بيان ما يخرج به الوكيل عن الوكالة .
فصل : و أما بيان ما يخرج به الوكيل عن الوكالة فنقول و بالله التوفيق الوكيل يخرج عن الوكالة بأشياء منها عزل الموكل إياه و نهيه لأن الوكالة عقد غير لازم فكان محتملا للفسخ بالعزل و النهي و لصحة العزل شرطان : .
أحدهما : علم الوكيل به لأن العزل فسخ للعقد فلا يلزم حكمه إلا بعد العلم به كالفسخ فإذا عزله و هو حاضر انعزل و كذا لو كان غائبا فكتب إليه كتاب العزل فبلغه الكتاب و علم بما فيه انعزل لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر .
و كذلك لو أرسل إليه رسولا فبلغ الرسالة و قال : إن فلانا أرسلني إليك و يقول إني عزلتك عن الوكالة فإنه ينعزل كائنا ما كان الرسول عدلا كان أو غير عدل حرا كان أو عبدا صغيرا كان أو كبيرا بعد أن بلغ الرسالة على الوجه الذي ذكرنا لأن الرسول قائم مقام المرسل معبر و سفير عنه فتصح سفارته بعد أن صحت عبارته على أي صفة كان و إن لم يكتب كتابا و لا أرسل رسولا و لكن أخبره بالعزل رجلان عدلان كانا أو غير عدلين أو رجل واحد عدل ينعزل في قولهم جميعا سواء صدقه الوكيل أو لم يصدقه إذا ظهر صدق الخبر لأن خبر الواحد مقبول في المعاملات فإن لم يكن عدلا فخبر العدلين أو العدل أولى و إن أخبره غير عدل فإن صدقه ينعزل بالإجماع و إن كذبه لا ينعزل و إن ظهر صدق الخبر في قول أبي حنيفة و عندهما : ينعزل إذا ظهر صدق الخبر و إن كذبه .
وجه قولهما : أن الأخبار عن العزل من باب المعاملات فلا يشترط فيه العدد و لا العدالة كما في الأخبار في سائر المعاملات .
وجه قول أبي حنيفة : أن الأخبار عن العزل له شبه الشهادة لأن فيه التزام حكم المخبر به و هو العزل و هو لزوم الامتناع من التصرف و لزوم العهدة فيما يتصرف فيه بعد العزل فأشبه الشهادة فيجب اعتبار أحد شروطها و هو العدالة أو العدد .
و على هذا الاختلاف الشفيع إذا أخبره بالبيع واحد غير عدل فلم يصدقه و لم يطلب الشفعة حتى ظهر عنده صدق الخبر فهو على شفعته عند أبي حنيفة و عندهما بطلت شفعته .
و على هذا الاختلاف إذا جنى العبد جناية في بني آدم ثم أخبر غير عدل مولاه أن عبده قد جنى فلم يصدقه حتى أعتقه لا يصير المولى مختارا للفداء عند أبي حنيفة و عندهما يصير مختارا للفداء .
و على هذا الاختلاف العبد المأذون إذا بلغه حجر المولى من غير عدل فلم يصدقه لا يصير محجورا عنده و عندهما يصير محجورا و إن عزله الموكل و أشهد على عزله و هو غائب و لم يخبره بالعزل أحد لا ينعزل و يكون تصرفه قبل العلم بعد العزل كتصرفه قبل العزل في جميع الأحكام التي بيناها .
و عن أبي يوسف في الموكل إذا عزل الوكيل و لم يعلم به فباع الوكيل و قبض الثمن فهلك الثمن في يد الوكيل و مات العبد قبل التسليم إلى المشتري كان للمشتري أن يرجع بالثمن على الوكيل و يرجع الوكيل على الموكل كما قبل العزل سواء لأن العزل لم يصح لانعدام شرط صحته و هو العلم .
