185 - ـ فصل : ملاطفة الأعداء حتى التمكن منهم .
ينبغي أن يكون شغل العاقل النظر في العواقب و التحرز مما يمكن أن يكون .
و من الغلط النظر في الحالة الحاضرة الموافقة لمعاشه و لصحة بدنه و ربما لا يجري له مصحوبة فينبغي أن يعمل على انقطاع ذلك فيكون مستعدا لتغير الأحوال .
كذلك النظر في لذة تفنى و تبقى تبعتها و عارها و إيثار الكسل و الدعة لما يجيء بعدهما من بقاء الجهل .
و كذلك تحصيل المرادات التي لا تحصل إلا بالتلطف في الاحتيال خصوصا إذا أريد من ذكي فإنه يفطن بأقل تلويح .
فمن أراد غلبة الذكي دقق النظر و تلطف في الاحتيال .
و قد ذكر في كتب الحيل ما يشحذ الخواطر و أتينا بجملة منه في كتاب الأذكياء .
مثلما روي أن رجلا من الأشراف كان لا يقوم لأحد و لا يخشى أحدا فجاز عليه بعض الوزراء و حي فلم يرد و لم يقم .
فقال ذاك الوزير لرجل : أخبر فلانا أني قد كلمت أمير المؤمنين في حقه و قد أمر له بمائة ألف فليحضر ليقبضها فأخبره ذلك الرجل .
فقال الشريف : إن كان أمر لي بشيء فلينفذه لي و إنما مقصوده أن يضع مني بالتردد عليه .
فمتى وقع الإنسان مع ذكي فينبغي أن يتحرز منه [ كما ينظر صاحب الرقعة النقلات ] .
و كثير من الأذكياء لم يقدروا على أغراضهم من ذكي فاعطوه و بالغوا في إكرامه ليصيدوه فإن كان قليل الفطنة وقع في الشرك و إن كان أقوى منهم ذكاء علم أن تحت هذه النية خبيئا فزاده ذلك احترازا .
و أقوى ما ينبغي أن يكون الاحتراز من موتور فإنك إذا آذيت شخصا فقد غرست في قلبه عداوة فلا تأمن تفريع تلك الشجرة و لا تلتفت إلى ما يظهر من ود و إن حلف فإن قاربته فكن مكنه على حذر .
و من التغفل أن تعاقب شخصا أو تسيء إليه إساءة عظيمة و تعلم أن مثل ذلك يجدد الحقد فتراه ذليلا لك طائعا تائبا مقلعا عما فعل فتعود فتستطيبه و تنسى ما فعلت و تظن أنه قد انمحى من قلبه ما أسلفت .
فربما عمل لك المحن و نصب لك المكايد كما جرى لقصير مع الزباء و أخباره معروفة .
فإياك أن تساكن من آذيته بل إن كان و لا بد فمن خارج فما تؤمن الأحقاد .
و متى رأيت عدوك فيه غفلة لا يثنيه مثل هذا فأحسن إليه فإنه ينسى عداوتك و لا يظن أنك قد أضمرت له جزاء على قبح فعله فحينئذ تقدر على بلوغ كل غرض منه .
و من الخور إظهار العداوة للعدو و من أحسن التدبير التلطف باللأعداء إلى أن يمكن كسر شوكتهم و لو لم يمكن ذاك كان اللطف سببا في كف أكفهم عن الأذى و فيهم من يستحي لحسن فعلك فيتغير قلبه لك .
و قد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن رجلا قد شتمهم أهدوا إليه و أعطوه فهم بالعاجل يكفوه شره و يحتالون في تقليب قلبه و يقع ذلك لهم مهلة لتدبير الحيل عليه إن أرادوا .
و كفى بالذهن الناظر إلى العواقب و التأمل لكل ممكن مؤدبا