308 - ـ فصل : فيمن إدعوا النبوة و من إدعوا الكرامات .
الحق لا يشتبه بباطل إنما يموه الباطل عند من لا فهم له .
هذا في حق من يدعي النبوات و في حق من يدعي الكرامات .
أما النبوات فإنه إدعاها خلق كثير ظهرت قبائحهم و بانت فضائحم و منها ما أوجبته خسة الهمة و التهتك في الشهوات و التهافت في الأقوال و الأفعال .
حتى افتضحوا .
فمنهم الأسود العنسي إدعى النبوة و لقب نفسه ذا الحمارة لأنه كان يقول : يأتيني ذو الحمار و كان أول أمره كاهنا يشعوذ فيظهر الأعاجيب فخرج في أواخر حياة النبي صلى الله عليه و سلم فكاتبه مذحج و نجران و أخرجوا عمرو بن حزم و خالد بن سعيد صاحبي رسول الله صلى الله عليه و سلم و صفا له اليمن و قاتل شهر بن باذان فقتله و تزوج إبنته فأعانت على قتله فهلك في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم و بان للعقلاء أنه كان يشعبذ .
و منهم مسيلمة إدعى النبوة و تسمى رحمن اليمامة لأنه كان يقول : الذي يأتيني رحمان .
فآمن برسول الله صلى الله عليه و سلم و ادعى أنه قد أشرك معه فالعجب أنه يؤمن برسول و يقول إنه كذاب ثم جاء بقرآن يضحك الناس مثل قوله : يا ضفدع بنت ضفدعين نقي ما تنقين أعلاك في الماء و أسفلك في الطين و من العجائب شاة سوداء تحلب لبنا أبيض فانهتك ستره في الفصاحة .
ثم مسح بيده على رأس صبي فذهب شعره و بصق في بئر فيبست .
و تزوج سجاح التي إدعت النبوة فقالوا : لا بد لها من مهر فقال : مهرها أني قد أسقطت عنكم صلاة الفجر و العتمة .
و كانت سجاح هذه قد إدعت النبوة بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم فإستجاب لها جماعة فقالت : أعدوا الركاب و إستعدوا للنهاب ثم أعبروا على الرباب فليس دونهم حجاب فقاتلوهم .
ثم قصدت اليمامة فهابها مسيلمة فراسلها و أهدى لها فحضرت عنده فقالت : إقرأ علي ما يأتيك به جبريل .
فقال : إنكن معشر النساء خلقتن أفواجا و جعلتن لنا أزواجأ نولجه فيكن إيلاجا فقالت : صدقت أنت نبي .
فقال لها : قومي إلى المخدع فقد هيىء لك المضجع فإن شئت مستلقاة و إن شئت على أربع و إن شئت بثلثيه و إن شئت به أجمع فقالت : بل به أجمع فهو للشمل أجمع .
فافتضحت عند العقلاء من أصحابها فقال منهم عطارد بن حاجب : .
( أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها ... و أصبحت أنبياء الناس ذكرانا ) .
( فلعنة الله رب الناس كلهم ... على سجاح و من بالإفك أغوانا ) .
( أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه من رعيت حيثما كانا ) .
ثم أنها رجعت عن غيها و أسلمت و ما زالت تبين فضائح مسيلمة حتى قتل .
و منهم طليحة بن خويلد خرج بعد دعوى مسيلمة النبوة و تبعه عوام و نزل سميرا فتسمى بذي النون يقول : إن الذي تأتيه يقال له ذو النون .
و كان من كلامه : إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم و لا قبح أدباركم شيئا فأذكروا الله أعفة قياما .
و من قرآنه : و الحمام و اليمام و الصراد الصوام ليبلغن ملكنا العراق و الشام .
تبعه عيينة بن حصين فقاتله خالد بن الوليد .
فجاء عيينة إلى طليحة فقال : و يحك أجاءك الملك ؟ قال : لا فارجع فقاتل فقاتل .
ثم عاد فقال : أجاءك ؟ فقال : فقال : لا فعاد فقاتل .
ثم عاد فقال : أجاءك ؟ قال : نعم .
قال : ما قال لك ؟ قال : قال إن لك جيشا لا تنساه .
فصاح عيينة : الرجل ـ و الله ـ كذاب .
فانصرف الناس منهزمين و هرب طليحة إلى الشام ثم أسلم وصح إسلامه و قتل بنهاوند .
و ذكر الواقدي : أن رجلا من بني يربوع يقال له جندب بن كلثوم كان يلقب كردانا إدعى النبوة على رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان يزعم أن دليله على نبوته أنه يسرج مسامير الحديد و الطين و هذا لأنه كان يطلي ذلك بدهن البيلسان فتعمل فيه النار .
و قد تنبأ رجل يقال له كهمش الكلابي كان يزعم أن الله تعالى أوحى إليه : [ يا أيها الجائع إشرب لبنا تشبع و لا تضرب الذي لا ينفع فإنه ليس بمقنع ] .
و زعم أن دليله على نبوته أنه يطرح بين السباع الضارية فلا تأكله وحيلته في ذلك أنه يأخذ دهن الغار و حجر البرسان و قنفدا محرقا و زيد البحر و صدفا محرقا مسحوقا و شيئا من الصبر الحبط فيطلي به جسمه فإذا قربت منه السباع فشمت تلك الأرياح و زفورتها نفرت .