و الثاني : أن لا يتعلق بالوكالة حق الغير فأما إذا تعلق بها حق الغير فلا يصح العزل بغير رضا صاحب الحق لأن في العزل إبطال حقه من غير رضاه و لا سبيل إليه و هو كمن رهن ماله عند رجل بدين له عليه أو وضعه على يدي عدل و جعل المرتهن أو العدل مسلطا على بيعه و قبض ثمنه عند حل الأجل فعزل الراهن المسلط على البيع لا يصح به عزلنا لما ذكرنا .
و كذلك إذا وكل المدعى عليه وكيلا بالخصومة مع المدعى بالتماس المدعي فعزله المدعى عليه بغير حضرة المدعي لا ينعزل لما ذكرنا .
و اختلف المشايخ فيمن وكل رجلا بطلاق امرأته إن غاب ثم عزله الزوج من غير الزوج من غير حضرة المرأة ثم غاب .
قال بعضهم : لا يصح عزله لأنه تعلق بهذه الوكالة حق المرأة فأشبه الوكيل بالخصومة .
و قال بعضهم : يصح عزله لأنه غير مجبور على الطلاق و لا على التوكيل به إنما فعله باختياره فيملك عزله كما في سائر الوكالات و لو وكل وكالة غير جائز الرجوع يعني بالفارسية وكيلي [ دماركست ] هل يملك عزله .
اختلف المشايخ : قال بعضهم : إن كان ذلك في الطلاق و العتاق لا يملك لأنه لما وكله وكالة ثابتة غير جائز الرجوع عنها فقد ألحق حكم هذا التوكيل بالأمر ثم جعل أمر امرأته إلى رجل يطلقها متى شاء أو أمر عبده إلى رجل يعتقه متى شاء لا يملك الرجوع عنه .
و كذا إذا قال لرجل : طلق امرأتي إن شئت أو أعتق عبدي إن شئت لا يملك عزله كذا هذا و إن كان في البيع و الشراء و الإجارة و النكاح و نحوه يملك عزله و قال بعضهم إنه يملك العزل في الكل لأن الوكالة ليست بلازمة بل هي إباحة و للمبيح حق المنع عن المباح .
و لو قال وقت التوكيل : كلما عزلتك فأنت وكيلي وكالة مستقبلية فعزله ينعزل و لكنه يصير وكيلا ثانيا وكالة مستقبلة كما شرط لأن تعليق الوكالة بالشرط جائز .
و لو قال الموكل للوكيل : كنت وكلتك و قلت لك كلما عزلتك فأنت وكيلي فيه و قد عزلتك عن ذلك كله لا يصير وكيلا بعد ذلك إلا بتوكيل جديد لأن من علق التوكيل بشرط ثم عزله عن الوكالة قبل وجود الشرط ينعزل الوكيل و لا يصير وكيلا بعد ذلك بوجود الشرط .
و قال بعضهم في التوكيل المعلق : لا يملك العزل قبل وجود الشرط و يكون الوكيل على وكالته بعد العزل وكالة مستقبلية و الأول أصح لأنه لما ملك العزل في المرسل ففي المعلق أولى .
و منها : موت الموكل لأن التوكيل بأمر الموكل و قد بطلت أهلية الآمر بالموت فتبطل الوكالة علم الوكيل بموته أم لا .
و منها : جنونه جنونا مطبقا لأن الجنون المطبق مبطل لأهلية الآمر و اختلف أبو يوسف و محمد في حد الجنون المطبق فحده أبو يوسف بما يستوعب الشهر و محمد بما يستوعب الحول .
وجه قول محمد : أن المستوعب للحول هو المسقط للعبادات كلها فكان التقدير به أولى .
وجه قول أبي يوسف : أن هذا القدر أدنى ما يسقط به عبادة الصوم فكان التقدير به أولى .
و منها : لحاقه بدار الحرب مرتدا عند أبي حنيفة و عندهما لا يخرج به الوكيل عن الوكالة بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده فكانت وكالة الوكيل موقوفة أيضا فإن أسلم الموكل نفذت .
و إن قتل على الردة أو لحق بدار الحرب بطلت و عندهما تصرفاته نافذة فكذا بالوكالة و إن كان الموكل امرأة فارتدت فالوكيل على وكالته حتى تموت أو تلحق بدار الحرب إجماعا لأن ردة المرأة لا تمنع نفاذ تصرفها لأنها لا تؤثر فيما رتب عليه النفاذ و هو الملك .
و منها : عجز الموكل و الحجر عليه بأن وكل المكاتب رجلا فعجز الموكل و كذا إذا وكل المأذون إنسانا فحجر عليه لأنه بالعجز و الحجر عليه بطلت أهلية أمره بالتصرف في المال فيبطل الآمر فتبطل الوكالة .
و منها : موت الوكيل لأن الموت مبطل لأهلية التصرف و منها جنونه المطبق لما ذكرنا و إن لحق بدار الحرب مرتدا لم يجز له التصرف إلا أن يعود مسلما لأن أمره قبل الحكم بلحاقه بدار الحرب كان موقوفا فإن عاد مسلما زال التوقف و صار كأنه لم يرتد أصلا و إن حكم بلحاقه بدار الحرب ثم عاد مسلما هل تعود الوكالة قال أبو يوسف : لا تعود و قال محمد : تعود .
وجه قوله : أن نفس الردة لا تنافي الوكالة ألا ترى أنها لا تبطل قبل لحاقه بدار الحرب إلا أنه لم يجز تصرفه في دار الحرب لتعذر التنفيذ لاختلاف الدارين فإذا عاد زال المانع فيجوز .
و نظيره من وكل رجلا ببيع عبد بالكوفة فلم يبعه فيها حتى خرج إلى البصرة لا يملك بيعه بالبصرة ثم إذا عاد إلى الكوفة ملك بيعه فيها كذا هذا .
وجه قول أبي يوسف : أن الوكالة عقد حكم ببطلانه بلحاقه بدار الحرب فلا يحتمل العود كالنكاح .
و أما الموكل إذا ارتد و لحق بدار الحرب ثم عاد مسلما لا تعود الوكالة في ظاهر الرواية .
و روي عن محمد : أنها تعود و وجهه أن بطلان الوكالة لبطلان ملك الموكل فإذا عاد مسلما عاد ملكه الأول فيعود بحقوقه .
وجه ظاهر الرواية : أن لحوقه بدار الحرب بمنزلة الموت و لو مات لا يحتمل العود فكذا إذا لحق بدار الحرب .
و منها : أن يتصرف الموكل بنفسه فيما وكل به قبل تصرف الوكيل نحو ما إذا وكله ببيع عبده فباعه الموكل أو أعتقه أو دبره أو كاتبه أو وهبه و كذا إذا استحق أو كان حر الأصل لأن الوكيل عجز عن التصرف لزوال ملك الموكل فينتهي حكم الوكالة كما إذا هلك العبد و لو باعه الموكل بنفسه ثم رد عليه بعيب بقضاء هل تعود الوكالة كما إذا هلك العبد ؟ .
قال أبو يوسف : لا تعود .
و قال محمد : تعود لأن العائد بالفسخ عين الملك الأول فيعود بحقوقه .
وجه قول أبي يوسف : أن تصرف الموكل نفسه يتضمن عزل الوكيل لأنه أعجزه عن التصرف فيما وكله به و الوكيل بعدما انعزل لا يعود وكيلا إلا بتحديد التوكيل و لو وكله أن يهب عبده فوهبه الموكل بنفسه ثم رجع في هبته لا تعود الوكالة حتى لا يملك الوكيل أن يهبه فمحمد يحتاج إلى الفرق بين البيع و بين الهبة .
