167 - ـ فصل : فضل عزلة العالم .
ما أعرف للعالم قط لذة و لا عزا و لا شرفا و لا راحة و لا سلامة أفضل من العزلة فإنه ينال بها سلامة بدنه و دينه و جاهه عند الله D و عند الخلق لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم و لا يعظم عندهم قد المخالط لهم و لهذا عظم قدر الخلفاء لإحتجابهم .
و إذا رأى العوام أحد العلماء مترخصا في أمر مباح هان عندهم فالواجب عليه صيانه علمه و إقامة قدر العلم عندهم .
فقد قال بعض السلف : كنا نمزح و نضحك فإذا صرنا يقتدى بنا فما أراه يسعنا ذلك .
و قال سفيان الثوري : تعلموا هذا العلم و اكظموا عليه و لا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب .
فمراعاة الناس لا ينبغي أن تنكر .
و قد قال صلى الله عليه و سلم لعائشة : [ لو لا حدثنا قومك في الكفر لنقضت الكعبة و جعلت لها بابين ] .
و قال أحمد بن حنبل في الركعتين قبل المغرب : [ رأيت الناس يكرهونهما فتركتهما ] .
و لا تسمع من جاهل يرى مثل هذه الأشياء رياء إنما هذه صيانة للعلم .
و بيان هذا أنه لو خرج العالم إلى الناس مكشوف الرأس أو في يده كسرة يأكلها قل عندهم و إن كان مباحا فيصير بمثابة تخليط الطبيب الآمر بالحمية .
فلا ينبغي للعالم أن ينبسط عند العوام حفظا لهم و متى أراد مباحا فليستتر به عنهم .
و هذا القدر الذي لاحظه أبو عبيدة حين رأى عمر بن الخطاب Bهما قد قدم الشام راكبا على حمار و رجلاه من جانب فقال : [ يا أمير المؤمنين يتلقاك عظماء الناس فما أحسن ما لاحظ ] .
إلا أن عمر Bه أراد تأديب أبي عبيدة بحفظ الأصل فقال : [ إن الله أعزكم بالإسلام فمهما طلبتم العزة في غيره أذلكم ] .
و المعنى ينبغي أن يكون طلبكم العز بالدين لا بصور الأفعال و إن كانت الصور تلاحظ .
فإن الإنسان يخلو في بيته عريانا فإذا خرج إلى الناس لبس ثوبين و عمامة و رداء .
و مثل هذا لا يكون تصنعا و لا ينسب إلى كبر .
و قد كان مالك بن أنس يغتسل و يتطيب و يقعد للحديث و لا تلتفت يا هذا إلى ما ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين فإنه العزلة أصون للعالم و العلم و ما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه .
و قد كان سيد الفقهاء سعيد بن المسيب لا يغشى الولاة و عن قول هذا سكتوا عنه و هذا فعل الحازم .
فإن أردت اللذة و الراحة فعليك أيها العالم بقعر بيتك و كن معتزلا عن أهلك يطب لك عيشك و إجعل للقاء الأهل وقتا فإذا عرفوه تصنعوا للقائد فكانت المعاشرة بذلك أجود .
و ليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه وتحادث سطور كتبك و تجري في حلبات فكرك .
و إحيرس من لقاء الخلق و خصوصا العوام .
و اجتهد في كسب يعفك عن الطمع فهذه نهاية لذة العالم في الدنيا .
و قد قيل لا بن المبارك : ما لك لا تجالسنا ؟ فقال : أنا أذهب فأجالس الصحابة و التابعين و أشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه .
و متى رزق العالم الغنى عن الناس و الخلوة فإن كان له فهم يجلب التصانيف فقد تكاملت لذة .
و إن رزق فهما يرتقي إلى معاملة الحق و مناجاته فقد تعجل دخول الجنة قبل الممات .
نسأل الله D همة عالية تسمو إلى الكمال و توفيقا لصالح الأعمال فالسكون طريق الحق أفراد