113 - ـ فصل : الغنى عما في أيدي الناس .
رأيت نفرا ممن أفنى أوائل عمره و ريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع الأذى و هجر فنون الراحات أنفة من الجهل و رذيلته و طلبا للعلم و فضيلته فما نال منه طرفا رفعه عن مراتب أرباب الدنيا و من لا علم له إلا بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنفسه من حظوظ فسافر في البلاد يطلب من الأرذال و يتواضع للسفلة و أهل الدناءة و المكاس و غيرهم .
فخاطبت بعضهم و قلت ويحك أن تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها و أظمأت نهارك بسببها فلما إرتفعت و إنتفعت عدت إلى أسفل سافلين .
أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو بها عن مقامات الأرذال ؟ و لا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى ؟ .
و لا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء ؟ على أنه يبين لي أن سهرك و تعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا .
ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئا من الدنيا تستعين به على طلب العلم فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في علمك .
فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر فيما قد عزمت عليه زيادة بل لعله كله مخاطرة بالنفس و بذل الوجه طالما صين لمن لا يصلح إلتفات مثلك إلى مثله .
و بعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف و قد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من الإثم .
و أبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ .
و من لك بالسلامة و الرجوع إلى الوطن ؟ و كم رمى قفر في بواديه من هالك ! .
ثم ما تحصله يفني و يبقى منه ما أعطى و عيب المتقين إياك و اقتداء الجاهلين بك .
و يكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه خصوصا و قد مر أكثر العمر .
و من أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي