293 - ـ فصل : التعفف عن مال الحكام .
رأيت خلقا من العلماء و القصاص تضيق عليهم الدنيا فيفزعون إلى مخالطة السلاطين لينالوا من أموالهم و هم يعلمون أن السلاطين لا يكادون يأخذون الدنيا من وجهها و لا يخرجونها في حقها .
فإن أكثرهم إذا حصل له خراج ينبغي أن يصرف إلى المصالح و هبه لشاعر .
و ربما كان معه جندي يصلح أن تكون مشاهرته عشرة دنانير فأعطاه عشرة ألاف .
و ربما غزا فأخذ ما ينبغي أن يقسم على الجيش فإصطفاه لنفسه .
هذا غير ما يجري من الظلم في المعاملات .
و أول ما يجري على ذاك العالم أنه قد حرم النفع بعلمه و قد رأى بعض الصالحين رجلا عالما يخرج من دار يحي بن خالد البرمكي فقال : أعوذ الله من علم لا ينفع .
ألم ير المنكرات و لا ينكر و يتناول ل من طعامهم الذي لا يكاد يحصل إلا بظلم فينطمس قلبه و يحرم لذة المعاملة للحق سبحانه ثم لا يقدر لك أن يهتدي بك أحد بل ربما كان فعل هذا سببا لإضلال الناس و صرفهم عن الإقتداء به فهو يؤذي أميره لأنه يقول : لولا أنني على صواب ما صحبني و لأنكر علي .
و يؤذي العوام تارة بأن يروا أن ما فيه لأمير صواب و تارة بأن الدخول عليه و السكوت عن الإنكار جائز .
أو يحبب إليهم الدنيا و لا خير و الله في سعة من الدنيا ضيقت طريق الآخرة .
و أنا أفتدي أقواما صابروا عطش الدنيا في هجير الشهوات زمان العمر حتى رووا يوم الموت من شراب الرضى و بقيت أذكارهم تروى فتروي صدأ القلوب و تجلو صداها .
هذا الإمام أحمد يحتاج فيخرج إلى اللقاط و لا يقبل مال سلطان .
هذا إبراهيم الحربي يتغذى بالبقل و يرد على المعتصم ألف دينار .
هذا بشر الحافي يشكو الجوع فيقال له : يصنع لك حساء من دقيق ؟ .
فيقول : أخاف أن يقول الله لي : هذا الدقيق من أين لك ؟ .
بقيت و الله أذكار القوم و ما كان الصبر إلا غفوة نوم .
و مضت لذات المترخصين و بليت الأبدان و وهن الدين .
فالصبر الصبر يا من و فق و لا تغبطن من إتسع له أمر الدنيا .
فإنك إذا تأملت تلك السعة رأيتها ضيقا في باب الدين .
و لا ترخص لنفسك في تأويل فعمرك في الدنيا قليل : .
( و سواء إذا انقضى يوم كسرى ... في سرور و يوم صابر كسره ) .
و متى ضجت النفس لقلة صبر فأتل عليها أخبار الزهاد فإنها ترعوي و تستحي و تنكسر إن كانت لها همة أو فيها يقظة .
و مثل لها بين ترخص علي بن المديني و قبوله مال ابن أبي داود و صبر أحمد .
و كم بين الرجلين و الذكرين .
و انظر ما يروى عن كل واحد منهما و ما يذكران به .
وسيندم ابن المديني إذا قال أحمد : [ سلم لي ديني ]