114 - ـ فصل : على الفقه مدار العلوم .
رأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوت الشره عليه مقصوده .
و قد رأينا من كان شرها في جمع المال فحصل له الكثير منه و هو مع ذلك حريص على الإزدياد .
و لو فهم علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر فإذا أنفق العمر في تحصيله فات المقصودان جميعا .
و كم رأينا من جمع المال و لم يتمتع به فأبقاه لغيره و أفنى نفسه كما قال الشاعر : .
( كدودة القز ما تبنيه يهدمها ... و غيرها بالذي تبنيه ينتفع ) .
و كذلك رأينا خلقا كثيرا يحرصون على جمع الكتب فينفقون أعمارهم في كتابتها و كدأب أهل الحديث ينفقون الأعمار في النسخ و السماع إلى ماخر العمر ثم ينقسمون : .
فمنهم من يتشاغل بالحديث و علمه و تصحيحه و لعله لا يفهم جواب حادثة و لعل عنده للحديث ـ أسلم سالمها الله ـ مائة طريق .
و قد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع جزء ابن عرفة عن مائة شيخ و كان عنده سبعون نسخة .
و منهم من يجمع الكتب و يسمعها و لا يدري ما فيها لا من صحة حديثها و لا من فهم معناها فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي و عندي له نسخة و الكتاب الفلاني و الفلاني فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه و قد صده إشتغاله بذلك عن المهم من العلم فهم كما قال الحطيئة : .
( زوامل للأخبار لا علم عندها ... بمثقلها إلا كعلم الأباعر ) .
( لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر ) .
ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية و حدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله فإن أفتى أخطأ و إن تكلم في الأصول خلط .
و لولا أني لا أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم و ما خلطوا ما يعتبر به و لكنه لا يخفى على المحقق حالهم .
فإن قال قائل : أليس في الحديث : [ منهومان لا يشبعان : طالب علم و طالب دنيا ؟ ] .
قلت : أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم و لا اقتصر على بعضه .
بل أقول له : قدم المهم فإن العاقل من قدر عمره و عمل بمقتضاه و إن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر غير أنه يبني على الأغلب فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زادا و إن مات قبل الوصول فنيته تسلك به .
فإذا علم العاقل أن العمر قصير و أن العلم كثير فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلا بسماع الحديث و نسخه ليحصل كل طريق و كل رواية و كل غريب و هذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة خصوصا إن تشاغل بالنسخ ثم لا يحفظ القرآن أو يتشاغل بعلوم القرآن و لا يعرف الحديث أو بالخلاف في الفقه و لا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة .
فإن قال قائل : فدبر لي ما تختار لنفسك ؟ .
فأقول : ذو الهمة لا يخفى من زمان الصبا .
كما قال سفيان بن عيينة : قال لي أبي ـ و قد بلغت خمس عشرة سنة ـ : [ إنه قد إنقضت عنك شرائع الصبا فإتبع الخير تكن من أهله فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها و لا أميل عنها ] .
ثم فبل شروعي في الجواب أقول : ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس .
فلو كانت النبوة مثلا تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية أو تصور أن يكون مثلا خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة .
و لو صح له أن يكون ملكا لم يرض أن يكون بشرا .
و المقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم و العمل .
و قد علم قصر العمر و كثرة العلم فيبتدئ بالقرآن و حفظه و ينظر في تفسيره نظرا متوسطا لا يخفى عليه بذلك منه شيء .
و إن صح له قراءة القراءات السبعة و أشياء من النحو و كتب اللغة و ابتداء بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح و المسانيد و السنن و من حيث علم الحديث كمعرفة الضعفاء و الأسماء فلينظر في أصول ذلك .
و قد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب .
و لينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه كنسب الرسول صلى الله عليه و سلم و أقاربه و أزواجه و ما جرى له ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب و الخلاف و ليكن إعتماده على مسائل الخلاف فلينظر في المسألة و ما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه كتفسير آية و حديث و كلمة لغة .
و يتشاغل بأصول الفقه و بالفرائض و ليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم .
و يكفيه من النظر في الأصول ما يستدل به على وجودد الصانع فإذا أثبته بالدليل و عرف ما يجوز عليه مما لا يجوز و أثبت إرسال الرسل و علم وجوب القبول منهم فقد إحتوى على لمقصود من علم الأصول .
فإن إتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع .
و مهما فسح له في المهل فأمكنه تصنيف في علم فإنه يخلف بذلك خلفه خلفا صالحا مع اجتهاده في التسبب إلى إتخاذ الولد ثم يعلم أن الدنيا معبرة فيلتفت إلى فهم معاملة الله D فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه .
فإذا تعرض لتحقيق معرفته و وقف على باب معاملته فقل أن يقف صادقا إلا و يجذب إلى مقام الولاية و من أريد وفق .
و إن لله D أقواما يتولى ترتيبهم و يبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدبا و يسمى العقل و مقوما و يقال له الفهم و يتولى تأديبهم و تثقيفهم و يهيء لهم أسباب القرب منه .
فإن لاح قاطع عنه حماهم منه و إن تعرضت بهم فتنة دفعها عنهم .
فنسأل الله D أن يجعلنا منهم و نعوذ به من خذلان لا ينفع معه إجتهاد