168 - ـ فصل : حديث ابن الجوزي عن نفسه .
تأملت أحوال الناس في حالة علو شأنهم فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ .
فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب و منهم من فرط إكتساب العلم و منهم من أكثر من الإستمتاع باللذات .
فكلهم نادم في حاله الكبر حين فوات الإستدراك لذنوب سلفت أو قوى ضعفت أو فضيلة فاتت فيمضي زمان الكبر في حسرات .
فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت قال : و اأسفا على ما جنيت و إن لم يكن له إفاقة صار متأسفا على فوات ما كان يلتذ به .
فإما من أنفق عصر الشباب في العلم فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جنى ما غرس و يلتذ بتصنيف ما جمع و لا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئا بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم .
هذا مع و جود لذاته في الطلب الذي كان يتأمل به إدراك المطلوب .
و ربما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها كما قال الشاعر : .
( اهتز عند تمني وصلها طربا ... و رب أمنية أحلى من الظفر ) .
و لقد تاملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذبين أنفقوا أعمالهم في اكتساب الدنيا و أنفقت زمن الصبوة و الشباب في طلب العلم فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه .
ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم و جاهي بين الناس أعلى من جاههم و ما نلته من معرفة العلم لا يقاوم .
فقال لي إبليس : و نسيت تعبك و سهرك ؟ .
فقلت له : أيها الجاهل تقطيع الأيدي لا و قع له عند رؤية يوسف و ما طالت طريق أدت إلى صديق : .
( جرى الله المسير إليه خيرا ... و إن ترك المطايا كالمزاد ) .
و لقدكنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب و أرجو .
كنت زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث و أقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء .
فكلما أكلت لقمة شربت عليها و عين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم .
فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول صلى الله عليه و سلم و أحواله و آدابه و أحوا ل أصحابه و تابعيهم فصرت في معرفة طريقه كابن أجود .
و أثمر ذكل عندي من المعاملةما لا يدري بالعلم حتى أنني أذكر في زمان الصبوة و وقت الغلمة و العزبة قدرتي علىأشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال و لم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف الله D .
و لولا خطايا لا يخلو منها البشر لقد كنت أخاف على نفسي من العجب .
غير أنه D صانني و علمني و أطلعني من أسرار العلم على معرفة و إيشار الخلوة به حتى إنه لو حضر معي معروف و بشر لرأيتهما زحمة .
ثم عاد فغمسني في التقصير و التفريط حتى رأيت أقل الناس خيرا مني .
و تارة يوقظني لقيام الليل و لذة مناجاتة و تارة يحرمني ذلك مع سلامة بدني .
و لولا بشارة العلم بأن هذانوع تهذيب و تأديب لخرجت إما إلى العجب عند العمل و إما إلى اليأس عند البطالة .
لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه .
و قد يغلب الرجاء بقوة أسبابه لأني رأيت أنه قد رباني منذ كنت طفلا فإن أبي مات وأنا لا أعقل و الأم لم تلتفت إلي فركز في طبعي حب العلم .
و ما يوقعني علىالمهم فالمهم و يحملني إلى من يحملني على الأصوب حتى قوم أمري .
و كم قد قصدني عدو فصده عني وإذ رأيته قد نصرني و بصرني و دافع عني و وهب لي قوى رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي .
و لقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف و أسلم على يدي أكثر من مائتي نفس .
و كم سألت عين مختبر بوعظي لم تكن تسيل و يحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام .
و ربما لا حت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري و زللي .
و لقد جلست يوما فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه أو دمعت عينيه فقلت لنفسي : كيف بك إن نجونا و هلكت : فصحت بلسان وجدي : إلهي و سيدي إن قضيت علي بالعذاب غدا فلا تعلمهم بعذابي صيانة لكرمك لا لأجل لئلا يقولوا عذب من دل عليه .
إلهي قد قيل لنبيك صلى الله عليه و سلم : إقتل ابن أبي المنافق فقال : لا يتحدث الناس أن محمد ا يقتل أصحابه .
إلهي فأحفظ حسن عقائدهم في بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك .
حاشاك و الله يارب من تكدير الصافي .
( لا تبر عودا أنت ريشته ... حاشا لباني الجود أن ينقضا ) .
( لا تعطش الزرع الذي نبته ... بصوب إنعامك قد روضا )