28 - ـ فصل : تخيروا لنطفكم .
تأملت في فوائدالنكاح و معانيه و موضوعه فرأيت أن الأصل الأكب في وضعه وجود النسل لأن الحيوان لايزال يتحلل ثم يختلف من المتحلل الغذاء ثم يتحلل من الأجزاء الأصلية ما لا يخلفه شيء فإذا لم يكن بد من فنائه و كان المراد امتداد أزمان الدنيا جعل النسل خلفا عن الأصل و لما كانت صورة النكاح تأباها النفوس الشريفة من كشف العورة و ملا قاة ما لا يستحسن لنفسه جعلت الشهور تحث عليه ليحصل المقصود .
ثم رأيت هذا المقصود الأصلي يتبعه شيء آخر و هو استفراغ هذا الماء الذي يؤذي دوام احتقانه .
فإن المني ينفصل من الهضم الرابع فهو من أصفى جوهر الغذاء و أجوده ثم يجتمع فهو أحد الذخائر للنفس فإنها تدخر ـ لبقائها و قوتها ـ الدم ثم المني ثم تدخر التفل الذي هو من أعمدة البدن كأنه لخوف عدم غيره .
فإذا زاد اجتماع المني أقلق على نحو الإقلاق البول للحاقن إلا أن إقلاقه من حيث المعنى أكثر من إقلاق البول من حيث الصورة فتوجب كثرة اجتماعه و طول احتباسه أمراضا صعبة لأنه يترقى من بخاره إلى الدماغ فيؤذي و ربما أحدث سمية .
و متى كان المزاح سليما فالطبع يطلب بروز المني إذا اجتمع كما يطلب بروز البول وقد ينحرف بعض الأمزجة فيقل اجتماعه عنده فيندر طلبه لإخراجه و إنما نتكلم عن المزاج الصحيح فأقول : قد بينت أنه إذا وقع به احتباسه أوجب أمراضا و جدد أفكارا رديئة و جلب العشق و الوسوسة إلى غير ذلك من الآفات .
و قد نجد صحيح المزاج يخرج ذلك إذا اجتمع و هو بعد متقلقل فكأنه الأكل الذي لا يشبع .
فبحثت عن ذلك فرأيته وقوع الخلل في المنكوح إما لدمامته و قبح منظره أو لآفة فيه أو لأنه غير مطلوب للنفس فحينئذ يخرج منه و يبقى بعضه .
فإذا أردت معرفة ما يدلك على ذلك فقس مقدار خروج المني في المحل المشتهى .
و في المحل الذي هو دونه كالوطء بين الفخذين بالإضافة إلى الوطء في محل النكاح و كوطء البكر بالإضافة إلى وطء الثيب .
فعلم حينئذ أن تخير المنكوح يستقضي فضول المني فيحصل للنفس كمال اللذة لموضع كمال بروز الفضول .
ثم قد يؤثر هذا في الولد أيضا فإنه إذا كان من شابين قد حبسا أنفسهما عن النكاح مدة مديدة كان الولد أقوى منه من غيرهما أو من المدمن على النكاح في الأغلب .
و لهذا كره نكاح الأقارب لأنه مما يقبض النفس عن انبساطها فيتخيل الإنسان أنه ينكح بعضه و مدح نكاح الغرائب لهذا المعنى .
و من هذا الفن يحصل كثير من المقصود من دفع هذه الفضول المؤذية بمنكوح مستجد و إن كان مستقبح الصورة ما لا يحصل به في العادة .
و مثال هذا أن الطاعم إذا سلأ خبزا و لحما حيث لم يبق فيه فضل لتناول لقمة قدمت إليه الحلوى فيتناول فلو قدم أعجب منها لتناول لأن الجدة لها معنى عجيب و ذلك أن النفس لا تميل إلى ما ألفت و تطلب غير ما عرفت و يتخايل لها في الجديد نوع مراد .
فإذا لم تجد مرادها صدفت إلى جديد آخر فكأنها قد علمت وجود غرض تام بلا كدر و هي تتخايله فيما تراه .
و في هذا المعنى دليل مدفون على البعث لأن في خلق همته متعلقة بلا متعلق نوع عبث فافهم هذا فإذا رأت النفس عيوب ما خالطت في الدنيا عادت تطلب جديدا و لذلك قال الحكماء : العشق العمى عن عيوب المحبوب فمن تأمل عيوبه سلا .
و لذلك يستحب للمرآة ألا تبعد عن زوجها بعدا تنسيه إياها و لا تقرب منه قربا يملها معه و كذلك يستحب ذلك له لئلا يملها أو تظهر لديه مكنونات عيوبها .
و ينبغي له ألا يطلع منه على عورة و يجتهد في ألا يشم منها إلا طيب ريح إلى غير ذلك من الخصال التي تستعملها النساء الحكيمات فإنهن يعلمن ذلك بفطرهن من غير احتياج إلى تعليم .
فأما الجاهلات فإنهن لا ينظرن في هذا فيتعجل التفات الأزواج عنهن فمن أراد نجابة الولد و قضاء الوطر فليتخير المنكوح إن كان زوجة فلينظر إليها فإذا وقعت في نفسه فليتزوجها و لينظر في كيفية وقوعها في نفسه فإن علامة تعلق حبها بالقلب ألا يصرف الطرف عنه فإذا انصرف الطرف قلق القلب بتقاضي النظرة فهذا الغاية .
و دونه مراتب على مقاديرها يكون بلوغ الأغراض و إن كان جارية تشترى فلينظر إليها أبلغ من ذلك النظر و من قدر مناطقة المرآة أو مكالمتها بما يوجب التنبيه ثم ليرى ذلك منها فإن الحسن في الفم و العينيين .
و قد نص أحمد : على جواز أن يبصر الرجل من المرآة التي يريد نكاحها ما هو عورة يشير إلى ما يزيد على الوجه .
و من أمكنه أن يؤخر العقد أو شراء الجارية لينظر كيف توقان قلبه فإنه لا يخفى على العاقل توقان النفس لأجل المستجد و توقانها لأجل الحب فإذا رأى قلق الحب أقدم فإنه قد أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال : أخبرنا حمد بن أحمد قال : أخبرنا أبو نعيم قال : حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا عبد الجبار بن أبي عامر قال : حدثني أبي قال : حدثني خالد بن سلام قال : حدثنا عطاء الخرساني قال [ مكتوب في التوراة : كل تزويج على غير هوى حسرة و ندامة إلى يوم القيامة ] .
ثم ينبغي للمتخير أن يتفرس في الأخلاق فإنها من الخفي و إن الصورة إذا خلت من المعنى كانت كخضراء الدمن .
و نجابة الولد مقصودة و فراغ النفس من الاهتمام بما حصلت من الرغبات أصل عظيم يوجب إقبال القلب على المهمات .
و من فرغ من المهمات العارضة أقبل على المهمات الأصلية .
و لهذا جاء في الحديث : [ لا يقضي القاضي بين اثنين و هو غضبان ] .
[ و إذا وضع العشاء و حضرت العشاء فابدءوا بالعشاء ] .
فمن قدر على امرآة صالحة في الصورة و المعنى فليغمض عن عوراتها و لتجتهد هي في مراضية من غير قرب يمل و لا بعد ينسى .
و لتقدم على التصنع له يحصل الغرضان منها و قضاء الوطر .
و مع الإحتراز الذي أوصيت به تدوم الصحبة و يحصل الغناء بها عن غيرها .
فإن قدر على الإستكثار فأضاف إليها سواها عالما أنه بذلك يبلغ الغرض الذي يفرغ قلبه زيادة تفريغ كان أفضل لحاله .
فإن خاف من وجود الغيرة ما يشغل القلب الذي قد اهتممنا بجمع همته أو خاف وجود مستحسنة تشغل قلبه عن ذكر الآخرة أو تطلب منه ما يوجب خروجه عن الورع فحسبه واحدة .
و يدخل فيما أوصيت به أنه يبعد في المستحسنات العفاف فليبالغ الواجد لهن في حفظهن و سترهن .
فأن وجد ما لا يرضيه عجل الاستبدال فإنه سبب السلو و إن قدر على الاقتصار فإن الاقتصار على الواحدة أولى فإن كانت على الغرض قنع و إن لم تكن استبدل و نكاح المرأة المحبوبة يفرغ الماء المجتمع فيوجب نجابة الولد و تمامه و قضاء الوطر بكماله .
و من خاف وجود الغيرة فعليه بالسراري فإنهن أقل غيرة و الاستظراف لهن أمكن من استظراف الزوجات .
و قد كان جماعة يمكنهم الجمع و كان النساء يصبرن فكان لداود عليه الصلاة و السلام مائة امرأة و لسليمان عليه الصلاة و السلام ألف امرأة و قد علم حال نبينا صلى الله عليه و سلم و أصحابه و كان لأمير المؤمنين علي Bه أربع حرائر و سبع عشرة سرية و تزوج ابنه الحسن Bه بنحو من أربعمائة إلى غير هذا مما يطول ذكره .
فافهم ما أشرت إليه تفز به إن شاء الله تعالى