و تنبأ بالطائف رجل يقال له أبو جعوانة العامري و زعم أن دليله أنه يطرح النار في القطن فلا يحترق و هذا لأنه يدهنه بدهن معروف .
و منهم هذيل بن يعفور من بني سعد بن زهير حكى عنه الأصمعي أنمه عارض سورة الإخلاص فقال : قل هو الله أحد إله كالأسد جالس على الرصد لا يفوته أحد .
و منهم هذيل بن واسع كان يزعم أنه من ولد النابغة الذبياني عارض سورة الكوثر فقال له رجل ما قلت ؟ فقال : إنا أعطيناك الجوهر فصل لربك و جاهر فما يردنك إلا كل فاجر .
فظهر عليه السنوري فقتله و صلبه على العمود فعبر عليه الرجل فقال : إنا أعطيناك العمود فصل لربك من قعود بلا ركوع و لا سجود فما أراك تعود .
و ممن ظهر فإدعى أنه يوحى إليه المختار بن أبي عبيد و كان متخبطا في دعواه و قتل خلقا كثيرا و كان يزعم أنه ينصر الحسين رضوان الله عليه ثم قتل .
و منهم حنظلة بن يزيد الكوفي كان يزعم أن دليل أنه يدخل البيضة في القنينة و يخرجها منها صحيحة ذلك أنه كان ينقع البيضة في الخل الحامض فيلين قشرها ثم يصب ماء في قنينة ثم يدس البيضة فيها فإذا لقيت الماء صلبت .
و قد تنبأ أقوام قبل نبينا صلى الله عليه و سلم كزرادشت و ماني و افتضحوا .
و ما من المدعين إلا من خذل .
و قد جاءت القرامطة بحيل عجيبة و قد ذكرت جمهور هؤلاء و حيلهم في كتابي التاريخ المسمى بالمنتظم و ما فيهم من يتم له أمر إلا و يفتضح .
و دليل صحة نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم أجلى من الشمس .
فإنه ظهر فقيرا و الخلق أعداؤه فوعد بالملك فملك و أخبر بما سيكون فكان و صين من زمن النبوة عن الشره و خساسة الهمة و الكذب و الكبر .
و أيد بالثقة و الأمانة و النزاهة و العفة و ظهرت معجزاته للبعيد و القريب .
و أنزل عليه الكتاب العزيز الذي حارت فيه عقول الفصحاء و لم يقدروا على الإتيان بآية تشبهه فضلا عن سورة .
و قد قال قائلهم و افتضح ثم أخبر أنه لا يعارض فيه كما قال و ذلك قوله تعالى : { فاتوا بسورة } ثم قال : { فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا } و كذلك قوله : { فتمنوا الموت } { و لن يتمنوه } فما تمناه أحد .
إذا لو قال قائل : قد تمنيته لبطلت دعواه .
و كان يقول ليلة غزاة بدر : [ غدا مصرح فلان ههنا فلا يتعداه ] .
و قال : [ إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده و إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده فما ملك بعدهما من كان له كبير قدر و لا من إستتب له حال ] .
و من أعظم دليل على صدقه أنه لم يرد الدنيا فكان يبيت جائعا و يؤثر إذا وجد و يلبس الصوف و يقوم الليل .
و إنما تطلب النواميس لاجتلاب الشهوات فلما لم يردها دل على أنه يدل على الآخرة التي هي حق .
ثم لم يزل دينه حتى عم الدنيا و إن كان الكفر في زوايا الأرض إلا أنه مخذول .
و صار في تابعيه من أمته الفقهاء الذين لو سمع كلامهم الأنبياء القدماء تحيروا في حسن إستخراجهم و الزهاد الذين لو رآهم الرهبان تحيروا في صدق زهدهم و الفطناء الذين لا نظير لم في القدماء .
أو ليس قوم موسى يعبدون بقرة و يتوقفون في ذبح بقرة و يعبرون البحر ثم يقولون : إجعل لنا إلها ؟ .
و قوم عيسى يدخرون من المائدة و قد نهوا .
و المعتدون في السبت يعصون الله لأجل الحيتان .
و أمتنا بحمد الله تعالى سليمة من هذه الأشياء و إنما في بعضا ميل إلى الشهوات المنهي عنها و ذلك من الفروع لا من الأصول .
فإذا ذكروا بكوا و ندموا على تفريطهم .
فنحمد الله على هذا الدين و على أننا من أمة هذا الرسول صلى الله عليه و سلم .
و قد كان جماعة من المتصنعين بالزهد مالوا إلى طلب الدنيا و الرياسة فإستغواهم الهوى فخرقوا بإظهار ما يشبه الكرامات كالحلاج و ابن الشاش و غيرهما ممن ذكرت حال تلبيسه في كتاب تلبيس إبليس .
و إنما فعلوا ذلك لاختلاف أغراضهم و لم يزل الله ينشىء في هذا الدين من الفقهاء من يظهر ما أخفاه القاصرون .
كما ينشىء من علماء الحديث من يهتك ما أشاعه الواضعون حفظا لهذا الدين و دفعا للشبهات عنه .
فلا يزال الفقيه و المحدث يظهران عوار كل ملبس بوضع حديث أو بإظهار دعوى تزهد و تنميس فلا يؤثر ما إدعياه إلا عند جاهل بعيد من العلم و العمل .
{ ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون }