- والنظر في هذا الكتاب فيما هو الفلس وفي أحكام المفلس فنقول : إن الإفلاس في الشرع يطلق على معنيين : أحدهما أن يستغرق الدين مال المدين فلا يكون في ماله وفاء بديونه . والثاني أن لا يكون له مال معلوم أصلا وفي كلا الفلسين قد اختلف العلماء في أحكامهما . فأما الحالة الأولى وهي إذا ظهر عند الحاكم من فلسه ما ذكرنا فاختلف العلماء في ذلك هل للحاكم أن يحجر عليه التصرف في ماله حتى يبيعه عليه ويقسمه على الغرماء على نسبة ديونهم أم ليس له ذلك ؟ بل يحبس حتى يدفع إليهم جميع ماله على أي نسبة اتفقت أو لمن اتفق منهم وهذا الخلاف بعينه يتصور فيمن كان له مال يفي بدينه فأبى أن ينصف غرماءه هل يبيع عليه الحاكم فيقسمه عليهم أم يحبسه حتى يعطيهم بيده ما عليه ؟ فالجمهور يقولون : يبيع الحاكم ماله عليه فينصف منه غرماءه أو غريمه إن كان مليا أو يحكم عليه بالإفلاس إن لم يف ماله بديونه ويحجر عليه التصرف فيه وبه قال مالك والشافعي وبالقول الآخر قال أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق . وحجة مالك والشافعي حديث معاذ بن جبل " أنه كثر دينه في عهد رسول الله A فلم يزد غرماءه على أن جعله لهم من ماله وحديث أبي سعيد الخدري " أن رجلا أصيب على عهد رسول الله A في ثمر ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله A : تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء بدينه فقال رسول الله A : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " وحديث عمر في القضاء على الرجل المفلس في حبسه وقوله فيه : أما بعد فإن الأسيفع " أسيفع جهينة " رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج وأنه ادان معرضا فأصبح قدرين عليه فمن كان له عليه دين فليأتينا . وأيضا من طريق المعنى فإنه إذا كان المريض محجورا عليه لمكان ورثته فأحرى أن يكون المدين محجورا عليه لمكان الغرماء وهذا القول هو الأظهر لأنه أعدل والله أعلم . وأما حجج الفريق الثاني الذين قالوا بالحبس حتى يعطي ما عليه أو يموت محبوسا فيبيع القاضي حينئذ ماله ويقسمه على الغرماء فمنها حديث جابر بن عبد الله حين استشهد أبوه بأحد وعليه دين فلما طالبه الغرماء قال جابر " فأتيت النبي A فكلمته فسألهم أن يقبلوا مني حائطي ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم رسول الله A حائطي قال : ولكن سأغدو عليك قال : فغدا علينا حين أصبح فطاف بالنخل فدعا في ثمرها بالبركة قال : فجذذتها فقضيت منها حقوقهم وبقي من ثمرها بقية " وبما روي أيضا أنه مات أسيد بن الحضير وعليه عشرة آلاف درهم فدعا عمر بن الخطاب غرماءه فقبلهم أرضه أربع سنين مما لهم عليه . قالوا : فهذه الآثار كلها ليس فيها أنه بيع أصل في دين قالوا : يدل على حبسه قوله A " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " قالوا : العقوبة هي حبسه . وربما شبهوا استحقاق أصول العقار عليه باستحقاق إجازته وإذا قلنا إن المفلس محجور عليه فالنظر في ماذا يحجر عليه وبأي ديون تكون المحاصة في ماله وفي أي شيء من ماله تكون المحاصة ؟ وكيف تكون ؟ . فأما المفلس فله حالان : حال في وقت الفلس قبل الحجر عليه وحال بعد الحجر . فأما قبل الحجر فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله عند مالك بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ومما لا تجري العادة بفعله وإنما اشترط إذا كان مما لا يلزمه لأن له أن يفعل ما يلزم بالشرع وإن لم يكن بعوض كنفقته على الآباء المعسرين أو الأبناء وإنما قيل مما لم تجر العادة بفعله لأن له إتلاف اليسير من ماله بغير عوض كالأضحية والنفقة في العيد والصدقة اليسيرة وكذلك تراعي العادة في إنفاقه في عوض كالتزوج والنفقة على الزوجة ويجوز بيعه وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة وكذلك يجوز إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه . واختلف قول مالك في قضاء بعض غرمائه دون بعض وفي رهنه .
وأما جمهور من قال بالحجر على المفلس فقالوا : هو قبل الحكم كسائر الناس وإنما ذهب الجمهور لهذا لأن الأصل هو جواز الأفعال حتى يقع الحجر ومالك كأنه اعتبر المعنى نفسه وهو إحاطة الدين بماله لكن لم يعتبره في كل حال لأنه يجوز بيعه وشراؤه إذا لم يكن فيه محاباة ولا يجوزه للمحجور عليه . وأما حاله بعد التفليس فلا يجوز له فيها عند مالك بيع ولا شراء ولا أخذ ولا عطاء لا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيد قيل إلا أن يكون لواحد منهم بينة وقيل يجوز لمن يعلم منه إليه تقاض . واختلف في إقراره بمال معين مثل القراض والوديعة على ثلاثة أقوال في المذهب : بالجواز والمنع والثالث بالفرق بين أن يكون على أصل القراض أو الوديعة ببينة أو لا تكون فقيل إن كانت صدق وإن لم تكن لم يصدق . واختلفوا من هذا الباب في ديون المفلس المؤجلة هل تحل بالتفليس أم لا ؟ فذهب مالك إلى أن التفليس في ذلك كالموت وذهب غيره إلى خلاف ذلك وجمهور العلماء على أن الديون تحل بالموت . قال ابن شهاب : مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات . وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين فالورثة في ذلك بين أحد أمرين : إما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في المواريث إلى محل أجل الدين فيلزم أن يجعل الدين حالا وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحل الديون فتكون الديون حينئذ في التركة خاصة لا في ذممهم بخلاف ما كان عليه الدين قبل الموت لأنه كان في ذمة الميت وذلك يحسن في حق ذي الدين . ولذلك رأى بعضهم أنه إن رضي الغرماء بتحمله في ذممهم أبقيت الديون إلى أجلها وممن قال بهذا القول ابن سيرين واختاره أبو عبيد من فقهاء الأمصار لكن لا يشبه الفلس في هذا المعنى الموت كل الشبه وإن كانت كلا الذمتين قد خربت فإن ذمة المفلس يرجى المال لها بخلاف ذمة الميت . وأما النظر فيما يرجع به أصحاب الديون من مال المفلس فإن ذلك يرجع إلى الجنس والقدر . أما ما كان قد ذهب عين العوض الذي استوجب من قبله الغريم على المفلس فإن دينه في ذمة المفلس . وأما إذا كان عين العوض باقيا بعينه لم يفت إلا أنه لم يقبض ثمنه .
فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار على أربعة أقوال : الأول أن صاحب السلعة أحق بها على كل حال إلا أن يتركها ويختار المحاصة وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور . والقول الثاني ينظر إلى قيمة السلعة يوم الحكم بالتفليس فإن كانت أقل من الثمن خير صاحب السلعة بين أن يأخذها أو يحاص الغرماء وإن كانت مساوية للثمن أخذها بعينها وبه قال مالك وأصحابه . والقول الثالث تقوم السلعة بين التفليس فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه قضى له بها : أعني للبائع وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصون في الباقي وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر . والقول الرابع أنه أسوة الغرماء فيها على كل حال وهو قول أبي حنيفة وأهل الكوفة والأصل في هذه المسألة ما ثبت من حديث أبي هريرة أن رسول الله A قال " أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره " وهذا الحديث خرجه مالك والبخاري ومسلم وألفاظهم متقاربة وهذا اللفظ لمالك فمن هؤلاء من حمله على عمومه وهو الفريق الأول ومنهم من خصصه بالقياس وقالوا : إن معقوله إنما هو الرفق بصاحب السلعة لكون سلعته باقية وأكثر ما في ذلك أن يأخذ الثمن الذي باعها به فإما أن يعطي في هذه الحال الذي اشترك فيها مع الغرماء أكثر من ثمنها فذلك مخالف لأصول الشرع وبخاصة إذا كان للغرماء أخذها بالثمن كما قال مالك . وأما أهل الكوفة فردوا هذا الحديث بجملته لمخالفته للأصول المتواترة على طريقتهم في رد الخبر الواحد إذا خالف الأصول المتواترة لكون خبر الواحد مظنونا والأصول يقينية مقطوع بها كما قال عمر في حديث فاطمة بنت قيس : ما كنا لندع كتاب الله وسنة نبينا لحديث امرأة . ورواه عن علي أنه قضى بالسلعة للمفلس وهو رأى ابن سيرين وإبراهيم من التابعين .
وربما احتجوا بأن حديث أبي هريرة مختلف فيه وذلك أن الزهري روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله A قال " أيما رجل مات أو فلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء " وهذا الحديث أولى لأنه موافق للأصول الثابتة . قالوا : وللجمع بين الحديثين وجه وهو حمل ذلك الحديث على الوديعة والعارية إلا أن الجمهور دفعوا هذا التأويل بما ورد في لفظ حديث أبي هريرة في بعض الروايات من ذكر البيع وهذا كله عند الجميع بعد قبض المشتري السلعة فأما قبل القبض فالعلماء متفقون أهل الحجاز وأهل العراق أن صاحب السلعة أحق بها لأنها في ضمانه واختلف القائلون بهذا الحديث إذا قبض البائع بعض الثمن فقال مالك : إن شاء أن يرد ما قبض ويأخذ السلعة كلها وإن شاء حاص الغرماء فيما بقي من سلعته وقال الشافعي : بل يأخذ ما بقي من سلعته بما بقي من الثمن وقالت جماعة من أهل العلم داود وإسحق وأحمد : إن قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء . وحجتهم ما روى مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله A قال " أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء " وهو حديث وإن أرسله مالك فقد أسنده عبد الرزاق وقد روي من طريق الزهري عن أبي هريرة فيه زيادة بيان وهو قوله فيه " فإن كان قبض من ثمنه شيئا فهو أسوة الغرماء " ذكره أبو عبيد في كتابه في الفقه وخرجه . وحجة الشافعي أن كل سلعة أو بعضها في الحكم الواحد ولم يختلفوا أنه إذا فوت المشتري بعضها أن البائع أحق بالمقدار الذي أدرك من سلعته إلا عطاء فإنه قال : إذا فوت المشتري بعضها كان البائع أسوة الغرماء . واختلف الشافعي ومالك في الموت هل حكمه حكم الفلس أم لا ؟ .
فقال مالك : هو في الموت أسوة الغرماء بخلاف الفلس وقال الشافعي : الأمر في ذلك واحد . وعمدة مالك ما رواه عن ابن شهاب عن أبي بكر وهو نص في ذلك وأيضا من جهة النظر إن فرقا بين الذمة في الفلس والموت وذلك أن الفلس ممكن أن تثرى حاله فيتبعه غرماؤه بما بقي عليه وذلك غير متصور في الموت . وأما الشافعي فعمدته ما رواه ابن أبي ذئب بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله A " أيما رجل مات أو فلس فصاحب المتاع أحق به " فسوى في هذه الرواية بين الموت والفلس . قال : وحديث ابن أبي ذئب أولى من حديث ابن شهاب لأن حديث ابن شهاب مرسل وهذا مسند ومن طريق المعنى فهو مال لا تصرف فيه لمالكه إلا بعد أداء ما عليه فأشبه مال المفلس وقياس مالك أقوى من قياس الشافعي وترجيح حديثه على حديث ابن أبي ذئب من جهة أن موافقة القياس له أقوى وذلك أن ما وافق من الأحاديث المتعارضة قياس المعنى فهو أقوى مما وافقه قياس الشبه : أعني أن القياس الموافق لحديث الشافعي هو قياس شبه والموافق لحديث مالك قياس معنى ومرسل مالك خرجه عبد الرزاق . فسبب الخلاف تعارض الآثار في هذا المعنى والمقاييس وأيضا فإن الأصل يشهد لقول مالك في الموت أعني أن من باع شيئا فليس يرجع إليه فمالك C أقوى في هذه المسألة والشافعي إنما ضعف عنده فيها قول مالك لما روي من المسند المرسل عنده لا يجب العمل به . واختلف مالك والشافعي فيمن وجد سلعته بعينها عند المفلس وقد أحدث زيادة مثل أن تكون أرضا يغرسها أو عرصة يبنيها فقال مالك : العمل الزائد فيها هو فوت ويرجع صاحب شريك الغرماء . وقال الشافعي : بل يخير البائع بين أن يعطي قيمة ما أحدث المشتري في سلعته ويأخذها أو أن يأخذ أصل السلعة ويحاص الغرماء في الزيادة وما يكون فوتا مما لا يكون فوتا في مذهب مالك منصوص في كتبه المشهورة .
وتحصيل مذهب مالك فيما يكون الغريم به أحق من سائر الغرماء في الموت والفلس أو في الفلس دون الموت أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس ثلاثة أقسام : عرض يتعين وعين اختلف فيه هل يتعين فيه أم لا ؟ وعمل لا يتعين . فأما العرض فإن كان في يد بائعه لم يسلمه حتى أفلس المشتري فهو أحق به في الموت والفلس وهذا ما لا خلاف فيه وإن كان قد دفعه إلى المشتري ثم أفلس وهو قائم بيده فهو أحق به من الغرماء في الفلس دون الموت ولهم عنده أن يأخذوا سلعته بالثمن وقال الشافعي : ليس لهم وقال أشهب : لا يأخذونها إلا بالزيادة يحطونها عن المفلس وقال ابن الماجشون : إن شاءوا كان الثمن من أموالهم أو من مال الغريم وقال ابن كنانة : بل يكون من أموالهم وأما العين فهوأحق بها في الموت أيضا والفلس ما كان بيده . واختلف إذا دفعه إلى بائعه فيه ففلس أو مات وهو قائم بيده يعرف بعينه فقيل إنه أحق به كالعروض في الفلس دون الموت وهو قول ابن القاسم وقيل إنه لا سبيل له عليه وهو أسوة الغرماء وهو قول أشهب والقولان جاريان على الاختلاف في تعيين العين وأما إن لم يعرف بعينه فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس . وأما تعمل الذي لا يتعين فإن أفلس المستأجر قبل أن يستوفي عمل الأجير كان الأجير أحق بما عمله في الموت والفلس جميعا كالسلعة إذا كانت بيد البائع في وقت الفلس وإن كان فلسه بعد أن استوفى عمل الأجير فالأجير أسوة الغرماء بأجرته التي شارطه عليها في الفلس والموت جميعا على أظهر الأقوال إلا أن تكون بيده السلعة التي استؤجر على عملها فيكون أحق بذلك في الموت والفلس جميعا لأنه كالرهن بيده فإن أسلمه كان أسوة الغرماء بعمله إلا أن يكون له فيه شيء أخرجه فيكون أحق به في الفلس دون الموت وكذلك الأمر عنده في فلس مكتري الدواب إن استكرى أحق بما عليه من المتاع في الموت والفلس جميعا وكذلك مكتري السفينة .
( يتبع . . . )