ووجه الفرق له : لم يتضح و كذلك إذا وكله بشراء شيء ثم اشتراه بنفسه و كذا إذا وكله بتزويج امرأة فتزوجها لأنه عجز عن تزويجها منه فبطلت الوكالة .
و كذا إذا وكله بعتق عبده أو بالتدبير أو بالكتابة أو الهبة ففعل بنفسه لما قلنا و كذا إذا وكله بخلع امرأته ثم خلعها لأن المختلعة لا تحتمل الخلع و كذا إذا وكله بطلاق امرأته فطلقها بنفسه ثلاثا أو واحدة فانقضت عدتها لأنها لا تحتمل الطلاق بعد الثلاث و انقضاء العدة حتى لو طلقها الزوج واحدة و العدة باقية فالوكالة قائمة لأنها تحتمل الطلاق بعد الثلاث و انقضاء العدة حتى لو طلقها الزوج واحدة و العدة باقية فالوكالة قائمة لأنها لا تحتمل الطلاق في العدة و لو وكله بالكتابة فكاتبه ثم عجز لم يكن له أن يكاتبه مرة ثانية و كذا وكله أن يزوجه امرأة فزوجه و أبانها لم يكن للوكيل أن يزوجه مرة أخرى لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار فإذا فعل مرة حصل الامتثال فانتهى حكم الآمر كما في الأوامر الشرعية بخلاف ما لو وكله ببيع عبده فباعه الوكيل ثم رد عليه بقضاء قاض أن له أن يبيعه ثانيا لأن الرد بقضاء القاضي يوجب ارتفاع العقد من الأصل و يجعله كأن لم يكن فلم يكن هذا تكررا حتى لو رد عليه بغير قضاء قاض لم يجز له أن يبيعه لأن هذا بيع جديد و قد انتهت الوكالة بالأول فلا يملك الثاني إلا بتجديد التوكيل .
و منها : هلاك العبد الذي وكل ببيعه أو بإعتاقه أو بهبته أو بتدبيره أو بكتابته أو نحو ذلك لأن التصرف في المحل لا يتصور بعد هلاكه و الوكالة بالتصرف فيما لا يحتمل التصرف بحال فبطل .
ثم هذه الأشياء التي ذكرنا له أن يخرج بها الوكيل من الوكالة سوى العزل و النهي لا يفترق الحال فيها بين ما إذا علم الوكيل أو لم يعلم في حق الخروج عن الوكالة لكن تقع المفارقة فيما بين البعض و البعض من وجه آخر و هو أن الموكل إذا باع العبد الموكل ببيعه بنفسه و لم يعلم به الوكيل فباعه الوكيل و قبض الثمن فهلك الثمن في يده و مات العبد قبل التسليم إلى المشتري و رجع المشتري على الوكيل بالثمن رجع الوكيل على الموكل .
و كذا لو دبره أو أعتقه أو استحق أو كان حر الأصل و فيما إذا مات الموكل أو جن أو هلك العبد الذي وكل ببيعه و نحوه لا يرجع الوكيل و الفرق : أن الوكيل هناك و إن صار معزولا بتصرف الموكل لكنه صار مغرورا من جهته بترك إعلامه إياه فصار كفيلا له بما يلحقه من الضمان فيرجع عليه بضمان الكفالة إذ ضمان الغرور في الحقيقة ضمان الكفالة و معنى الغرور لا يتقدر في الموت و هلاك العبد و الجنون و أخواتها فهو الفرق و لو وكله بقبض دين على رجل ثم إن الموكل وهب المال للذي عليه الدين و الوكيل لا يعلم بذلك فقبض الوكيل المال فهلك في يده كان لدافع الدين أن يأخذ به الموكل و لا ضامن على الوكيل لأن يد الوكيل يد نيابة عن الموكل لأنه قبضه بأمره و قبض النائب كقبض المنوب عنه فكأنه قبضه بنفسه بعدما وهبه منه و لو كان كذلك لرجع عليه فكذا هذا و الله D أعلم