193 - ـ فصل : احتقار الأعمال و الاعتذار عن التقصير .
تأملت عجبا و هو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه و يكثر التعب في تحصيله .
فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب و السهر و التكرار و هجر اللذات و الراحة حتى قال بعض الفقهاء : بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس .
و نحو هذا تحصيل المال فإنه يحتاج إلى المخاطرات و الأسفار و التعب الكثير .
و كذلك نيل الشرف بالكرم و الجود فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل المحبوب و ربما آل إلى الفقر .
و كذلك الشجاعة فإنها لا تحصل إلا بالمخاطرة بالنفس قال الشاعر : .
( لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر و الإقدام قتال ) .
و من هذا الفن تحصيل الثواب في الآخرة فإنه يزيد على قوة الاجتهاد و التعبد أو على قدر وقع المبذول من المال في النفس أو على قدر الصبر على فقد المحبوب و منع النفس من الجزع .
و كذلك الزهد يحتاج إلى صبر عن الهوى .
العفاف لا يكون إلا بكف كف الشره .
و لولا ما عاني يوسف عليه السلام ما قيل له : { أيها الصديق } .
و الله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها فهم يبالغون في كل علم و يجتهدون في كل عمل و يثابرون على كل فضيلة فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة و هم لها سابقون .
و أكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم فهم يحتقرونها مع التمام و يعتذرون من التقصير .
و منهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك .
و منهم من لا يرى ما عمل أصلا لأنه يرى نفسه و عمله لسيده .
و بالعكس من المذكور من أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل و الشره و الشهوات .
فلئن التذوا بعاجل الراحة لقد أوجبت ما يزيد على كل تعب من الأسف و الحسرة .
و من تلمح صبر يوسف عليه السلام و عجلة ماعز بأن له الفرق و فهم الربح من الخسران .
ولقد تأملت نيل الدر من البحر فرأيته بعد معاناة الشدائد .
و من تفكر فيما ذكرته مثلا بانت له أمثال .
فالموفق من تلمح قصر الموسم المعمول فيه وامتداد زمان الجزاء الذي لا آخر له فانتهب حتى اللحظة و زاحم كل فضيلة فإنها إذا فاتت فلا وجه لا ستدراكها .
أو ليس في الحديث يقال للرجل : [ اقرأ و ارق فمنزلك عند آخر آية تقرؤها ] .
فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل حفظ القرآن عاجلا