237 - ـ فصل : قياس الغائبات على الحاضر تخليط للعقيدة .
تأملت سبب تخليط العقائد فإذا هو الميل إلى الحس و قياس الغائبات على الحاضر فإن أقواما غلب عليهم الحس فلما لم يشاهدوا الصانع جحدوا وجوده و نسوا أنه قد ظهر بأفعاله و أن هذه الأفعال لا بد لها من فاعل .
فإن العاقل إذا مر على صحراء خالية ثم عاد و فيها غرس و بناء علم أنه لا بد من غارس إذ الغرس لا يكون و لا البناء .
ثم جاء قوم فأثبتوا وجود الصانع ثم قاسوه على أحوالهم فشبهوا حتى إن قائلهم يقول : في قوله : ينزل إلى السماء : ينتقل و يستدل بأن العرب لا تعرف النزول إلا الانتقال .
و ضل خلق كثير في صفاته كما ضل خلق في ذاته فظن أقوام أنه يتأثر حين سمعوا أنه يغضب و يرضى و نسوا أن صفته تعالى قديمة لا يحدث منها شيء .
و ضل خلق في أفعاله فأخذوا يعللون فلم يقنعوا بشيء فخرج منهم قوم إلى أن نسبوا فعله إلى ضد الحكمة تعالى عن ذلك .
و من رزق التوفيق فليحضر قلبه لما أقول : .
إعلم أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات و صفاته ليست كالصفات و أفعاله لا تقاس بأفعال الخلق .
أما ذاته سبحانه فإنا لا نعرف ذاتا إلا أن تكون جسما و ذاك يستدعي سابقة تأليف و هو منزه عن ذلك لأنه للمؤلف أو أن يكون جوهرا فالجوهر متحيز و له أمثال و قد جل عن ذلك أو عرضا فالعرض لا يقوم بنفسه بل بغيره و قد تعالى على ذلك .
فإذا أثبتنا ذاتا قديمة خارجة عما يعرف فليعلم أن الصفات تابعة لتلك الذات فلا يجوز لنا أن نقيس شيئا منها على ما نفعله و نفهمه بل نؤمن به و نسلم به .
و كذلك أفعاله فإن أحدنا لو فعل فعلا لا يجتلب به نفعا و لا يدفع عنه ضرا عد عابثا و هو سبحانه أوجد الخلق لا لنفع يعود إليه و لا لرفع ضر إذ المنافع لا تصل إليه و المضار لا تتطرق عليه .
فإن قال قائل : إنما خلق الخلق لينفعهم قلنا : يبطله أنه خلق خلقا منهم للكفر و عذبهم و نراه يؤلم الحيوان و الأطفال و هو قادر على ألا يفعل ذلك .
فإن قال قائل : إنه يثيب على ذلك .
قلنا : و هو قادر أن يثيب بلا هذه الأشياء فإن السلطان لو أراد أن يغني فقيرا فجرحه ثم أغناه ليم على ذلك لأنه قادر أنه يغنيه بلا جراح .
ثم من يرى ما جرى لرسول الله صلى الله عليه و سلم و على أصحابه من الجوع و القتل مع قدرة الناصر ثم يسأل في أمه فلا يجاب و لو كان المسؤول بعضنا قلنا لم تمنع ما لا يضرك .
غير أن الحق سبحانه لا تقاس أفعاله على أفعالنا و لا تعلل .
الذي يوجب علينا التسليم أن حكمته فوق العقل فهي تقضي على العقول و العقول لا تقضي عليها .
و من قاس فعله على أفعالنا غلط الغلط الفاحش وإنما هلكت المعتزلة من هذا الفن .
فإنهم قالوا : كيف يأمر بشيء و يقضي بامتناعه ؟ و لو أن إنسانا دعانا إلى داره ثم أقام من يصد الداخل لعيب .
و لقد صدقوا فيما يتلعق بالشاهد فأمل من أفعاله لا تعلل و لا تقاس بشاهد فإنا لا نصل إلى معركة حكمته .
فإن قال قائل : فكيف يمكنني أن أقود عقلي إلى ما ينافيه ؟ .
قلنا : لا منافاة لأن العقل قد قطع بالدليل الجلي أنه حكيم و أنه مالك و الحكيم لا يفعل شيئا إلا لحكمة غير أن تلك الحكمة لا يبلغها العقل .
ألا ترى أن الخضر خرق سفينة و قتل شخصا فأنكر عليه موسى عليهما السلام بحكم العلم و لم يطلع على حكمه فعله فلما أزهر له الحكمة أذعن ؟ .
و لله المثل الأعلى .
فإياك أن تقيس من أفعاله شيئا من أفعاله على أفعال الخلق أو شيئا من صفاته سبحانه و تعالى فإنك إن حفظت هذا سلمت من التشبيه الذي وقع فيه من رأى الاستواء اعتمادا و النزول نقله و نجوت من الاعتراض الذي أخرج قوما إلى الكفر حتى طعنوا في الحكمة .
و أول القوم إبليس فإنه رأى تقديم الطين على النار ليس بحكمة فنسى أنه إنما علم ذلك بزعمه بالفهم الذي وهب له و العقل الذي منحه فنسى أن الواهب أعلم { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } .
و لقد رأيت لابن الرومي اعتراضا على من يقول بتخليد الكفار في النار قال : إن ذلك التأبيد مزيدا من الإنتقام ينكره العقل و ينبغي أن يقبل كل ما يقوله العقل و لا يرد بعضه إذ ليس رد بعضه بأولى من رد الكل و تخليد الكفار لا غرض فيه للمعذب و لا للمعذب فلا يجوز أن يكون .
فقلت : العجب من الذي يدعي وجود العقل و لا عقل عنده .
و أول ما أقول له : أصح عندك الخبر عن الخالق سبحانه أنه أخبر بخلود أهل النار أم لم يصح ؟ .
فإن كان ما صح عنه فالكلام إذن في إثبات النبوة و صحة القرآن .
فما وجه ذكر الفرع مع جحد الأصل ؟ .
و إن قال : قد ثبت عندي فواجب عليه أن يتمهل لإقامة العذر لا أن يقف في وجه المعارضة .
و إنما ينكر هذا من يأخذ الأمر من الشاهد و قد بينا أن ذات الحق لا كالذوات و أن صفته لا كالصفات و أن أفعاله لا تعلل .
و لو تلمح شيئا من التعليل لخلود الكفار لبان إذ من الجائز أن يكون دوام تعذيبهم فظهار صدق الوعيد فإنه قال : من كفر بي خلدته في العذاب و لا جناية كالكفر و لا عقوبة كدوام الإحتراق فهو يدوم ليظهر صدق الوعيد .
و من الجائز أن يكون ذلك لتتمة تنعيم المؤمنين فإنهم أعداء الكفار و قد قال سبحانه : { و يشف صدور قوم مؤمنين } .
وكم من قلق في صدر و حنق على أبي جهل فيما فعل و كم من غم في قلب عمار و أمه سمية و غيرهم من أفعال الكفار بهم فدوام عذابهم شفاء لقلوب أهل الإيمان .
ومن الجائز أن يدوم العذاب لدوام الاعتراض و ذكر المعذب بما لا يحسن فكلما زاد عذابهم زاد كفرهم و اعتراضهم فهم يعذبون لذلك .
و دليل كفرهم { فيحلفون له كما يحلفون لكم } فإذن كفرهم ما زال و معرفتهم به ما حصلت والشر كامن في البواطن و على ذلك يقع التعذيب { و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }