و لو أسقط حق القبض لسقط الدين ضرورة لأنه لو بقي لبقي دينا لا يحتمل القبض أصلا و هذا مما لا نظير له في أصول الشرع و لأن دينا لا يحتمل القبض و الاستيفاء بوجه لا يفيد فيسقط ضرورة و يضمن الثمن للموكل لأنه و إن تصرف في حق نفسه لكنه تعدى إلى ملك غيره بالإتلاف فيجب عليه الضمان .
و كذا إذا أخذ بالثمن عوضا عن المشتري لأنه ملك منه القبض الذي هو حقه فيصح و متى ملك ذلك فيملك رقبة الدين ضرورة بما أخذه من العوض و يضمن لما ذكرنا و كذا إذا صالحه على شيء لأن الصلح مبادلة و كذا إذا أحاله المشتري بالثمن على إنسان و قبل الوكيل الحوالة لأنه بقبول الحوالة تصرف في حق نفسه بالإبراء عنه لأن الحوالة مبرئة و ذلك يوجب سقوط الدين عن المحيل فيه لما ذكرنا و يضمن لما قلنا