26 - ـ فصل : محبة الخالق ضرورة .
تأملت في قوله تعالى : { يحبهم و يحبونه } فإذا النفس تأبى إثبات محبة للخالق توجب قلقا و قالت : محبته طاعته فتدبرت ذلك فإذا بها قد جهلت ذلك لغلبة الحس .
و بيان هذا أن محبة الحس لا تتعدى الصور الذاتية و محبة العلم و العمل ترى الصور المعنوية فتحبها .
فإنا نرى خلقا يحبون أبا بكر Bه و خلقا يحبون عليا بن أبي طالب Bه و قوما يتعصبون لأحمد بن حنبل و قوما للأشعري فيقتتلون و يبذلون النفوس في ذلك .
و ليسوا ممن رأى صور القوم و لا صور القوم توجب المحبة .
لكن لما تصورت لهم المعاني فدلتهم على كمال القوم في العلوم وقع الحب لتلك الصور التي شوهدت بأعين البصائر .
فكيف بمن صنع تلك الصور المعنوية و بذلها ؟ .
و كيف لا أحب من وهب لي ملذوذات حسي و عرقى ملذوذات علمي ؟ فإن التذاذي بالعلم و إدراك العلوم أولى من جميع اللذات الحسية فهو الذي علمني و خلق لي إدراكا و هداني إلى ما أدركته .
ثم إنه يتجلى لي في كل لحظة في مخلوق جديد أراه فيه بإتقان ذلك الصنع و حسن ذلك المصنوع .
فكل محبوباتي منه و عنه و به الحسية و المعنوية و تسهيل سبل الإدراك به و المدركات منه و ألذ من كل لذة عرفاني له فلولا تعليمه ما عرفته .
و كيف لا أحب من أنا به و بقائي منه و تدبيري بيده و رجوعي إليه و كل مستحسن محبوب هو صنعه و حسنه و زينه و عطف النفوس إليه .
فذلك الكامل القدرة أحسن من المقدور و العجيب الصنعة أكمل من المصنوع و معنى الإدراك أحلى عرفانا من المدرك .
و لو أننا رأينا نقشا عجيبا لاستغرقنا تعظيم النقاش و تهويل شأنه و ظريف حكمته عن حب المنقوش و هذا مما تترقى إليه الأفكار الصافية إذا خرق نظرنا الحسيات و نفذ إلى ما وراءها فحينئذ تقع محبة الخالق ضرورة و على قدر رؤية الصانع في المصنوع يقع الحب له .
فإن قوي أوجب قلقا و شوقا و إن مال بالعارف لى مقام الهيبة أوجب خوفا و إن انحرف به إلى تلمح الكرم أوجب رجاء قويا { قد علم كل أناس مشربهم }